الاصولية: تقولب الذات وعطالة العقل

 التطرف الديني والعولمة الثقافية

علي عبود المحمداوي

إشكالية الفكر الواحد  (الاصولية والعولمة):

ما الذي دعا إلى التطرف والأصولية اللاغربية  عموما  و الإسلامية خصوصاً؟ وما الذي حدا  بها من أن تتخذ لها موقفا عدائياً من الغرب؟ وهل هو انعكاس لأصولية أخرى أم أن العداء هو مكنون في اصل الفكر الإسلامي؟

اعتقد أن الإجابة عن هذه التساؤلات تكمن في إنه مثل هكذا أصوليات هي ليست إلا رد فعل وتجليا ما ضد أصولية أخرى تحاول أن تفرض نفسها عليه، وهي بذلك تنطلق من مبدأ الفكر الواحد، وما فكرة العولمة إلا استجابة لنموذج الفكر الواحد والية لتطبيقه وهي التي أوجدت التطرف وخلقته وطورته والذي جاء كردة فعل أو رفض للنموذج الأصولي – الأمريكي المراد تعميمه وفرضه أو جعله يبدو لزاماً أو فرضاً لا يمكن تجاوزه.

      وان كان النموذج المراد تعميمه تحت مظلة العولمة هو النموذج الأمريكي وهو الحقيقة، فإن النموذج بديمقراطيته وليبراليته ورأسماليته، يستدعي تناقضاً صارخاً، فهو يجعل من أيديولوجية الفكر الواحد المفترض تعميمها تتناقض داخلياً وذاتياً مع مبدأ الديمقراطية الذي يعني إرادة الشعوب واختيارها، كما يربط ذلك تلقائياً مع الحريات الشخصية - الفردية والجماعية، وذلك يعني ما يرتبط بالليبرالية التي تنافي مبدأ النموذج الواحد (العولمة)،ولذلك تداعياته ايضاً على المستوى الاقتصادي فالرأسمالية الأمريكية تستدعي الاقتصاد الحر للشركة والجماعة والأفراد أو التحالفات الدولية وذلك يعارض سياسية الفكر الواحد أما ما ينظر له على انه عولمة من تبادل السلع  التجارية وتنوعها من حيث التنشئة والصنع والاستهلاك، هذا لا يعني العولمة وان ظهر المفهوم مرتبطاً بها إذ إن مثل هكذا مسائل لا تعدو كونها انتفاع متبادل وتنوع يصب في مصلحة المجتمعات المتعاملة كان منذ فجر تكوين الاجتماع البشري ومازال وسيبقى لأنه حاجة إنسانية مستمرة، وبنظرة فاحصة يتبين ما لهذه المعطيات الآنفة الذكر من اثر في خلق بيئة فكرية (لمفهوم العولمة) متناقضة وغير متزنة.

معالجات ضرورية لفكرة النموذج الواحد:

وفي محاولة للحد من ظاهرة نموذج الفكر الواحد المفروض ومحاولة تعميمه التي انطوت العولمة عليه وحاولت تأكيده والعمل من اجله وعملت ذلك من جوانب عدة، فإنه يتوجب الحث على فكرة إغناء التنوع البشري والحضاري والقبول بنماذج مختلفة من الفكر والهوية والتأكيد على دعم اختلاف الانتماء وتنوعه لأجل التقارب وهذه العبارة تستدعي أن يكون الاختلاف في نفس اللحظة يتضمن ائتلافاً معيناً والقصد هو تطبيق فكرة تعارف الحضارات وحوارها وتعايشها بتنوعها واختلافها وهذا ما اسند من قبل النص القرآني والديني الذي ربط بين الأصل الإنساني الواحد وبين التنوع البشري الواقعي المتعدد وجعله يرتبط بـ(التعارف) الذي يشكل المنهج له، والوصول به إلى غاية  خلق المحبة والسلام والأمن، "ولعل من أكثر الآيات القرآنية التي عبرت عن رؤية الإسلام في هذا المجال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) (فـ) مفهوم التعارف في هذه الآية ينطبق على المجتمعات الصغيرة والكبيرة, فهو يؤكد على التعارف على المستوى الإنساني العام.

 وفي هذه النطاق أيضا يأتي التأكيد على ضرورة الانفتاح والتواصل الثقافي والعلمي والتربوي في النطاق العربي والإسلامي, وتعزيز التضامن الاجتماعي والسياسي, العربي والإسلامي, الحكومي وغير الحكومي, إلى جانب النهوض والتكامل الاقتصادي, وزيادة التبادلات البينية في ظل إجراءات جمركية وتشريعات قانونية ميسرة, وإعطاء الأولوية للاستثمار وحركة الأموال بين هذه الدول في ظل أجواء حقيقية من الثقة, والسعي نحو تأسيس سوق إسلامية مشتركة, ومنظمة اقتصادية إسلامية متحدة.

