العراقي والحب

عباس النوري

بادئ ذي بدء كنت أود أن أكتب عن الحب والإنسان، لكنني عدلت عن رأي لكي أكتب عن العراقي والحب.

ولماذا؟

لأن الحب والإنسان موضوع عام وشامل وليس فيه خصوصية وقد يكون معروف لدى الكثيرين فلا أزيد هذه المعرفة حرفاً، وقد أخسر وقتي دون أن استفاد أمراً من بحثي أو من خلال إشغال فكري.

وأن انتخابي لموضوعة العراقي و الحب ليس على أساس أن العراقي لا يمتلك الحب أو أنه لا يحب، ولا لأن العراقي يعد من أبطال الحب…لكنني بدأت بالتفكير حول الحب وحياة العراقيين إن كان بين أفراد المجتمع الواحد المتقارب والمتجانس أو بين المجتمعات المتنوعة المتخلفة في الثقافة والعرف والطبائع.

ولو كان الحب مشاعاً ومعمولاً به لما كان كل هذا القتل والخراب والدمار والتسابق على السلطة وسرقت الثروات بهذا الشكل الفاضح. ولو أن لدى العراقيين الحب الحقيقي لبعضهم لكان هناك تفاهم ووفاق وألفة ووئام. هذه التساؤلات والكثير لدى القارئ جعلني الخوض في موضوع العراقي والحب.

ما هو الحب… أين مركزه…ما هو لونه…طعمه…صورته…أثره في الواقع.

عندما نسمع بالحب بصورة عامة يخطر لنا بشكل فجائي لا شعوري (الغرام) أي الحب بين الجنسين…دون إدراك مسبق…لكن عندما نسأل إنساناً روحانياً متصوف لحدٍ ما تراه يترجم لنا الحب لحب الله تعالى…قبل أن يدخل في تفاسير وأنواع أخرى لها علاقة بمواقع الإنسان. نعم هناك حب الوطن، وحب الوالدين والأخوة والأخوات، وحب الأصدقاء، وحب القومية وحب الطائفة والمذهب…وحب الدينار والدولار… وحب المنصب والجاه.

أي لو أننا وضعنا تقسيماً عاماً للحب نجده على شكلين أو نوعين: الحب الروحي، والحب المادي.

الحب الروح يتجزأ لأنواع كثيرة….والحب المادي له اتجاهٌ واحد: فهو يدفع لنتاج ملموس، والمادة متنوعة.

ومن أنواع الحب خارج إطار المادة هو الحب العاطفي الذي يشد الإنسان لإنسان آخر نتيجته التلاقي أو الحرمان. وكتبت عنه قصص كثيرة مثل(مجنون ليلى) وهناك أشعار عربية وعالمية عن هذا النوع من الحب مثل: قفا نبكي بذكرى حبيبٍ ومنزلِ … بسقط اللواء بين الدخول فحوملِ.

والعراقي كباقي البشر يحب النوع الروحي – والعاطفي والحب المادي بكل أنواعها…لكن!

هل العراقي فقد معنى الحب لأخيه العراقي بسبب الظروف والكوارث والمصائب المتكررة؟

أم أن الحب مازال له بصيص خيرٍ في الأعماق قد تتسع رقعتهُ بعد حين لكي تنير دروب الآخرين للعيش بسلام وأمان. هل سيجد العراقي شعراً وأنغاماً مفرحة وتحيط به نشوة الحياة بدل الأشعار الحزينة والعويل والبكاء. هل هي رغبته الخاصة ونشوته في العيش في وسط الصريخ والعويل والبكاء ونزفٍ للدموع…هل أصبح حال العراقي لا يتحمل دون المأساة بل تعود عليها وطغت عليه…فتحول سعادة الحب والتلذذ بمعالمه وجمال صفوته ليركن للألم والبكاء فكل لحنٌ من أنغام الصبا تطربهُ إلا العرس.

عامة الشعب ينقاد إلى هدف طبقاً لما يطبقه قياداته، أو بالأفصح ينظر لمن تولى الأمور لكي يقلده.

إذا كانت القيادات السياسية فاقدة لمعنى الحب وممارسة فوائدها بين ذواتها، فكيف يكون حال الشعب.

المثل الشائع يقول: إذا كان ربُ البيت في الدف ناقراً فما شيمةُ أهل البيت… فأقول إذا كانت قياداتنا السياسية بدلت الحب بالبغضاء والكره والحقد، فما بال الشعب إلا القتل والتهجير …وصنع الكوارث.

