موقع السؤال في الحراك الفكري القرآني

مشتاق موسى اللواتي

إن الدارس للقرآن الكريم، يلاحظ أن السؤال يحظى بأهمية متميزة في الحراك الفكري الذي أنجزه القرآن الكريم. وقد واجه القرآن الإنسان بالعديد من الأسئلة في شتى النواحي الفكرية والاجتماعية والتاريخية بهدف تنشيط الذهن واستثارة العقل البشري وتحفيزه للتفكير والبحث والتأمل في قضايا المبدأ والمعاد والطبيعة والمجتمع.

  والسؤال في إحدى تجلياته الإنسانية يمثل حالة التأمل والحوار الداخلي والقلق الفكري.  وربما دلل على وجود عقل يفكر ويحلل ويبحث عن العلل والعلاقات بين الظواهر المختلفة التي يشاهدها.

وتتعدد الأسئلة تبعا لوظائفها، فمن الأسئلة ما تكون للإستعلام والإستفهام، وقد تكون للإستنكار والاحتجاج، ومنها ما يكون للإثارة والتحفيز.  والقرآن الكريم يعلي من شأن التفكير المرتكز على النظر العقلي لأجل الوصول إلى الحقائق الكونية، فهويحث على التفكر والتدبر في كتاب الطبيعة المفتوح، لإستنطاقه بحثا عن إجابات مقنعة للأسئلة التي رافقت الإنسان منذ اليوم الأول من مسيرته.

(الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)آل عمران/191

 ويدعو الإنسان لمزيد من التوغل في الآفاق والغور في أعماق النفس لتلمس آيات الله المودعة فيهما والشاهدة على الإبداع والتناسق والتجانس بين جنباتها. (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).فصلت/53

 ويوجه القرآن الكريم على السير في الأرض لاستطلاع أوضاع الأمم السابقة ودراسة الحضارات والمدنيات التي تعاقبت  على الأرض، وقراءة التاريخ والتدبر فيه واكتشاف السنن والقوانين الحاكمة على العمران والإجتماع البشري، وأسباب الصعود والهبوط والعلو والانحدار وعوامل النجاح والإخفاق  التي مرت بها البشرية في مختلف مراحلها وأدوارها. (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)آل عمران/137

(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها، وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)الروم/9

لقد طرح القرآن أسئلة مصيرية، حول خالق الكون ومدبره، وحول الحياة والموت والبعث، وحول الإنسان والطبيعة وعلاقة أحدهما بالآخر، لإرشاد الإنسان إلى حقائق الكون وهدفية الحياة.

 (أولم ير الذين كفروا ان السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيئ حي، أفلا يؤمنون) ؟الأنبياء/3

(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة)العنكبوت/20

(قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) ؟ الأحقاف /4

 (أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت، والى الجبال كيف نصبت، والى الأرض كيف سطحت) الغاشية /17-20، (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه ام نحن الخالقون)الواقعة /59

(أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) الواقعة /69

 (أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) الواقعة /72

(أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) يس/81

(أفمن يخلق كما لا يخلق أفلا تذكرون)النمل/ 17

 (أم خلقوا من غير شئ ام هم الخالقون)الطور / 35

 (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) العمران/66.

والقرآن الكريم يعمق منهج البحث المستند على الملاحظة والنظر والتفكر ليتوصل الإنسان بعد مشوار البحث إلى تطابق الحقائق في كتاب الله التكويني وكتابه التدويني. يقول سبحانه (قل لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء/82 ويقول (الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير) الملك /4.

وعليه فان أي تعارض يتبدى بينهما فمرجعه الى وجود خلل في مناهج البحث أو أساليب الاجتهاد وأدوات التفكير.

والسؤال هو احد الأدوات المتاحة أمام الانسان لاكتشاف المجهول واكتساب المعرفة. والواقع  ان الفضول العلمي هونوع سؤال، والتجربة في بعض وجوهها محاولة للإجابة على سؤال.

