كتب الكاتب القدير الدكتور شاكر النابلسي مقالا تحت عنوان "
لماذا كل هذا الفزع من المعاهدة الأمريكية العراقية" في موقع أخبار
وفي الحوار المتمدن وبعض الشبكات الأخرى في 21/06/2008م. أثار
العنوان استغرابي ودهشتي وجعلني أقفز بين السطور للإطلاع على
التفاصيل التي وجدتها تختلف تماما عن طبيعة المقالات التي قرأتها
سابقا للكاتب والتي تتسم عادة بالحجة القوية وبميزة الإقناع.
ينتقد الكاتب في مقاله هذا الكتاب العرب الذين أنتقدوا
الإتفاقية وشجبوها ويصفهم بالموالين للحلف الرباعي (سوريا، إيران،
حزب الله، حماس)،وهم انفسهم قد روّجوا للإرهاب في العراق، كما
يستغرب من صمتهم على إتفاقيات عسكرية وستراتيجية كانت قد أبرمت
سابقا بين بلدان عربية و دول عظمى كالإتحاد السوفييتي سابقا وفرنسا
وأمريكا وغيرها. ويتساءل مع نفسه ويقول : كيف إستطاع هؤلاء الكتّاب
أن يعرفوا فحوى إتفاقية لم تعلن بعد!؟ وهل ستحصل نفس الضجة لو وقعت
مثل هذه الإتفاقية مع إيران أو سوريا؟.
رغم أني أتحاشى المطارحة الكلامية مع أخوتي الكتاب وأحبذ
التحليل الفكري الحي المجرد عن التحدي والمبارزات إلاّ أنني وكما
قال الشاعر :
شكوت وما الشكوى لمثلي عادة ولكن تفيض الكاس عند إمتلائها
لا أدري كيف نصف من يعارض الإتفاقية الأمريكية - العراقية بأنه
مروّج للإرهاب وموالي للحلف الرباعي!؟. هل عدوى الإصابة بفايروسات
حمى " من هم ليسوا معنا فهم ضدنا " الجورج بوشية قد إنتقلت الى
كتابنا الأعزاء فصاروا يتحدثون بنفس المنطق! هل الكاتب الحريص على
مصلحة وطنه لا يحق له التساؤل والإستفسار عن أمور تجري من وراء
الكواليس لا أحد يعلم بتفاصيلها وهي تهم مستقبل ومصير وطن !؟.
إن لم يكن المثقف هو العين الساهرة على وطنه الذي يمر بأصعب
الظروف وأحلك المحن فمن الذي سيحرس هذا الوطن إذن؟. أم علينا أن
نسلم أمرنا لأمريكا بدون( حيص وبيص) ونترك حكامنا يوقعون على
البياض؟ هل إنقلبت أمريكا مصاصة دماء الشعوب في يوم أمس الى عشيقة
الأرواح والقلوب هذا اليوم؟، فلم يبق لدينا إلاّ أن نأمن لأمريكا
ونثق بها لإنها اليوم أمثولة الإخلاص ونموذج الإنسانية! سبحان مقلب
الأحوال الذي يقلب الأوضاع من حال الى حال! لينظر العالم كيف
إنقلبت أمريكا الى شمعة تحرق نفسها من أجل أن تضيء دروب الآخرين،
والى قديسة وهبت حالها ومالها من أجل سعادة العراقيين! إنها دون شك
تقمصت شخصية الأم تريزا في بلاد الرافدين !؟.