هل يمكن للعراقي أن يحب العراقي، وإن كان عربي يحب كردي أو تركماني يحب عربي والعكس. هل يمكن لسني أن يحب شيعي والعكس, وهل يمكن للعراقي المسلم أن يحب المسيحي والصابئي والأزيدي والعكس.

لكن السؤال هل يمكن للقادة أن ينتهوا من التآمر على بعضهم وخلق أجواء المحبة عوض الكراهية لكي لا تنعكس على الشعب العراقي، وهل يمكن للذين يسرقون الملايين أن يحبوا الأيتام ويضعون حلول سليمة لكي لا نخلق جيلاً مخرباً للمجتمع…وهل للمنصفين أن يضعوا الله أمام أعينهم وإن لم تكن في قلوبهم ذرة حبٍ لله لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وتحركهم ضمائرهم أن في العراق ملايين اليتامى وأكثر من مليون أرملة…فيحبونهم لله وفي الله…بأن يكفوا أيديهم عن سرق أموال الشعب العراقي من الأيتام والأرامل والفقراء والمساكين والأطفال والنساء وكبار السن والعجزة والمعوقين…أين الحب من العراقي؟ أم هل العراقي يمكنه أن يحب.

لازلت أفكر في معنى الحب لدى العراقي أو صلته بالحب…وقد طرحت بعض التساؤلات.

 ما هو الحب؟

 أين مركزه…ما هو لونه…طعمه…صورته…أثره في الواقع.

الحب ليس مادة يمكننا لمسه، ولا بضاعة نستطيع شرائه، ولا اقتنائه…الحب إحساس فطري يتطور وينمو، أو يضمحل ويقتل…ويتبدل لكراهية وحقد. الصراع بين الحب والحقد موجود منذ الأزل كالليل والنهار مثل العدل والظلم وكالنور والظلام …صراعٌ أزلي.

الإنسان تارةً يختار وأخرى يجبر وينساق…البعض يرفض الانسياق نحو الظلمة ويصارع الحقد والكراهية وآخرين تمرسوا الكره والحقد فقتلوا الحب في داخلهم.

العراقي حكم عليه أن يعيش تحت سطوة البغضاء والحقد وتفضيل البعض على الآخرين…فمن كان لا شيء وصل للسلطة وسحب معه آفات الأمية ليقتلوا العلم والمعرفة والجمال فضاعت الفرحة وسحق السرور. العراقي عاش في ضل نظامٍ تعسفي شوفيني حكمه قسري يرى القبيح جمالاً فقتل كل حلوٌ وذو طعمٍ  وبدل كل ذي عطرٍ شذي لرائحة كريهة مقفرة. وأدخل في العقول صور ملونة سرعان ما أطلَ عليها نور الشمس كشفت عن حقيقتها المزرية.

فتصور البعض أن ذلك هو الجمال هو الحب مع أن البعض كان يعلم حقيقة القبح والكره…فتطبعوا وانقادوا لهاوية الأحقاد، فنشأ جيلٌ لا يعرف للحب معنى. لكن استبشرنا بنور الخلاص من الحقد وهل كنا مخطئين…كلا ونعم!

الأجيال التي استبدلت مذاق الحب بالكره والحقد لا تعرف طعم وحلاوة الحب فما كان في ذواتها أضمحل، وترعرعوا على أنغام الظلام فلم يروا نور المحبة والألفة بل تمسكوا بمخالفاتها وهم بحاجة لم يوقهم المضار، وينبههم لكوارث الظلام.

أين مركز الحب؟

هل هو في القلب كما يشار إليه؟ أم هو في الضمير كما يقصد البعض؟ أم هو في العقل والروح كما يقال؟

المتعارف من القول: أحبك من أعماق قلبي. أن حبكَ ساكنٌ في ضميري ووجداني، وأن كل خلية من جسدي النحيف يهتفُ حباً لك…وما أكثر الجمل اللطيفة.

أن جميع حركاتنا وإحساسنا ومشاعرنا مصدرها المخ (العقل) فالمخ متكون من مجموعة خلايا، ولكل خلية وضيفة وهذه الخلايا مرتبطة بشبكة أعصاب كهر ومغناطيسية منتشرة في جميع أعضاء جسم الإنسان…فالألم البسيط الذي سببه خدش جلد إصبع قدم يشعر به الإنسان، فالخدش أثر في عصبٍ معين أعطى إشارة من خلال الأعصاب الدقيقة وبسرعة فائقة وصل للخلية الخاصة بالحس في المخ فكان للإنسان رد فعل فجائي ولا إرادي، وفي ذات الوقت أعطت الخلية إشارة (أمر) لمكان معين قرب منطقة الخدش ليفرز مادة كيماوية معينة لتتحول لمانع ومضاد لكي لا يحدث التهاب في تلك المنطقة المخدوشة…وهكذا عند جميع الحوادث التي يتعرض لها الإنسان.

