لقد شهد العالم في القرن الفائت أحداثا وتطورات كبيرة أدت إلى
إحداث تغيرات جوهرية، انتهت إلى سقوط الإتحاد السوفياتي السابق،
وأفول نجم الماركسية وتراجع التخطيط المركزي في الإقتصاد، وبروز
نظام القطب الواحد في العالم ورواج الرأسمالية الغربية وآليات
إقتصاد السوق والليبرالية الغربية.
لقد ظل مفكرو الماركسية لما يزيد على نصف قرن يبشرون العالم
بمجيء اليوم الذي سوف تتوقف فيه عجلة التاريخ عند ولوجه المرحلة
الشيوعية، وهي آخر مرحلة من مراحل الصراع الطبقي حسب الفلسفة
الماركسية الديالكتيكية.وبعد تراجع الماركسية وانهيار الإتحاد
السوفياتي، ظهرت مقولات مماثلة من مفكرين غربيين وتعالت هتافاتهم
وهم في أوج مشاعر النشوة والزهو لانتصار الرأسمالية والليبرالية
الغربية على خصمها اللدود. فلم يتمالكوا أنفسهم أن اعتبروا ذلك،
ذروة التقدم في المسيرة الإنسانية ونهاية للتاريخ حسب تعبير
فوكوياما، وبداية لمرحلة تالية من صدام الثقافات وصراع الحضارات
كما رأى صموئيل هنتنجتون.
واللافت للنظر أنه بعد ان كانت الماركسية تعول في تحقيق
تطلعاتها على آليات تأجيج الصراع الطبقي للوصول في نهاية المطاف
إلى مرحلة الشيوعية العالمية، مرورا بمرحلة تسودها طبقة
البروليتاريا. في المقابل أخذ بعض منظري الليبرالية الغربية يدعون
إلى خلق وتأجيج صراعات دينية وطائفية وإثنية وثقافية لإحكام مزيد
من الهيمنة على العالم. وكيف ما كان فعلى الرغم من سكون حدة هذه
النبرة إلى حد ما في مرحلة الرئاسة الثانية للرئيس بوش،ولأسباب
باتت معروفة لدى الجميع، إلا ان مفاعيلها الميدانية لاتزال قائمة
تحت مسمى محاربة الإرهاب - بمفهومه العائم - ونشر الديمقراطية وإلى
جانب ذلك، هناك أصوات وآراء غربية متباينة ولها نظرة مختلفة.
فالكاتب John Gary في كتابه Endgame يرى ان مشروع التقدم نحو
الحضارة الكونية سواء الليبرالية الجديدة او الديمقراطية
الاجتماعية او عولمة السوق كلها صور ليوتوبيا حديثة كحضارة كونية
تدفع بالاختلافات الثقافية الى الهامش. ويرد على الذين اعتقدوا بان
النموذج الغربي هو النموذج الوحيد لدخول العصر الحديث، وأن الحداثة
الغربية هي المصير النهائي للبشرية، بأن هذه النظرة أبعد من ان
تساعدنا على وضع اسس لعالم تتعايش في ظله الثقافات المختلفة في
سلام.
ومهما تباينت هذه الآراء فان الحقيقة الماثلة امام العالم تكمن
في التطور العلمي والتكنولوجي الهائل والقفزة التي تحققت في مجال
تقنيات الاتصال وثورة المعلومات وما رافقها من تسارع الدول
نحوالانخراط في المنظمات العالمية وتوقيع الاتفاقيات متعددة
الجنسيات، لتؤكد على ان العالم فعلا بدأ في الولوج في مرحلة جديدة
تختصر فيها المسافات وتخترق فيها الحدود ويصبح التواصل والانفتاح
واقعا ملموسا بحيث تحققت - على أقل تقدير- بعض مظاهر ما يسمى
بالقرية الكونية !.