كلمات الكاتب وأقواله عن الأحداث التي يتطرق لها بقلمه أو لسانه
تبقى شاهد للتأريخ عليه فكل كلمة من كلماته هو حكم يشبه حكم القاضي
على الجريمة. فكم هو حساس ذلك الحكم حينما يجرّم القاضي البريء أو
يبرّأ المجرم، فأن حكم الكاتب حساس أيضا لأن لكلامه وقع في قلوب
الناس وتأثير على أفكارهم. كيف يطمئن، كاتبنا العزيز، الناس ومن
ضمنهم المثقفين والكتاب على ماهية هذه المعاهدة السرية وهو يعلم
جيدا بأن التوقيع عليها يجب أن يتم في نهاية الشهر السابع ولا أحد
يدري على ماذا سيجري التوقيع، حتى أكبر السياسيين بل وكافة أعضاء
مجلس البرلمان لا يعرفون بنود هذه الإتفاقية!؟. متى سيناقشها
المناقشون ومتى سيطلع عليها الشعب، متى سيدرسها المحللون ويتداولها
الأخصائيون؟ في نفس يوم توقيعها أم بعد التوقيع بقليل!؟ من له حق
ربط العراق والعراقيين في معاهدات طويلة الأمد لا يعلم أحد فحواها
ومحتواها وأبعادها !؟ أليس هذا الأمر مثيرا للإنتباه والدهشة
والشك، أم أن الدنيا ربيع والجو بديع....!؟
المعاهدات التي وقعت بين الدول التي ذكرها الكاتب لم تكن قد
وقعت تحت ظروف إحتلال ولم تكن مواد المعاهدة طلسم لا يعرف به حتى
الأقربون! كما أن البلدان التي ذكرها الكاتب لم تكن تدعي
الديمقراطية في يوم من الأيام. أما في العراق فالدم قراطية قائمة
على قدم وساق ولله الحمد، اليس لشعب هذا البلد ومثقفيه الحق في
معرفة فحوى معاهدة مصيرية لم تعلن فقراتها له بعد...؟.
أتساءل وبكل إستغراب لماذا نضع كلّ من ينتقد أو يتوجس خيفة على
العراق من الإحتلال الأمريكي في خانة الإرهابيين والصداميين
والصفويين....أليس هناك وسطا محايدا بين عشاق الإرهاب وعبدة
الإحتلال؟ أم إني خيرتك فأختاري ما بين النوم على صدري أو ركضك بين
الأشرار.....أين إذن أبناء العراق الأبرار الأحرار... أين أبناء
حضارة ما بين النهرين...... أين أبناء بابل وسومر وأكد......أين
أبناء الحسين الشهيد.....أين الوطنيون....أين المفكرون.... أين
المثقفون.....لا يوجد أحد منهم اليوم، أم كلهم أصبحوا مع الإحتلال
جالسين!؟
يستدرك الكاتب في مقاله ويقول وبالحرف الواحد " فمن يحمي العراق
من الحريق في هذا الوسط، غير أمريكا، رغم أخطائها القاتلة في
العراق؟". إذن يقرّ الكاتب وبصراحة واضحة بأن أمريكا قد أخطأت في
العراق وأن أخطاءها كانت قاتلة! فبغض النظر عن المرات التي قتل
فيها العراق من جراء الأخطاء الأمريكية، أليس من حق العراقيين بعد
كل هذا أن ينتبهوا ويتابعوا الأحداث بأنفسهم حتى لا تتكرر الأخطاء
القاتلة ؟ وكم روح يحمل العراق كي يبقى قائما....؟ ألا يكفيه أنه
قتل مرات ومرات!!!؟
مرة أخرى نعود الى قميص عثمان فنتهم الذي ليس مع الإحتلال
بالعمالة الى سوريا وإيران!. سوريا بلد شقيق وإيران بلد جار فهما
ليسا كالذي جاء من وراء البحار...العمالة مصطلح نقصد في إستعماله
السياسي التعامل مع الأجنبي وليس مع أخ العرق وأخ الدين. ليس عارا
على العراقيين إن تصافوا وتفاهموا وتعاونوا مع جارهم وشقيقهم ولكن
العار في تسليم أمور البلد لأجنبي يبحث عن مصالحه وطموحاته على
حساب الآخرين وله تأريخ مؤذ ومشين مع قضايا هذا البلد الخاصة
والعامة. هذا جانب ومن جانب آخر لا أفهم صلة الربط بين تحفظ
العراقيين من توقيع معاهدات مشبوهة وطويلة الأمد بعلاقات العراق
الودية مع جيرانه. أم علينا أن نرفع سلاح الموت على كل من لا ترغب
به أمريكا وتريد تصفيته عن الوجود. وهكذا نتحوّل الى ذنب تابع وعبد
مأمور ويبقى الشعب العراقي وقود حروب مع جيرانه! لو كانت سوريا هي
عدو العراق الأوّل فما بال العراقيين وهم بالملايين في ضيافتها !؟
لماذا تركوا الديمقراطية الزاهية وهربوا صوب الدكتاتورية البالية
!؟.