أما على المستوى العالمي فنحن بحاجة لتكوين فهم جديد, ومعرفة معمقة للعالم وتحولاته وتغيراته المتعاظمة, لكي نعرف موقعنا في هذا العالم, وكيف نستفيد من منجزاته, وخبراته الحضارية " وكل تلك الغايات لا تتم إلا بتجاوز الفكر الأصولي الذي مازال يدعو لان يكون هو فقط  من دون الآخر، على مستوى الوجود والحضارة والثقافة، ولا يمكن تجاوز هذه الآثار السلبية للتطرف إلا بالدعوة إلى التسامح Tolerance الذي أساسه قبول الآخر والتعرف عليه والتسامح معه لأنه يقوم على مبدأ مراعاة الآخر والاعتراف والاهتمام به، و إلا لما كان دعا إلى التسامح معه.

التسامح والمسألة الدينية:

كثيراً ما ارتبطت مسألة التسامح بالقضية الدينية، وأول أو ابرز من كتب في هذا المجال هو لوك،فقد ارتبطت " مقولة التسامح بالمسألة الدينية من قبل الفيلسوف جون لوك بوصفها الحل العقلاني الوحيد لمشكلة الخلافات التي نشأت داخل المسيحية التي هي الدين الرئيسي في الثقافة الغربية " " والتسامح في الدين هو احترام حرية التعبير والانفتاح الفكري تجاه الذين يمارسون ديانات وعقائد دينية مختلفة عمّا نمارس "

وعبر عبد الرحمن بدوي عن فكرة التسامح الديني بتفصيل في مقدمته لرسالة جون لوك في التسامح، إذ قدم عرضا وتحليلا لأهم الأفكار في التسامح الديني، فهنالك نوعين من الرؤى الدينية أولها التي ترى الأديان متساوية وإنها ممتلكة للحق على التساوي والمماثلة فهؤلاء يؤكدون على التسامح لان كل دين هو حق وحسن، والنظرة الأخرى تقول بنسبية الدين أو النسبية الدينية التي تعتقد بأن كل دين يكشف عن جزء أو جانب من الحق، وهم يؤمنون بفكرة التكامل الديني إذ أن الأديان كلها ضرورية من اجل تحصيل الحق بأكمله.

الا ان مسألة التسامح فيها قدر كبير من المحذور في حالة قربها او بعدها من الدين، فبمستوى ما للمتطرفين الدينين من اثر في العنف واللاتسامح ورفض الآخر وعدم الاعتراف به بمستوى ما نجد كثير من النصوص الدينية (لأي فرقة أو ملة أو مذهب) تحث على لا تساهل والتسامح وقبول الآخر والتعددية الدينية، قال تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (6) سورة الكافرون.

   وعرض البعض من رجال الدين في العصر الوسيط وخاصة مع الفكر الكنسي المسيحي بالذات فكرة التسامح فقد " كان هنالك رجال دين كبار يحاربون التسامح الديني وأي تساهل مع ليس فقط الأديان الأخرى... بل مع المذاهب الدينية المسيحية الأخرى "

   ومنهم من دعا إلى عدم التسامح مع البروتستانت (لأنهم يمثلون الإصلاح أو التغيير) لأنه يجد أن الكاثوليك هم الحقيقة المطلقة التي لا يساورها أو يجاورها باطل وهم الوحيدين الذين يستحقون الاحترام.

وعلى العكس ومما يستهجن على " لوك " هو استثناء الكاثوليك من التسامح في رسالته حول التسامح لأنهم يدينون بالولاء للبابا ولملك فرنسا حينها وكأنها جاءت بالضد من فكرة الاستهجان المقابلة للبروتستانت من الكاثوليك.

وهذه الفكرة (أي مسألة الوقوف بالضد من مبدأ التسامح) لم تقتصر على الفكر الكنسي بل تجد كثير م الرموز الدينية الإسلامية هي الأخرى لاترى الحق إلا فيها ومنها ومعها، أما الباقي فهم في ضلال لا بل يجب قتلهم وإلغاءهم على مستوى الفكر والسلوك والوجود ايضاً، وهذا ما برعت به فرق من أمثال السلفية المعاصرة (الوهابية) التي اسميها بالأصولية المتطرفة الإسلامية.

بعد ان قرأنا (نوعا ما) جزئيات الظاهرة (الاصولية) لابد لنا من سبر غور الاسباب ومكامن وخفايا وكواليس صنع الحقيقة والفكر الاصوليين وماهية الجذور التي دعت الى هذا اتلطرف ونشوء هذه الاصوليات اضافة على ما كان نوعا من ردة الفعل على الاصوليات الخرجة على بيئتها.