كذلك الحال في الرغبة والإحساس والشعور إيجابي كان أم سلبي، فيقال أن الجسم السليم في العقل السليم له معاني وبعد غير المتعارف عليه …وهذا ليس موضوعنا.

من هذه المقدمة البسيطة أردت أن أضع القارئ العزيز أمام صورة معينة لمعرفة مدى تأثير الصور والأصوات والحوادث والأخبار وأي حركة مثل تأثير الخدش البسيط في حركة وتفاعل الأعصاب والمخ…بل وأكثر تأثيراً إيجابي وسلبي.

لو كانت لدية زهرة في سندان في بيتك ووضعت جنبها سماعة مسجل وموسيقى هادئة، وزهرة أحرى في سندانٍ ثانٍ في غرفة بعيدة وبقربها سماعة مسجل وموسيقى صاخبة…عندها ترى أن نمو الزهرتين تختلف عن بعضهما.

كذلك الإنسان يتأثر بالصوت والصورة…فالحزن ينشئه على طريقة وسلوك خاص، والصورة الجميلة والصوت الشجي المفرح يطوره لإنسان إيجابي محب.

وليكن لنا نظرة عامة على تدهور المجتمعات العراقية وأسلوب نشأتها…ولنا لقاء آخر.

القيادات السياسية العراقية و الحب

المجتمعات العراقية واختلاف قومياتها ولغاتها وتباعدها عن بعضها تاريخاً وثقافةً وعرفاً وحلقة الوصل الوحيد بين جمعها ودرجها ضمن دولة العراق رغماً دون أن يستشاروا أو كان لهم خيار. فالمسمى (المجتمع العراقي) أو الشعوب العراقية لم يكن نتيجة تاريخية…بل فرض والقبول بالأمر الواقع. وهذا الأمر معلوم لدى المختصين بالتاريخ العراقي، ولدى أكثر المثقفين. أما ظهور الحركات القومية العربية والحركات الوطنية والحركات الشمولية والأحزاب الدينية التي لا تهتم للخطوط الجغرافية قبلت بهذا الواقع بل وتدافع عنه…فأصبح للعراق علم وأن تغير حسب المراحل والأزمنة التي مر بها العراق…وقد رضى الشعب العراقي بما قدر له أو أجبر عليه. لذلك لم تبنى الدولة العراقية على أساس الحب للوطن ولا على أساس حب المجتمعات العراقية لبعضها…بل العكس تربى الجميع لكره الآخر وبغضه والأسوأ حين حارب البعض … البعض الآخر ولفترات طويلة خصوصا الهجمات العسكرية للحكومات العراقية على الشعب الكردي…لعقود…وأعداد الضحايا يعرفها أصاحب القضية والمنصفين وآثارها باقية في ضمير الإنسانية ومن نزع ثوب الإنسانية يحاول النسيان.

وتطور الحقد ليشمل أطياف أخرى جرى عليهم مسميات مثل الفيليين بالإيرانيين، و آخرين قتلوا وشردوا لكونهم محبين لأهل بيت الرسول أو يتوددون لحزب إسلامي, وقتل وأضطهد المسيحيين والصابئة والأزيديين وقوميات أخرى ومذاهب وطوائف متعددة…كل تلك المظاهر كان أهم أسبابها فقدان الحب بين المجتمعات العراقية…فأستغلها الحاكم الجائر لكي يبسط نفوذه أكثر ويستغل الشعب وثروات البلد.

وبعد زوال الدكتاتورية بقوة أكبر قوة في العالم وبرضى قوى سياسية عراقية كانت معارضة للنظام البائد، واستبشار العراقيين بمولد عراق ديمقراطي …قد يغير الكراهية للمحبة والتفرقة الطائفية للحب والوئام…والتشتت للألفة…ظهرت جميع المخلفات واستباحت كل الحرمات وقتل الطفل الرضيع والشيخ العجوز وبالجملة…وقطع الماء والعراق صاحب نهرين دجلة والفرات، وقطع الكهرباء بل وأزداد سوءاً من ذي قبل…وشحت مشتقات النفط والعراق صاحب أكبر مخزون نفطي في العالم. وأصبح أعداد اليتامى يعد بالملايين ( ولا يحصون خجلاً – أو تستراً على العورات) وكثرة الأرامل ولا تعد لهن برنامجاً عملياً وفعلياً ينقذهن من آفات المجتمع الذي ساد فيه الجريمة…وزاد عدد الأغنياء الذين بالأمس القريب كانوا لا يملكون داراً للسكن فأصبحوا أصحاب قصور رئاسية وملكية وعمارات عالية في الإمارات والقاهرة ودول أوروبية…وهم يعدون قادة العراق السياسيين الجدد.