ولكن في المقابل يجب ان لايفوتنا ان التغييرات المقبلة مهما
تسارعت وتيرتها، فلا تزال هناك مساحات غير قليلة من اقطار العالم
ترزح تحت وطأة الفقر والأمية والمرض، وبالتالي لا يتاح لها مواكبة
هذه التحولات والتعامل مع وسائلها وتقنياتها، مما يعني ان ثمة
عقبات تواجهها لكي تحظى على عضوية كاملة في القرية الموعودة. إلا
إذا قيل ان مصير تلك الشعوب سيكون التهميش أوالإقصاء من العالم
المعولم،وذلك في ضوء تبني الداروينية البايلوجية القاضية بصراع
الانواع والبقاء للاقوى وتحكيمه في الساحة الاجتماعية، أو ما يعرف
بالداروينية الإجتماعية ! ولكن مع ذلك ففي النتيجة سيكون هناك شكل
من أشكال التنوع والتعدد في العالم بكل تداعياته وإفرازاته -على
الاقل - الى حين، خصوصا ان عملية الانتخاب الطبيعي في الداروينية
هي عملية مستمرة ولا تتم هي الاخرى دفعة واحدة، رغم وجود الطفرات
في بعض مراحلها.
ان التحديات والتحولات التي تفرضها العولمة جديرة بالدراسة
والعناية من قبل المفكرين والباحثين العرب والمسلمين.
ومما لا شك فيه، أن هناك اهتمام ملحوظ ومجهودات ملموسة تبذل في
عدد من الدول العربية للتواكب مع عصر العولمة عبر مد الشبكات
العنكبوتية ونشر الفضائيات ووسائل الإتصال. وتبذل بعض الدول مساع
حثيثة نحو وضع السياسات والبرامج بغية الإنخراط فيما يعرف بالحكومة
الالكترونية وتعمل جاهدة لإصدار اللوائح القانونية لضبط التعاملات
الإلكترونية. وهي مجهودات مطلوبة ومقدرة.
أما على المستوى الاقتصادي فقد سعت عدد من الدول العربية
وغيرها للدخول في عضوية منظمة التجارة العالمية وأصدرت مجموعة من
القوانين للإستجابة لمتطلباتها في مجال التعرفة الجمركية وإزالة
الحمائية وإلغاء الأفضليات وأشكال الدعم المباشر للمنتجات المحلية
والوطنية،وأعدت برامج الخصخصة وفتحت أسواقها لمختلف البضائع
والمنتجات واتجهت نحو اتباع آليات السوق طبقا لقواعد العرض والطلب
ومبادئ التنافسية وما إلى ذلك.
ولكن الذي يلزم الإلتفات إليه، هوان آثار' العولمة الشاملة '
وانعكاساتها لا تقف عند الإقتصاد، بل تتجاوزه لتشمل جميع المناشط
الحياتية السياسية والإجتماعية والثقافية. وعليه فإن السؤال الذي
يفرض نفسه هو: ماذا تم إنجازه في الأصعدة الأخرى ؟ ما هي السياسات
والبرامج التي وضعت لحماية الهوية الثقافية العربية وتعزيز
الإنتماء العربي والإسلامي لدى الناشئة والأجيال العربية القادمة؟
إن أنساق العلاقات الأسرية والإجتماعية ومنظومة القيم الدينية
والحياتية العربية الإسلامية معرضة لاختراقات العولمة. ومع ذلك
فإننا نشهد لهاثا غريبا في بعض أرجاء العالم العربي نحو تعليم مواد
العلوم التطبيقية باللغة الأجنبية، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في
مزيد من تهميش اللغة العربية لدى الأجيال القادمة. كما ان الإعلام
العربي لا يزال مستغرقا في محاكاة وعرض المنتجات الغربية دونما
إلتفات إلى تأثيراتها السلبية على المفاهيم الثقافية والأنماط
السلوكية.
وفي المقابل أطلقت بعض الدول الغربية، مثل فرنسا وألمانيا وكذلك
كندا صيحات تحذيرية من جراء الإختراق الثقافي الأمريكي لثقافاتها،
والذي تمثل في عدم تكافؤ الأعمال الثقافية والفنية التي تعرضها
وسائلها الإعلامية، على الرغم من القواسم المشتركة الكثيرة
الفلسفية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية بينها، واتخذت كل من
فرنسا وألمانيا حزمة من الإجراءات والتدابير للمحافظة على سلامة
لغتيهما على المدى البعيد.
