كفل الدستور العراقي حرية التعبير عن الآراء بالطرق السلمية
كالاحتجاجات والمظاهرات والأعتصامات، دون اللجوء إلى حمل السلاح
بوجه الدولة، حيث ورد في المادة (36) من الدستور العراقي ( تكفل
الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب حرية التعبير عن الرأي
بكل الوسائل) فهل يا ترى إن هذا الأمر صحيحا فعلا ومطبق على ارض
الواقع؟.
لا نأتي بشيء جديد إذا قلنا إن محافظة كربلاء هي في صميم الواقع
العراقي باعتبارها إحدى محافظات البلاد المهمة, ففي هذه المحافظة
تحدث قصص كثيرة يوميا فاسمح لي عزيزي القارئ أن أحدثك بواحدة من
تلك القصص التي تدور رحاها في ارض الغاضرية هذه الأيام.
في هذه المدينة حدث أمر يستدعي منا التوقف والتشخيص ولكي نبين
ماحصل ونرى هل إن رفع لافتات كتب عليها عبارات يطالب من خلالها
أصحاب المحال التجارية في وسط المدينة بفتح الطرق الداخلية ليتسنى
للمواطنين من أهالي المدينة الدخول الى مركز المدينة القديمة، لأن
طريقة التنقل فيها صعبة جدا ومرهقة بسبب كثرة الحواجز التي تحيط
بها والمسافة الطويلة التي يجب ان يقطها المواطن سيرا على الأقدام
لكي يصل إلى وسط المدينة لغرض شراء حاجة معينة أو لزيارة مرقد
الإمام الحسين (عليه السلام) واخيه ابا الفضل العباس (عليه السلام).
ومن المعلوم، فان محافظة كربلاء تعتمد بشكل كبير من الناحية
التجارية على السياحة وعلى دخول الزائرين إلى مركز المدينة للتبضع
وشراء ما يحتاجونه من مواد غذائية وملابس وحاجات أخرى، أما إذا
انقطع الزوار، انقطعت لقمة العيش، وهذا ما يعانيه مركز المدينة فقد
أغلقت المدينة بالكامل بأبواب حديدية تارة وكونكريتية تارة أخرى
لأغراض أمنية بحتة وهذا بالطبع شي تشكر عليه الحكومة المحلية، ولكن
ليس بهذه الطريقة التعسفية، ولاجل غير معلوم، وعليه لجأ أهالي
المدينة القديمة (كما تسمى) إلى رفع قطع من القماش (لافتات)
يطالبون فيها بفتح مركز المدينة ورفع الحواجز الكونكريتية لكي
يتسنى للمواطنين الدخول إلى المدينة التي عانى فيها أصحاب المحلات
التجارية من حالة جمود تام في الحركة التجارية، مطاليبهم لم تتجاوز
عملية رفع اللافتات البيضاء والتي كتب عليها ( نناشد رئيس الوزراء
بالتدخل لفك الحصار عن مدينة كربلاء) واخرى كتب عليها (لا نريد
رواتب ...لا نريد تعيين ...لا نريد ضمان اجتماعي ...نريد فتح شوارع
المدينة) وثالثة كتب فيها (نطالب المرجعية الرشيدة بالتدخل لفك
الحصار عن كربلاء) وكانت أكثر اللافتات جرأة هي (انتخبناكم فأخطأنا
.... وخير الخطائين التوابون)، بهذه الطريقة ارتقى أهل المدينة
وأصحاب المحلات فيها إلى مستوى لم تستوعبه الحكومة المحلية بل
تخوفت من حدوث انقلاب أو كارثة تزحزح الكراسي التي يجلسون عليها،
وحين لجأ الكربلائيون الى تقديم طلب الى المحافظة للخروج بمظاهرة
(وهو بحد ذاته اجراء يجب التوقف عنده) رفض الطلب من قبل المحافظة،
ولكن اللافتات تزايدت في الشوارع والاسواق الرئيسية للمدينة، وهنا
دق ناقوس الخطر الذي تخوف منه المسؤولون في مدينة كربلاء، احد
الخطاطين الذين قاموا بخط اللافتات يحدثنا عن الإجراء الذي اتخذ