أين الحب من القيادة السياسية للشعب العراقي، وأين القيادة من حب الشعب…نعم فقط نسمعها من خلال الشعارات والهتافات والجمل الرنانة والكلمات الملونة بالوصف الجميل.

لكن الحب أيضاً مفقود بين القادة أنفسهم، حيث أن القيادات في الحزب الواحد والطائفة ذاتها تتآمر للمكسب السلطوي ومن أجل نهب الثروات المباحة…فقط لخدمة السياسيات الأجنبية بعيدة كل البعد عن مصلحة العراق. يوم بعد يوم يثبتون بعض القادة حبهم وولائهم للاستمرار في السلطة بتبنيهم أجنده خارجية…لكي يستمر الدعم لجلوسهم على كرسي السلطة…فهي التجارة المربحة…ولو حاججتهم بالدين والدنيا والآخرة فكلامهم أفضل من إيمان الملائكة!

فيلاحظ العراقي المثقف والإنسان البسيط الذي همه العيش بأمان وسلام وكسبه للقمة العيش له ولأطفاله. أن الحوارات بخصوص الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق وأمريكا التي أنقذت الشعب العراقي من نظام دكتاتوري لديمقراطية لا يعرفها من قبل…وقد تكون دكتاتورية بثوبٍ آخر…دكتاتورية الطائفة أو أحزاب معينة تفعل المستحيل من أجل السيطرة على البلاد والعباد وتقصي حقوق الآخرين…لأنها فاقدة للحب ومعانيه. هذه القيادات تتعالى أصواتها من أجل سيادة العراق متناسيةً كرامة الإنسان العراقي الذي أستبيح طيلة تاريخ العراق القديم والمعاصر والذي مازال يستباح من جيرانه وأشقائه وأهله.

العراق الذي عاش في تخلف كبير عن مسار جميع شعوب العالم، ويعد حالته حال أصحاب الكهوف، بل أسوأ حالاً…لكون أصحاب الكهوف كانوا يؤمنون حياتهم بالصيد وغلق الكهوف بأحجار كبيرة، لكن العراقي يهدم داره على أهله ويقتل من فيه إن كان السبب قصف طائرات أمريكية أو قذائف حكومية أو مفخخات إرهابية…والحكومة أعلنت نجاح عملية فرض القانون وتفجر سيارة مفخخة في مدينة الحرية في أكبر سوق شعبي لكي تضيف كارثة أخرى لمجموعة الكوارث المتعاقبة على العراقيين.

الحكومة أعلنت الحرب على المليشيات والخارجين عن القانون وداخل مجموع السلطات العراقية الحديثة رؤوس الإرهاب وقيادات المليشيات وما أكثر الخارجين عن القانون…والمختلسين لأموال وثروات العراق بطرق مختلفة. فأعدت الحكومة وبمساهمة أمريكية لمليشيات جديدة تحت عنوان الصحوات فدخل الخارجين عن القانون والقتلة بفصاحة الكلمة لهذه الصحوات وجعل القتال بين المليشيات القديمة والجديدة…وهذا يسمى دائرة العنف والدائرة لا تنتهي إلا برفع الدائرة كلها.

أين الحب من كل هذا…وأين هم من الحب ومعناه.

وإذا تحدثنا عن حب دول الجوار للعراق فيترجم بأن ينصاع العراق لأوامرهم وغاياتهم ومصالحهم وأما الويل والثبور للعملية السياسية وليذهب الشعب العراقي للجحيم…فيقفون ليس فقط حجرة عثرة أمام أي اتفاقية بعيدة المدى وحتى القريبة إلا الاتفاقيات التي تضمن مصالحهم.  فحب القيادات السياسية ليس للعراق وشعبه بل للجار الذي يفرض إرادته وإلا سيكون مصير السياسي اللجوء الدائم لأي دولة غربية بعيدة عن العراق وثرواته…والسياسي ضمن المستقبل فهرب المال وبنى له المؤسسات التجارية التي تضمن له حياة مترفة وليذهب الشعب العراقي للجحيم.  هل يمكن للمثقف أن ينشر ثقافة الحب من أجل عراق الغد…عراق الأمان والتطور…أم أن الحلم أصبح حرام…ويعد مخالف للسرب ويصور ضد التيار الجراف.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء  24/حزيران/2008 - 20/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م