شبكة النبأ: يعترف الجميع ما لرجال الدين من الأثر البالغ
الأهمية في توجيه وتوحيد الأمم، مهما كانت عقيدتها وتوجهاتها أو
تطلعاتها، بغض النظر عن ما تؤمن به أو تتبناه من فكر.
كما ويبقى هذا التوحيد؛ أي توحيد كان، مقترنا بشروط وظروف
يحددهما الواقع والمناخ الطاغي والسائد آنذاك. في لحظة انصهار
المجتمع في مسألته ثم إفاضته إلى الوحدة الكلية لتحديد منطلقات
العمل وفق الصيرورة التي تحددها المرحلة.
والتوحيد في المعيار الاجتماعي هو الإجماع المطلق فيما يخص
مسألة، أو عدة مسائل، مهمة تحدد مصير الجماعة، الأغلبية منها
والمتباينة، متناسين في ذلك ما للفرد من علاقة خاصة مرتهنة
بالواقع الآني الذي تعيشه الأمة لحظة التوحد هذه.
وربما يجدر الإشارة إلى العديد من الأسماء التي برزت على
المستوى العربي والعالمي والتي كان لها الدور المهم والريادي في
إجماع الكلمة ورص الصفوف، نحو القضايا المصيرية التي تتعلق
بالإنسان. والكثير من هذه الشخصيات، رغم دعوتها المستمرة، وتسليط
الإعلام أضوائه عليها، كانت وما تزال تحفر في محيط واحد، وتتحرك في
أفق ومربع واحد.
ذلك ان الشغل الشاغل لها هي جماعاتها، رغم قولها بالتوحد بين
ثنايا الصف، من ثم إقصاء الآخر ما لو أختلف معها، دورا وممارسة
ومضمونا، وهذا ما يتنافى فكرة وعقيدة مع مبدأ التوحد، فمساحة الأفق
الضيق جعلت منهم يتحركون لمصالح آنية ولحظية غير آبهين ولا متطلعين
أو مستشرفين لما تحتمه مستقبلية الحياة وما ينتظره العامة منهم
هناك.
وهنا تكمن العلة التي لم يسلم منها المسلم في شرق الأرض أو
غربها، وهي ان الجميع ينادي بالتوحد والتوحيد ورصف الصف الإسلامي
ككل، بغض النظر عن الانتماء أو التخندق والتكتل والتمذهب، ولكن قلة
هم العاملون بهذا الاتجاه الإنساني الإسلامي السامي الذي يحقق
الطموح الإلاهي والمسعى النبوي الشريف وإرادة أهل البيت عليهم
السلام.
ولعود على بدء ورؤية الدور الريادي لرجال الدين الشيعة في
العراق، منذ العهد الفاشي المتمثل بحكم البعث، ولغاية اليوم بعد
التغيير الحاصل، نجد ان اشد اللحظات التي مرت على الشارع العراقي
هي في غياب القرار الحاسم لضم الجمهور تحت جناح واحد، ورغم
المحاولات المتكررة إلا ان الإخفاق كان حليفهم، بل كان أسرع من هذه
الأصوات الداعية إلى التوحد وعدم الانشقاق.
ومرجح ان تعود هذه الإخفاقات إلى أسباب من شأنها ان تكون ذات
علاقة بالدور الأول بنا وليست هي متعلقة أو مرتهنة بالعامل الزمني،
وهي مثل:
· التعصب الخاص للجماعة، بغض النظر عما يمثله الطموح الأوسع
في تحقيق قاعدة عريضة من شأنها ان تكون مصدا للظروف الخارجية.
· تذبذب شخصية الداعية، وتزعزع الثقة بينه وبين العامة.
وافتقاده للقدرة على ممارسة دوره القيادي من حيث الكفاءة والخبرة
والورع والتقوى.
· تقاعس الإعلام عن ممارسة دوره في نقل أفكار ورؤى ومنهجية
الداعية، مما يخلق انقطاع الوصلة المؤثرة بين الجمهور وبين الداعية
للتوحيد.
· قمع الجهة الموحدة والراصة للصف الإسلامي، بداوعي أمنية أو
سياسية أو بتدخل خارجي للحفاظ على ضرورة التفكك الكامل للنسيج
الاجتماعي والمستفيد منها هو ذات القامع بالدرجة الأولى.
· حرص المستفيد من هيكلية التفكك على بث الإعلام المضاد ضد
الداعية لتحقيق التوحيد الإسلامي والاجتماعي بين أطياف المجتمع،
خاصة وان كان المحرض يملك من المقومات المالية ما تؤهله للطغيان في
الساحة، وشراء الذمم والنفوس الضعيفة.