والسؤال كثيرا ما يحفز الى إعمال التفكير ويقود إلى المراجعة وقد يكون بمثابة "عصف ذهني" يدفع إلى التأمل وينبه المرء من غفلة طويلة وسبات عميق. ولهذا واجه الأنبياء عليهم السلام، أممهم بعدد من الأسئلة على ما اعتادوه وألفوه من ممارسات وطقوس دينية توارثوها كابرا عن كابر وطبقوها من دون تمحيص..يقول سبحانه وتعالى (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ؟ قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون ؟ أو ينفعونكم أو يضرون ؟ قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)الشعراء/69-74

وإذا كانت غاية السؤال هي إكتساب مزيد من العلم والمعرفة، فمن الطبيعي أن يوجه الى أهل العلم والبصيرة لا إلى من تلبس بالشعوذة والخرافة،أو غرق في متاهات الشبهة أو درج على اجترار تراث الأقدمين دون تدقيق أو تمحيص، يقول تعالى (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون)الأنبياء/7

لقد استنكر القرآن الكريم على الأمم السابقة التي كانت تتشبث بتراث الأسلاف على الرغم من انه كان يعيق مسيرتها نحو التقدم ويفرض عليها الجمود الفكري والتخلف الإجتماعي، ويقودها إلى رفض رسالات السماء دون بحث أو مقارنة بينها وبين موروثها الثقافي ودونما تشخيص للصالح والفاسد منها.  يقول سبحانه (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لايعقلون شيئا ولا يهتدون)؟ البقرة/170

 (قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم)؟الزخرف/24

وقد خلد القرآن الكريم بين دفتيه نماذج من الأسئلة التي طرحت على الرسول الكريم (ص) في مختلف القضايا الفكرية والتشريعية ولأغراض ودوافع شتى. وقد عرضها القرآن في مواضع متعددة، أكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها.

لقد صدر اثني عشر منها بفعل" يسألونك " واثنين منها بـ"يستفتونك" وسؤالين أحدهما بـ"يستنبؤنك" والآخر بـ"يسألك الناس" وهذه الأسئلة هي على النحوالتالي:

1-   (يسألونك:عن الروح، عن الساعة، عن ذي القرنين، عن الجبال، عن الأهلة، عن المحيض، ماذا أحل لكم، عن الخمر والميسر، عن اليتامى، ماذا ينفقون، عن الأنفال، عن الشهر الحرام قتال فيه).

2-   (يستفتونك: قل الله يفتيكم في الكلالة، ويستفتونك في النساء: قل الله يفتيكم).

3-   (يستنبؤنك: أحق هو"البعث").

4-   (يسألك الناس: عن الساعة).

ويلاحظ عليها أنها شملت جوانب متنوعة عقدية وتشريعية وطبيعية وتاريخية.  وقد تكرر السؤال حول بعض الأغراض كما عن الساعة والإنفاق. وهناك لفتة مهمة لاتخفى على الدارس، وهي أن جل الآيات الكريمات التي تضمنت الأسئلة المذكورة حملت في نفس الوقت توجيها الى النبي (ص) بأن يتولى الإجابة عليها، بصرف النظر عن دوافعها، حيث تصدر التوجيه الإلهي بفعل أمر " قل أو فقل". ولم يشأ القرآن الكريم إهمال تلكم الأسئلة أو تركها لذاكرة التاريخ، بل وثقها وحفظها في آياته، الأمر الذي يرشدنا إلى الاعتناء بالسؤال الباحث عن المعرفة، وكذلك عدم إغفال السؤال المثير للإشكال، ومن ثم على أهمية الاجابة على أسئلة الأجيال في كل عصر. بل ذهب القرآن الكريم في هذا السياق، أعني تجاوبه مع الأسئلة الانسانية، الى مدى أبعد، فأعلن بصراحة، مشروعية الأسئلة المباشرة المتعلقة بالله سبحانه وتعالى وبصفاته، يقول سبحانه(واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) البقرة /186، وقد ورد في سبب نزولها كما عن ابن جرير وغيره قال: جاء اعرابي الى النبي(ص) فقال أقريب ربنا!

 فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ وفي رواية أخرى سأل أصحاب النبي (ص) أين ربنا ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى الآية (واذا سألك). وورد في الكافي للكليني، في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) جاء رجل إلى النبي (ص) فقال :يا رسول الله إني هلكت. فقال(ص) له: أتاك الخبيث، فقال لك : من خلقك. فقلت الله تعالى. فقال :الله من خلقه ؟فقال أي والذي بعثك بالحق، قال كذا. فقال (ص) ذاك والله محض الإيمان " وسواء قيل ان مدحه (ص) عائد إلى الرجل لشدة حرصه وخوفه على إيمانه أو لكون ذلك بداية لتفكير جدي قد يوصل المرء إلى المعرفة الإيمانية الصحيحة، فإن الذي يسترعي النظر، ان النبي (ص) لم يتعامل مع الرجل بأسلوب الزجر أو النهر لطرحه هذا السؤال الإشكالي.

واتساقا مع النهج التربوي القرآني، فان القرآن الكريم في ذات الوقت، دعا الى تجنب الأسئلة التي لا فائدة من ورائها أوتلك التي تتعلق بخصوصيات الناس، يقول تعالى(يا أيها الذين آمنوا لاتسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسئكم) المائدة/101 كما أن القرآن الكريم لا يشجع على  طرح أسئلة ترفية تستهلك الجهود وتستنزف العقول دونما نتيجة مفيدة، من قبيل التنقيب عن الأمور الغيبية التي استأثر الله تعالى بها، كتوقيت يوم القيامة.

يقول سبحانه وتعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها، الى ربك منتهاها، انما انت منذر من يغشاها) النازعات /42-44 ويقول في آية اخرى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل علمها عند ربي لايجليلها لوقتها الا هوثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة، يسألونك كأنك حفي عنها، قل إنما علمها عند ربي) الأعراف/187 وبكل صراحة يضع القرآن حدا لهذا النوع من الأسئلة حتى لا يشغل الناس بها، اذ ليس من وظيفة النبي (ص) أن يتحدث عن هذه القضايا.

إن وظيفته في هذا السياق هي الانذار فهومنذر من يغشاها. كذلك الحال بالنسبة للأسئلة التي تهدف إلى التعجيز والمكابرة بطلب تحقق مزيج من الأمور الممكنة والممتنعة.

يقول سبحانه (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أوتكون لك جنة من نخيل وأعناب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أتسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أوتاتي بالله والملائكة قبيلا أيكون لك بيت من زخرف أترقى في السماء ولن نؤمن برقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه)الإسراء/90-92 وعلى الفور جاء الرد القرآني الحاسم موجها النبي (ص): (قل سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا) الاسراء/93.

فالنبي (ص) بشر يوحى اليه كما أكد القرآن على ذلك مرارا فليس من وظيفته ان يستجيب لرغبات الناس بل ليس من مقدوره أن يحقق لهم ما هو ممكن من تلك الأمور التي طالبوا بها الا بإذن الله سبحانه. يقول تعالى (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) الرعد/38

إن اهتمام القرآن الكريم بأسئلة أولئك الذين عاصروا الرسول (ص) يستبطن رسالة الى حملة العلم والفقه مفادها: لاتضيقوا على السؤال ولا تحجروا على صاحبه ولا تكمموا فمه ولا توقفوا قلمه،  وان بدا لكم سؤاله بسيطا أو ساذجا، طالما كان يبحث عن الحقيقة. ان السؤال قد يفتح أفقا جديدا أمام الباحثين والدارسين وقد يكون سببا في تحريك المياه الراكدة والأوضاع الساكنة الجامدة سواء على صعيد الفكر أو المجتمع.

* كاتب من عمان

almushtaq1@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية- االاربعاء  16/تموز/2008 - 12/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م