عقد رؤساء دول الإتحاد الأوربي في العاصمة البلجيكية بروكسل
مؤتمر القمة الأوربي الدوري بين التاسع عشر والعشرين من شهر
حزيران(يونيو) الحالي. وقد كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تحت
الأضواء الإعلامية وهو يستلم ملف رئاسة الإتحاد الأوربي لمدة ستة
شهور إبتداءا من اليوم الأول من شهر تموز(يوليو) وإنتهاءا بنهاية
شهر كانون أول (سيبتمبر) القادم. الأجندة التي طرحت أمام الرئيس
الجديد لدول الإتحاد كانت كثيرة وشائكة، حيث نوقشت خلال هذه القمة
المعضلات والتحديات التي تقضّ مضاجع السياسيين الأوربيين و تتراوح
بين مشكلات حادة ومزمنة.
أهم الأمور التي طرحت خلال هذه القمة تتلخص بالنقاط الرئيسية
التالية: التلوث البيئي والتغيرات المناخية، قضايا الدفاع الأوربي
المشترك، تنظيم ومعالجة مشاكل الهجرة، الأمن الأوربي والتهديدات
الإرهابية، تسوية المشاكل الزراعية القائمة بين دول الإتحاد ،
دراسة مشكلة إرتفاع أسعار مصادر الطاقة والتداول بشأن الرفض
الإيرلندي لميثاق لشبونا المحسّن. كما تم مناقشة أمور أخرى ربما
تعتبر ثانوية تتعلق بسياسية الإتحاد الأوربي الخارجية والشراكة
الأوربية المتوسطية والملف النووي الإيراني وإمكانية توسيع الإتحاد
الأوربي وغيرها من الأمور المعلقة.
غالبية هذه الأمور تعتبر من المسائل المكررة في نقاشات القمم
الأوربية الدورية إلاّ أن ثمة مستجدات ومصاعب قد طرأت على الساحة
تستحق الدراسة والتأني والتركيز على سبل معالجتها وإيجاد الحلول
الناجعة لها. أهم هذه المشكلات الحادة هو الإرتفاع المضطرد في
أسعار المحروقات في أوربا والمأزق الأوربي الحاصل جراء رفض
الإيرلنديين المصادقة على ميثاق لشبونا من خلال التصويت الشعبي بـ
(لا) على مسودة بنوده مؤخرا.
أسعار المحروقات تتزايد في أوربا يوما بعد يوم وتتزايد معها
أسعار المواد الإستهلاكية والمواد الغذائية. هذا التزايد البياني
للأسعار أصبح عائقا هاما أمام النهوض الإقتصادي الأوربي وعامل محفز
لتململ الشارع الأوربي وضجره. الإضرابات والمظاهرات وغلق الطرق
التي تمت في العديد من دول الإتحاد الأوربي هي إشارات غضب وتعابير
عن السخط نتيجة للتزايد المستمر في أسعار الوقود، بينما لم يظهر
تدخل فاعل من قبل حكومات دول الإتحاد لتخفيف آثار هذه المحنة. على
الرئيس الدوري الجديد لدول الإتحاد أن يجد مخرجا سريعا أمام الغضب
المتزايد في الشارع الأوربي من جراء ذلك. فقد أفصح الرئيس الفرنسي
عن نيته في طرح هذه المشكلة على طاولة المفاوضات الأوربية خلال
القمة الحالية لرؤساء دول الإتحاد ، و أقترح مبدئيّا أن يتم تخفيض
مبرمج للضرائب المفروضة على شراء المحروقات وتخصيص صناديق دعم مالي
تخفف من حدّة تزايد الأسعار ، بينما أوكلت حرية التصرف بهذا الملف
لكل عضو من أعضاء الإتحاد على حدة حسبما يراه مناسب في هذا الشأن.
أما المحنة الأهم، والتي أعتبرت مفاجأة هامة لحكومات دول
الإتحاد الأوربي وصفعة قوية سددها الشعب الإيرلندي لقادة دول
الإتحاد، هي حينما رفضت إيرلندا المصادقة ، خلال عملية التصويت
الشعبي،على ميثاق لشبونا في الخامس عشر من شهر حزيران الجاري.
ميثاق لشبونا هو عبارة عن وثيقة محسنة ومختصرة للدستور الأوربي
الذي رفضه الفرنسيون وبعض شعوب دول الإتحاد أثناء تصويتهم عليه.
هذه الوثيقة المحسنة قد صودق عليها من قبل قادة دول الإتحاد في
لشبونا في الثالث عشر من شهر كانون أول (ديسمبر) من العام المنصرم
إبان فترة ترؤس البرتغال لدول الإتحاد الأوربي أنذاك. كما يعتبر
ساركوزي العقل المدبّر لهذا الميثاق الذي يفترض أن ينقذ أوربا من
محنة تأثيرات الـ (لا) الفرنسية في المصادقة على مسودة الدستور
الأوربي السابق.
