الهمَ الثقافي أم السياسي؟

محمد علي جواد تقي

نشهد هروباً جماعياً جديداً لكن ليس على شاكلة الهروب من النسف والموت بالسيارات او الاحزمة والعبوات، ولا هو على شاكلة الهروب من الحر العراقي اللاهب دون كهرباء ولا حتى مثل هروب طلبة المدارس من قاعات الدرس الى العطلة الصيفية؛ انه هروب كبير للناس من المياه الاقليمية الى اعماق البحار، حيث العالم (عالم البقاء) بألوان زاهية متنوعة والحياة فيها تعج بالحيوية والاثارة والابداع.

فمن السهل جداً ملاحظة الانجذاب الى كل ما هو جديد وجميل وهو حق مشروع لكل انسان وقد اقره لنا الاسلام وحببه إلينا، بل ذهب الى ابعد من ذلك عندما أدان المخالف وهو ما جاء على لسان امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ حيث قال: (من تساوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه افضل من غده فهو ملعون)! وهنا حدد الامام علي ـ عليه السلام ـ هوية اليوم الجديد الذي يطل على الانسان دائماً بان يكون الافضل والاحسن.

 لكن ما هو الافضل والاحسن وما هي معاييره في هذا الزمن؟! فالجالس قبالة الشاشة الصغيرة مع افراد عائلته يعتقد انه يبحث عن الافضل والأجد حتى وان كان فيلماً سينمائياً او مسلسلاً تلفزيونياً يقدم نماذج تربوية منافية للدين والفطرة على طبق من ذهب، ويعتقد الشيء نفسه من يتجول بين الكتب والمطبوعات المختلفة حتى وان تناول افكاراً تجعله يفقد ذاكرته الاجتماعية والقيمية وتدفعه للهيام وحده في هذه الحياة ليفعل مايشاء دون حسيب ورقيب.

طبعاً لا نلوم اصحاب الجديد في عالم الثقافة والفن في العالم باي حال من الاحوال لان وما يقومون به شأنهم الخاص، كما لنا شأننا الخاص عندما نفتح الدورات الصيفية لطلبة المدارس ومحافل تعليم القرآن الكريم ودورات مهنية وورشات عمل وغيرها هذا الى جانب التنافس ما امكن على تطوير الشاشة الصغيرة.

 ومن نافلة القول في هذا الخصوص ما من تأكد بالدليل القاطع من ان محاضرات دينية خالية من اللقطات المثيرة كالتي كان يلقيها الفقيد الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي، يمكن ان تجيش العواطف وتُعبئ النفوس حول جنازته في ذلك التشييع المهيب في كربلاء المقدسة.

إن واقع المجتمع العراقي المتصل بجذوره الدينية العميقة يطالب بالجديد والجميل لما في يديه من تراث وقيم ونمط خاص من الحياة، ولذا نجده لا يحفل كثيراً بالجديد في عالم السياسة حتى وان كان مثقلاً بالشعارات والوعود، لسبب واحد هو عجز الخائضين في هذا العالم والبحر المتلاطم عن ترجمة مشاعر الناس وطموحاتهم فباتوا وحيدين يصولون ويجولون بين أروقة الحكم داخل الدوائر الرسمية او على متن مركباتهم المدرعة المحاطة بالحراس المدججين بالسلاح، فيا حبذا لو حمل المسؤولون سواء في السلطة التنفيذية او التشريعية الهم الثقافي كما يتجشمون عناء حمل الهم السياسي بل ويطلبون من الناس مساعدتهم على هذه المهمة!،

 ولا اعتقد انهم يجهلون ما للثقافة من دور اساس في البنية التحتية لكل شعب وامة قبل ان يكسو هيكلها الثقافي الظاهر السياسي، حتى لا يشمت بنا الاعداء ويكرروا المقولة بان في بلدانكم الشرطي قادر على اغلاق مطبعة كاملة اما في الغرب فان كاتباً واحداً بامكانه الاطاحة برئيس وزراء!

شبكة النبأ المعلوماتية- االسبت  12/تموز/2008 - 8/رجب/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م