سلسلة في رحاب وصايا الأطهار عليهم السلام

–الحلقة الأولى-

أ.م.غريبي مراد

مدخل منهجي:

الذي  يراجع وصايا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام للمسلمين من خلال أصحابهم رضوان الله عليهم ، يلاحظ أن عنصر أسلمة الذات يتمحور أساسا حول حسن إدارة الذات  وفق المنطق الإسلامي الأصيل والاهتمام بالعلاقة بالقرآن الكريم  وما يخدم الأمن الإنساني عموما والإسلامي خصوصا. لكن هذا الطرح فيه أكثر من رؤية وتصور حول منهجية تجسيد هذه الوصايا والمواعظ والإستراتيجيات النبوية الإمامية القرآنية، حيث تتداخل فيه الذاتية و الخلفيات الفكرية الجمعية، مما يجعل الاستثمار الأمثل لهذه النصوص الإسلامية صعب مستصعب، حيث القراءة البسيطة لتجليات التدين الإسلامي حضاريا في الواقع الإسلامي  تثبت المفارقة الرهيبة بين ثقافة الإسلام وواقع المسلمين.

وحتى نستوعب حقائق البصائر القرآنية والنبوية والإمامية، نجد أنفسنا مضطرين لتحديد المنهج الذي يجب استحضاره بشكل فاعل عند تحريك النص الإسلامي، ولعل فقدان  المنهج أواضمحلاله لدى إنساننا هوما جعله في  حالة تشوش في التعامل مع النصوص الإسلامية، ناهيك عن فقدان الاستعداد النفسي للتفكير المنهجي، بالإضافة للمثبطات الاجتماعية والسياسية وغيرها التي طالت كل المشاريع التجديدية في التواصل مع النصوص الإسلامية باختلاق شبهات واهية، إلى ما هنالك من أسباب منهجية، نستشف بعضها في كتاب العلامة الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره)"كيف نفهم القرآن؟" وأيضا في  أغلب مؤلفات أستاذنا المرجع الكبير السيد محمد تقي المدرسي  دام ظله الوارف...

والمنهجية الإسلامية هي امتداد المعرفة الإسلامية وانتقالها من الفكر إلى السلوك بشكل يغني الواقع بالثقافة الإسلامية الصحيحة ويطور مسيرة الإنسان إلى الله والحياة، وهنا تطفو على السطح الإشكالية المنهجية في التطلع الإسلامي وإحدى المفارقات المفاهيمية التي عطلت  عجلة الخلاص من الأزمة الحضارية، حيث تتداخل ثنائية الفكر والفقه بالنسبة للمعرفة الإسلامية(1).

عودا إلى البدء، التعامل مع النص الإسلامي، في زمننا الراهن أصبح من أشكل الإشكالات، مما جعل إنساننا يعيش في التخبط والضياع، ليس لأن النص الإسلامي فوق العقل الإنساني ولكن منهجية الحياة لدى إنساننا أصبحت مستغرقة في التجزيء والمصلحية المفرطة في نظرته وتطبيقه للنظرية الإسلامية عامة مما عمق الأزمة، فإنساننا لا يتعامل مع النص الإسلامي معرفيا ومنهجيا في مشواره الحياتي كله بل هناك شكل من التواصل الثقافي بالنص الإسلامي مشتت ومتناوب تتحكم فيه ظروف الحياة، بينما مدرسة الإسلام تربط ربطا وثيقا ومتداخلا وتفاضليا بين المعرفة الحقيقية لمكارم الأخلاق والتوجيهات الإسلامية مع العبادات والمعاملات ضمن فضاء عقيدي شامل  لإيجاد تكامل إسلامي رفيع على مستوى الذات والمجتمع.

ولتقريب الفكرة شيئا ما سوف نحاول تسليط الضوء على نموذج من نماذج النصوص الإسلامية المتعارف بعنوان "الوصايا" والذي يعتبر الشكل الأمثل والأنجع في الاتصال الإرشادي بين المسلمين.