مأزق التصويت بـ (لا) على ميثاق لشبونا من قبل عضو واحد من
اعضاء الإتحاد الأوربي يتجلّى في حقيقة أن يصبح الميثاق غير نافذ
قانونيا لكل دول الإتحاد الأوربي جراء ذلك! إذ أن الدستور الأوربي
ينص على موافقة جميع الأعضاء عليه دون إستثناء. هذه المحنة الجديدة
التي تواجه القادة الأوربيين وهم على أعتاب دورة جديدة من دورات
الرئاسة نصف السنوية ستكون محنة نيكولا ساركوزي بالدرجة الأولى،
لأنه الرئيس الجديد لهذه الدورة من جهة ولكونه العقل المدبّر لهذا
الميثاق من جهة أخرى. هذا الحدث قد حفز قرائح المراقبين للأحداث
السياسية الأوربية والسياسيين الأوربيين على حد سواء. فقد تضاربت
الرؤى وتباينت التصريحات وأختلفت وجهات النظر بين المعلقين على
هوامش الحدث من بين السياسيين الكارهين للوحدة الأوربية وبين
السياسيين المتلهفين لسماع إسم " الولايات المتحدة الأوربية" وبين
من يرى بأن خير الأمور أوسطها ويمسك العصا من وسطها.
لو تابعنا السجال السياسي بين السياسيين الفرنسيين على وجه
الخصوص، حيث أن فرنسا تقود دول الإتحاد هذه المرّة، سوف نجد الكثير
من التصريحات المتضاربة بينهم. الوزير الفرنسي السابق جين بيير
شيفونمو كان قد صرّح بأن ميثاق لشبونا قد فارق الحياة من الناحية
القانونية برفض الإيرلنديين له. كما أشار إلى أن شعوب أوربا هي
التي يجب أن تقرر سرعة ومقدار وزخم الوحدة الأوربية وليس قادتها.
أوربا يجب أن تبنى على أسس إحترام إرادات شعوبها. في المقابل صرّح
عضو البرلمان الأوربي بار ألن لاماسور لجريدة الـ " لو فيغارو"
الفرنسية ، بأن أربعة ملايين مواطن أوربي لهم الحق في التصويت بـ
(نعم) أو بـ (لا) كما يشاؤن ، لهم الحق أن يغامروا بأنفسهم ولكن
ليس لهم الحق أن يغامروا بحقوق 495 مليون مواطن أوربي. كما إنتقد
في تصريحاته الصيغة القانونية المتبعة في تصديق المواثيق الأوربية
الهامة التي يجب أن تتم بالإجماع ، والإجماع في نظره أمر صعب جدّا
في إتحاد مكوّن من 27 دولة تتباين مع بعضها في أشياء وأمور.
بينما راح بار فرانسيس روزينسيل سفير النوايا الحسنة في المجلس
الأوربي يدعم نظرية أوربا السائرة بسرعتين ويدعو الى ضرورة التأني
والتحفظ في ستراتيجية صنع الإتحاد الأوربي. الحل الأنجع في نظره هو
أن يرى أوربا وهي تتحرك بتعجيلين متتاليين. أوربا النواة الصلبة
وتتضمن بعض الدول الأوربية الغربية كفرنسا وألمانيا وهولندا
وبلجيكا ولوكسمبورك وغيرها من الدول الأوربية المؤسسة للإتحاد
والقادرة على صنع مرفأ آمن وسهل ترسو عليه السفن الأوربية الأخرى
الواحدة تلو الأخرى وحسب قابلياتها الإقتصادية والإجتماعية
والسياسية وعلى أساس سرعة إندماجها مع المشروع الأوربي العام.
رغم شدّة الصفعة الإيرلندية للمشروع السياسي الأوربي فأن بعض
السياسيين قد حاولوا التخفيف من وطأة تأثير الحدث على مستقبل أوربا
ووعدوا بإيجاد حلول تعالج الموقف الصعب. فقد أشار جون بيير جويت
وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوربية بأن الإتحاد الأوربي سيجد
مخرجا لهذا المأزق القانوني. دون شك إن هذا الحدث الهام سيغيّر
كثيرا في الأجندة الفرنسية المحضرة لرئاسة الإتحاد، رغم إشارات
التهدأة التي تصدر من هنا وهناك وتصريحات الرئيس الفرنسي نفسه
حينما قال " الحدث الإيرلندي يجب أن لا يتحول الى مأزق أوربي".
رفض الشعوب الأوربية لبرامج قادتها هو إشارة واضحة عن عدم
الرضى وغياب القناعة بالسياسات العامة للقادة الأوربيين. إن من أهم
الأمور التي تستهوي رضى الشارع الأوربي بشكل عام هو محاربة البطالة
، السيطرة على إلتهاب الأسعار وتقوية القدرة الشرائية للمواطن
الأوربي ، إضافة الى معالجة مشاكل البيئة وتنظيم الهجرة. نجاح
القادة الأوربيين في هذه المجالات محدود وغير كاف حيث لا يرقى، في
الوقت الحاضر على أقل تقدير، الى مستوى طموحات الشارع الأوربي
وآماله ، وهكذا ستبقى لعبة جر الحبل مستمرة ومضنية بين شعوب أوربا
وقادتها وحتى إشعار آخر. |