من جهة أخرى، يتساءل المرء ما الذي أنجزه العالم العربي في مجال
حقوق الإنسان ومنح الحريات وتفعيل مفاهيم المواطنة وسيادة القانون
وتوسيع المشاركة الشعبية في الشأن السياسي وعموم الشأن العام ؟
ماذا تم تحقيقه في مجال استقلال القضاء ونزاهته وترسيخ مبدأ
الرقابة والمساءلة للأجهزة التنفيذية وما شابه ؟
بعد مرور عدة عقود على بروز العولمة فإن الوقت قد حان لوقفة
تأمل، بل لمشروع تقييمي وتقويمي على مختلف المستويات السياسية
والإقتصادية والإجتماعية والثقافية. لا بد من إجراء مراجعات لما تم
إنجازه وتحديد مواطن النجاح والإخفاق بغية تداركها. لقد بات ضروريا
إجراء تغييرات مهمة ومؤثرة في مناهج التفكير والتعليم والثقافة.
ففي مجال التعليم، من المفترض أن لا يقف التغيير المطلوب عند
بعض النواحي الشكلية بل يجب أن يطال فلسفات التربية وأهداف التعليم
والمناهج والمقررات التعليمية وإدارات وطرائق التعليم. لم تعد
أساليب التلقين وحشو الرؤوس بكم كبير من النظريات والمعادلات
مقبولا، ولم يعد دور الطالب يقتصر على التلقي السلبي للمعلومات
وحفظها وتكرارها واستظهارها عند الإختبار. فلا بد من تبني أساليب
تعليمية مبتكرة تعتمد على مبادئ التعلم الذاتي والعصف الذهني
وإكساب الطلبة مهارات الإبداع والإبتكار وتنمية مهارات التفكير
وآليات البحث لديهم.
كما لا يكفي مجرد إدخال بعض المواد المتعلقة بالحاسوب أو زيادة
بعض الساعات الدراسية للغة الأجنبية للتكيف مع متطلبات العولمة.
أما من ناحية تعميق الإنتماء للهوية العربية الإسلامية، فلا بد
من تطوير أساليب تعليم اللغة العربية وآدابها وتشويق الطلبة إليها
وإظهار مواطن القوة والجمال فيها. كذلك الحال بالنسبة لمقررات
التربية الإسلامية التي يفترض أن تركز على المبادئ العقدية
والتشريعية ومقاصدها المجمع عليها والقيم الأخلاقية المشتركة بين
المسلمين، مما يؤكد الإنتماء العربي الإسلامي لدى الطلبة ويعزز
مفهوم الوحدة الوطنية لديهم. ومن الضرورة بمكان تنقية المناهج من
كل ما يتعارض مع هذه المبادئ والأهداف.
أما بالنسبة للإجتهاد الإسلامي، فيكفي أن نستذكر هنا بعض ما
طالب به بإلحاح شديد، بعض أهل الفقه والفكر من المسلمين،وهو ضرورة
التجديد المنضبط في مناهج البحث والإستنباط وإجراء مراجعات على
النتاجات الأصولية والفقهية المتراكمة عبر التاريخ وإعادة قراءتها
والإفادة منها بقدر إستجابتها لمتطلبات العصر وعدم الجمود على
مناهج الإجتهاد وأدوات التفكير والتحلي لدى السالفين.
بالإضافة إلى أهمية أن يتابع الفقهاء المعاصرون عن كثب مجريات
الحوادث الواقعة ويستوعبوا المستجدات ويرصدوا التحديات والأسئلة
التي يعرضها الواقع الإجتماعي المتغير، الأمر الذي من شأنه أن ينتج
فقها حيا مستندا على فهم عميق للنص وأبعاده، وإستيعاب لمتغيرات
الزمان والمكان، من المنظور الإجتماعي الحضاري. ومن البداهة بمكان،
ان هذا يفوق إمكانيات وطاقات فقهاء أفراد، بل يستدعي عملا مؤسسيا
يمكنه إنجاز بعض من تلك التمنيات والطموحات.
إننا في مسيس الحاجة إلى تضافر الجهود للقيام بدراسات ومراجعات
لما تم إنجازه وما يستدعي فعله لتعظيم الفرص المتاحة لنا وفي كيفية
إستثمارها، والتقليل من الأضرار والسلبيات التي تنتجها العولمة في
مختلف النواحي الحياتية. فلا يكفي مجرد إطلاق نداءات لتحقيق عولمة
أكثر إنسانية في العالم. |