لا أدري ما صلة السيد حسن نصر الله بالموضوع!؟ فقد كثر إستعمال
إسم هذا الرجل من قبل بعض الكتاب وكأنه (خروعة خضرة) في هذه الأيام
! نخيف به كل من يمس الإحتلال من قريب أو بعيد. هل صار حسن نصر
الله عار على العرب!؟. ماذا عمل حسن نصر الله؟ هل أنه أذنب بحق
العروبة لأنه حرر بلاده من الإسرائليين؟ هل أنه خان بلده لأنه كفر
بالطاغوت؟ أم إرتكب الخطأ المشين لأنه صمد أمام أقوى هجمة عسكرية
إسرائيلية معاصرة !؟.
أي أموال سرقها جيران العراق خلال السنوات الخمس الماضية وحسبما
يدعي الكاتب ؟ حتى وأن سرقوا من أموال العراق شيئا فهذا الشيء لا
يقارن بالمليارات المسروقة بسبب الفساد الإداري المستشري بين بعض
المسؤولين في الدولة والذين نصبتهم الإدارة الأمريكية حتى صار
للعراق القدح المعلى بين دول العالم بالسرقات والفساد الإداري. ألم
يطلع الكاتب على التقارير الدولية بهذا الشأن ؟ ألم يسمع بتقارير
لجنة النزاهة العراقية على أقل تقدير ؟
علينا أن نعترف بأن إحتلال أمريكا للعراق رافقه شعور مزدوج في
نفوس العراقيين. فهم من جهة تنفسوا الصعداء بعد أن تخلصوا من كابوس
صدام حسين ولكنهم من جهة أخرى شعروا بتأنيب الضمير بأن يحصل
التغيير على أيدي الأمريكان وليس على أيدي أحرار العراق.
بقي المثقفون الأحرار في موقف حرج وصعب، فأمريكا قد أصبحت شرّ
لا بد منه في الظروف التي خلقتها للعراقيين بنفسها وهذا كثيرا ما
كان يذكرني بقول المتنبي :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بدّ
هذه ظروف حساسة ومحرجة في تأريخ العراق، علينا أن لا نتناساها
ولكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن نبيع الوطن والشرف والضمير
للمحتل ونتمسك به الى أبد آبدين. علينا اليوم أن نشكر الأمريكيين
وندعوهم للرحيل وبأسرع وقت ممكن، لا أن نقيم قواعد دائمية لهم. فلا
خير فينا من أمة تختبأ وراء محتل خشية من شعبها وأبنائها.
في العراق حصلت إنقلابات وإنقلابات، لم يحتاج المنقلبون الى
التخفي وراء الأجنبي لحمايتهم. كان الأمن والإستقرار يحصل بعد
الساعات الأولى لقراءة بيان الإنقلاب...فما الذي حصل في هذا
الإنقلاب!؟.
يدرج الكاتب مقتطفات عن مسودة هذه الإتفاقية وكل الذي ذكره جيد
ولطيف بل (خوخ ورمان) فهنيئا للشعب العراقي هذه الإتفاقية التي لا
يبدو من خلال كل ما ذكر إلاّ الخير والبركة لهذا الشعب المألوم.
فهل حقا هذه الإتفاقية لا تحوي إلاّ النور والسرور وكلها على شاكلة
المقتطفات التي ذكرها الكاتب، أم أن هناك حزام ناسف مخبأ لا يدركه
الناظرون ولم يطلع عليه كاتبنا القدير حتى هذه الساعة!؟. إن خلت
هذه الإتفاقية من بنود مشبوهة كوضع قواعد عسكرية أمريكية طويلة
الأمد وعديدة على التراب العراقي أو تخلو من بنود ترهن موارد
العراق الطبيعية الى أجل طويل..... عندها سأمزق أوراقي
وأعتذر.....! |