بحقه قائلا: (بعد ان قمت بخط عدد من اللافتات كان قد أوصاني بها
أصحاب المحلات جاء احد أفراد الشرطة وبالتحديد من مركز شرطة
العباسية يبلغني بأن العمل الذي أقوم به (أي كتابة مطالبات
المواطنين) هو عمل مخالف للقانون ويجب التوقف عن كتابة مثل هذه
القطع، عندها ابتسمت لأني كنت اكتب قطعة تقول (قطع الأعناق ولا قطع
الأرزاق) وقلت له ما هو الشئ المخالف للقانون في هذه القطعة؟
أجاب:(هذه تعليمات قيادة الشرطة) واخرج لي كتاب من مكتب الشؤون
الداخلية يقضي بضرورة توقيع تعهد من قبل الخطاطين بعدم كتابة
اللافتات التي تحرض على العنف وإلا سيتعرض المخالف إلى محاسبة
ومعاقبة من قبل الجهة التي رفعت الكتاب، الكلام لازال للخطاط الذي
أكد إن غالبية الخطاطين تعرضوا لمثل هذا الإجراء، الخطاط (بالطبع
رفض الكشف عن هويته) واصل حديثه قائلا: بعد يومين جاء احد ضباط
الاستخبارات ومعه مجموعه من منتسبي الجهاز يطالب وبكل أدب بان اكف
عن كتابة مثل هذه القطع لأنها تحرض على العنف، إلا انه عندما قرأها
لم يجد أي نوع من أنواع العنف واكتفى بالسكوت دون النطق بأي كلمة،
ولكني قلت له انك لست أكثر وطنية مني ولا اعتقد أنكم تحبون العراق
أكثر منا، احد أصحاب المحلات ممن علق على باب محله لافتة كتب عليها
(ارفعوا عنا الحصار يا مجلس محافظة كربلاء) قال: ان شخصين دخلوا
إلى المحل واستأذنوا مني بضع دقائق وذهبت معهم وبعد أن استفسرت عن
الجهة التي ينتمون إليها اجابوا بانهم منتسبون في جهاز
الاستخبارات، وابلغوني بالحرف الواحد (عندك أطفال وزوجة وأنت مو
وجه بهذلة وبعد لا تعلك مثل هاي اللافتات ونزله إلك أحسن و
العائلتك) عندها دخلت الى المحل وأنزلت اللافتة واحترمت نفسي وجلست
أفكر واتسائل مع نفسي (هل سقط نظام صدام فعلا؟ وإذا كان سقط فمن
هؤلاء؟).
هناك قصص مشابهة في هذا الموضوع ولكن سأكتفي بما عرضته، وأوجه
سؤال إلى من يهمه الامر، وهو، إلى إي درجة من الديمقراطية تريد ان
يصل الشعب؟ فهو استخدم ابسط أنواع الاحتجاج وبدرجة عالية من
الديمقراطية، دون جرح احد ولم يستخدم عبارات السب والقذف ولم يوجه
تهمة الى احد من مسؤولي المحافظة أو حتى الحكومة، فهل هناك شئ في
مطاليب المواطنين تدعو إلى العنف أو الإرهاب؟ وهل هزتك قطعة قماش
بيضاء رفعها صاحب محل يريد ان يأكل لقمته بالحلال؟ وهل ان الكرسي
الذي تجلس عليه هش الى هذه الدرجة لتهزمه لافتة كتب علها (قطع
الأعناق ولا قطع الأرزاق)؟.
ان تهديد أصحاب المحلات وتوقيع الخطاطين على تعهدات، يمثل بداية
خطيرة لعمل جهاز امني خطير ومهم، مثل هذه التصرفات وغيرها تشوه
الصورة التي بناها هذا الجهاز الأمني الخطير بعد إن أدى دورا مهما
في القضاء على العصابات المجرمة في كربلاء في الوقت الماضي وساهم
بشكل كبير في خلق الاستقرار في المدينة، إلا ان ما قام به (من
تهديد) لأصحاب المحلات بعد مطالبتهم بفتح مركز المدينة، يمثل نقطة
سوداء يجب تنظيفها بشكل جديد، لكي لاتعود ايام التهديد والوعيد
والمعتقلات التي وضع أسسها نظام صدام المقبور.
* كربلاء – العباسية الشرقية |