حيث يذكر سماحة المرجع الكبير السيد محمد تقي المدرسي -دام عزه - في كتابه "الإسلام حياة أفضل" (مقدمة فصل الإسلام رسالة الحياة) : ((من ميزات رسالة الإسلام الإلهية، أنّها رسالة الحياة؛ أي أنّها تحيي الإنسان في الدنيا، وتؤهّله لحياة الآخرة، كما يؤكّد على ذلك الله عز وجل في قوله: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال/24)

وفي تعاليم القرآن الكريم، وتوجيهات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام حشد هائل من التعاليم الحياتية التي تقوم عليها أسس حياة الإنسان كفرد، وكمجتمع، وكأمّة، وحضارة.)) (2)

        وصايا النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا:

ألف: وصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر الغفاري "رض":

  ((يا أباذر: احفظ ما أوصيك به تكن سعيدا في الدنيا والآخرة:

-يا أبا ذر: اغتنم خمسا قبل خمس:

شبابك قبل هرمك

صحتك قبل سقمك

غناك قبل فقرك

فراغك قبل شغلك

وحياتك قبل موتك

- يا أبا ذر: إياك والتسويف بأملك، إنك بيومك ولست بما بعده

فإن يك غد لك فكن في الغد كما كنت في اليوم

وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت في اليوم

-يا أبا ذر:كم مستقبل يوما لا يستكمله ومنتظر غدا لا يبلغه

 -يا أبا ذر:كن على عمرك أشح منك على درهمك ودينارك.

- يا أبا ذر: من ابتغى العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنة.

- يا أبا ذر: يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار؟ وقد دخلنا الجنة بتأديبكم وتعليمكم فيقولون: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله.

- يا أبا ذر: المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم الزيادة،  إن المؤمن ليرى ذنبه كأنه صخرة يخاف أن تقع عليه، وإن الكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مر على أنفه.

-يا أبا ذر: إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيرا جعل ذنوبه بين عينيه ممثلة، والإثم عليه ثقيلا وبيلا، وإذا أراد بعبد شرا أنساه ذنوبه.

-يا أباذر:لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى من عصيته...)) (3)

← نحو وعي الوصية:

1-يا أباذر: احفظ ما أوصيك به تكن سعيدا في الدنيا والآخرة:

معرفة الآخرة تنظم معرفة الدنيا والسعادة الحقيقية تتجلى من خلال تلك المعرفة وتصبح ذات أثر في الدنيا والآخرة وليس الدنيا وحدها، كما أن المحافظة التي يأمر بها النبي  الأكرم صلى الله وآله وسلم الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رض) في مدخل  الوصية توحي ببعث الاستعداد النفسي للثبات والاستمرار في الالتزام بمحتوى الوصية على طول أيامه في الدنيا، وهذه تعتبر تهيئة وجدانية لحسن التعامل مع مضمون الوصية.. 

2-يا أبا ذر: اغتنم خمسا قبل خمس:

شبابك قبل هرمك

صحتك قبل سقمك

غناك قبل فقرك

فراغك قبل شغلك

وحياتك قبل موتك  ..