بهذا نقول ان الأسباب الأنفة الذكر هي التي تقوض مشروع التوحيد
ومن يأتي به، اما على صعيد الناحية العملية فقد رأينا خلال الأيام
الماضية ما لم نراه في السنوات الخمس الماضية من زمن احتلال العراق،
ذلك ما رأيناه جليا في التشييع المهيب الذي شهدته كربلاء في يوم
استقبال جثمان سماحة آية الله الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (قدس)
لهو دليل عملي كبير على أفكار الرجل ومدى اقترابه وتلاصقه من حاجة
وتطلعات وآمال الفرد والواقع العراقي.
والمفارقة الواجب الالتفات إليها في هذا الأمر هو ان بعض الرجال
يعملون لله وحده سبحانه وتعالى غير راجين من خير الدنيا شيئا، وهذا
ما جسده سماحة السيد الراحل وتمثل عنصر التوحيد في شخصه الطاهر.
حيث كان ورغم الظروف القاسية التي تحيطه نافذ جدا إلى قلوب
المؤمنين والمتطلعين والمحبين إلى مستقبل أفضل على يديه، خاصة وان
المسافة بينهم وبينه كانت بعيدة إلا انه استطاع ان يقترب اليهم
بصوته وفكره وقلبه وتاريخه.
كما ان مظاهر الحزن الواسعة التي تلقت نبأ وفاته كانت مثارا
للتساؤل عما سيكون الوضع عليه لو أطال الله في بقاءه، ذلك ان
العديد من الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية، العراقية منها
والعربية أو العالمية، والمسلمة منها وغير المسلمة، أبنت الفقيد
بما يستحق من منزلة إنسانية وإسلامية عالية، معربة عن فقد بالغ
لرجل كانت تعقد حوله الآمال في أستقطاب الإنسانية والنظر في أمورها
بعين النافذ العاقل المتبصر، وإزاحة كل ما من شأنه ان يكون حائلا
وعائقا بين المسلمين أجمع، أو حتى بين الإنسانية ذاتها.
ولعل الظروف التي سمحت لشخصه الكريم هو العلمية التي أستحقها
وبجدارة والبيت الكريم الذي نشأ فيه، وسيرته التي ملئت الآفاق،
فعرفه القاصي والداني وأعترف بفضله الجميع.
ومن هذه المقومات التي تحلى بها:
· الورع والتقوى والتواضع ومخافة
الله في كل صغيرة وكبيرة، فكان بحق يمثل قول المعصوم: من تواضع لله
رفعه الله.
· معاملة الجميع كشخص واحد، فلا فرق
عنده بين المقرب والبعيد، أو بين العربي والأعجمي، أو المسلم
والغير مسلم، في مسألة الحق الإنساني العام.
· نشأته والبيئة التي تربى فيها،
زرعت فيه بذرة القيادة وحب الناس جميعا، والعمل والسهر لأجل
الإنسانية في سبيل إرضاء الله سبحانه وتعالى، فهو من بيت عرفهم
المجتمع في حضورهم البارز ودورهم الريادي للتصدي والوقوف إلى جانب
المظلوم ونصرته دائما.
· الثقة المتبادلة بينه وبين العامة
ككل. وهي عنصر أساس في صنع أرضية صلبة للانطلاق منها.
· العلمية التي يتحلى بها رضوان الله
عليه، كانت محط احترام وجذب دقيق، حيث تتلمذ على يد والده سماحة
السيد المرجع الديني الأعلى المجدد الثاني رضوان الله عليه، وعدة
من أبرز أساتذة وفقهاء العصر الحديث.
· الدور الإعلامي الذي ركز عليه
سماحته، ذلك لصنع أداة موازية لما يمتلكه الآخر من طاقات في بث
فكره، فكان سماحته يركز على هذا الجانب من نشر فكر ورسالة الإسلام
للرسول الأكرم محمد صلوات الله عليه وآله وسلم، وفكر أهل البيت
عليهم السلام.
· الأخلاق الفريدة التي تحلى بها،
حيث لم يرى يوما وهو عابس، بل كان كجده علي بن أبي طالب عليه
السلام، كان مبتسم الوجه بشوش المحيا، ولم يلفظ من القول شيء يسيء
لأي أحد كان.
لقد كان رضوان الله عليه مثال القائد الناجح في لم شتات الأمة،
وهديها وإصلاحها ونموها وازدهارها ورفع شأنها، فكان كما قال أمير
المؤمنين (ع) بحقه وبحق العلماء أمثاله: إذا مات العالم ثُلم في
الإسلام ثَلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة.
فكنا ومازلنا بعد رحيله نستلهم منه الدروس والعبر والأفكار
الخلاقة التي من شأنها ان ترتقي بنا وتدفعنا لجعل مستقبلنا مساحة
أفضل للعيش والحياة الكريمة، متمثلين بقوله سبحانه وتعالى {الذين
إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}.
* مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام
http://annabaa.org |