الملاحظ في الوصية الأولى مسألة جوهرية في إدارة الذات وأسلمتها بحق ، إنه الدفع نحوتحديد الهدف قبل أية حركة وهذا ما يتجلى في كلمة "اغتنم" ثم المرحلية التي نستشفها من خلال أداة الظرف "قبل" وفيها كذلك إيحاء بصناعة المستقبل واستبعاد المفاجئة التي لا يحمد عقباها، والنكتة المهمة أيضا هي التوازن المستهدف والذي نستوحيه من خلال جدولة الإيجابيات والسلبيات في الحياة، فالمقابلات الواردة في نص الوصية الأولى فيها تخطيط إداري محكم للذات في مسيرتها إلى الله والحياة الكريمة، حيث الاستثمار الأمثل للشباب والصحة والغنى والفراغ من شأنه تحقيق النجاح. والمثير للنباهة في نص هذه الوصية هي المقاربات الكاشفة لبدايات ونهايات تجربة الحياة، حيث الحياة غير ثابتة على حال واحدة بل تتقلب وعلى الإنسان المسلم أن يستوعب مسألة الابتلاء والامتحان في الحياة ويكون على قدر كبير من الحيطة والحذر والمراقبة والفطنة.، والأجمل في هذا كله أن الشباب والصحة والغنى والفراغ والحياة ليست في ذاتها أهداف بل وسائل لهدف أسمى، ومن خلال استحضار لحقيقة الهرم والسقم والفقر والشغل والموت، ندرك تمام الإدراك دورنا الحقيقي في الحياة.

في هذه المقالة نحاول التطرق للمقابلات الخمس بشيء من التفصيل والتدقيق :

شبابك قبل هرمك :

الشباب مرحلة جد مهمة وحساسة في آن واحد، وهي الخط العمري الأول للمسؤولية في  حياة الإنسان، وهي المرحلة التي تتضح فيها معالم النضج والولوج لعالم التكليف ، حيث نقرأ في القرآن الكريم :" الله الذي خلقكم من ضعف ، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهوالعليم القدير "(4)

حيث مراحل عمر الإنسان ثلاث:"

1- مرحلة النمو–الطفولة والشباب

2-مرحلة التوقف-الكهولة

3- مرحلة النقصان-الشيخوخة "(5)

والمؤكد أن مرحلة الشباب ذات تأثير بالغ في المراحل الأخرى التالية لها، لأنه بقدر ما كانت هذه المرحلة متوازنة ومتكاملة من حيث متطلباتها –التي سنأتي على ذكرها-  كانت مرحلة الكهولة أكثر نضجا ويتكامل عقل الإنسان وتزدهر قوته-العقل –بصورة جيدة ، ومرحلة الشيخوخة في بدايتها تستمد الاستقرار والهدوء والحكمة والذكاء حسب المرحلتين السابقتين، يعني هناك ترابط دقيق بين المراحل ، وكأن الشيخوخة مجانبة للشباب وهذا ما نقرأه عن الإمام علي عليه السلام:" ما أقرب الدنيا من الذهاب والشيب من الشباب"(6)

مما تقدم نجد أن الشباب كمرحة وفئة اجتماعية جد مهمة بالنسبة لمشوار الحياة:" فإذا أهملنا الشباب –كفئة في هذه المرحلة الخطيرة، أوأسأنا التعامل مع سماتهم ومميزاتهم النفسية والفكرية، فقد نبتلى بجي منحرف فاسد، يضل الطريق، ويضيع الهدف ، ويحطم مستقبل الأمة..."(7)

وبالتالي لا يمكننا اغتنام هذه المرحلة المهمة والخطيرة في آن واحد، دون إدراك طبيعتها ومقتضياتها في قبال مرحلة الشيخوخة،  وحتى لا نقع  في أخطاء منهجية في استثمارها أوالتعامل معها. والسؤال الذي يطفوعلى السطح التحليلي هو:

كيف نغتنم مرحلة الشباب؟      

...يتبع

* كاتب وباحث إسلامي

 

................

الهوامش:

 (1) سنخصص له مقالا مستقلا... 

(2) كتاب الإسلام حياة أفضل، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، ص34

(3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج77 ص74-91

(4) سورة الروم /54 

(5) كتاب الأفكار والرغبات بين الشيوخ والشباب، الشيخ محمد تقي فلسفي ،ج1 ص41-42

(6) غرر الحكم ، ص754

(7) كتاب مسؤولية الشباب، الشيخ حسن الصفار، ص19

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء  24/حزيران/2008 - 20/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م