الجذور الفكرية للقراءة الدينية المتطرفة:

ان الجذور الفكرية للقراءة الدينية المتطرفة ترتبط من جانب  (بحالة ما قبل النص) اذ ان الذهنية المركبة لقارئ النص الديني غالبا ما تكون قد تكونت في حالة سابقة لقراءته المتأخرة للنص الديني وهذه الحالة ما تسمى بحالة ما قبل النص اذ ان النص مسبقاً محكوم بآلية للتعامل معه ولعل هذه الآلية مستندة على نصوص دينية أخرى لكن الأمر لا يتعلق بالقارئ المباشر ففي اغلب الأحيان تكون مسألة فهم النص الديني الإسلامي لدى المتطرفين خاضعة لهذه الآلية: آلية زق وزج المعرفة بالدين عبر المأسسة والية المؤسسة الخاصة بهم لذلك فان الجذور الفكرية هي الأساس في نتيجة الفهم للنص الديني، فذهنية الإرهاب المرتبط ببعض (المسلمين) ليست ذهنية أفراد مسلمين تحكمهم نزعة الفرادة في فهم الدين بل هم مجموعات من التنظيمات المؤسأسة تحت شعارات إسلامية الألفاظ وحشية المعنى والنتيجة.

 ومن جانب آخر فلا تقتصر مسالة فهم الدين على الحالة السابقة للقراءة الدينية بل ان هنالك مشكلة أخرى تراتبية على اثر المشكلة الأولى او سابقة لها (وذلك في جدلية تحددها كل مؤسسة من مؤسسات الفساد وصنع الإرهاب واللااصلاح) ويمكن ان نسمي المرحلة الأخرى من الجذور الفكرية لفهم الدين على انها (حالة قراءة النص) ؛ وتعني في ما تعني الممارسة الآنية والفعلية لقراءة النص الديني وما سيشوب تلك القراءة من دخول في الهرمونيطيقا = التأويل  وما سيقال حوله او خلافه على انه التأويل ليس هو المطلوب، إنما قراءة حرفية وان النص الديني واضح وبذلك تنشأ قراءتين في حالة الممارسة هذه الأولى تؤول النص والأخرى تقرأه على ظاهره وفي كلا الحالتين فان صناع الموت سيستطيعون النفوذ للمؤسستين اذ لم يكونوا هم من أسسوها.

     وفي حالة قراءة النص هذه فالأمر عائد إلى القارئ نفسه وما سيجاور تلك القراءة من اجتهادات، وفي المرحلة الأخرى من منابع الجمود والأصولية وجذور القراءة المتطرفة تأتي مرحلة النتائج وهي (حالة ما بعد النص) وفيها سيكون العمل خاضعا لنتائج المرحلة السابقة وما سيترتب عليها وهي اخطر مرحلة من مراحل التفكير المتطرف لأنه مرتبط بالسلوكية تجاه الآخر وهي هنا تمثل مصنعا للأصولية حسب افتراض القراءة السلبية للنص الديني.

المعالجات الضرورية للقراءة المتطرفة:

  وبعد ذلك يتبين لنا ان معنى الفساد في قبال الإصلاح مرتبطا بالفكر الأصولي والعنف وما جاوره من الجمود والتحجر،  ويتبين لدينا لزاما الحاجة إلى تسليط الضوء حول المعالجات المطلوبة على المستوى الفكري في سبيل الإصلاح والتجديد، وعلى ما سبق فإنه يجب ان نقدم حلا يوازي المشكلات المعروضة في سبيل البحث وهي مراحل قراءة النص وتراتبيات البناء عليه والعمل به (إسلاميا).    

وعليه ففي مقابل المؤسسات التي تمارس سلطتها على الأفراد في تلقين الدين ومفاهيمه عبر القسر والطريقة الاوحدية والمطلقية في امتلاك الحقيقة = الأصولية، يجب ان نواجه ذلك باتجاهين:

الاول:

 مأسسة القراءة للنص الديني عبر تجديد ذات المؤسسات الدينية (التي أكل الدهر عليها وشرب) او خلق الجديد في قبالها او في موازاتها وبذلك كأنما نحن اليوم بحاجة إلى إعادة ظاهرة محمد عبده في تجديد التعليم الازهري والذي يقابل لدينا اليوم إعادة منهجة وتأطير القراءات البشرية للنص الإلهي.

الثاني:

 الفرادة في قراءة النص الديني وصياغة المفاهيم، وبذلك خلق الفرد المثقف الليبرالي الإسلامي، وهذا أيضا لايمكن إيجاده وخلقه دون المرور بحالة المؤسسات السابقة للتثقيف على قراءة النص وهذه المؤسسات قد تماثل في واقعنا الإسلامي والعربي حالة المدارس الفكرية او مؤسسات المجتمع المدني او الجمعيات الثقافية فكل تلك المؤسسات مدعوة اليوم إلى الدفع بهذا الاتجاه لغرض تخليص الفرد المسلم والعربي من أزمة لطالما رافقته.

وبين الاثنين ترابط وتداخل قد يتوهم على انه تضاد الا انهما ضرورتان متداخلتان قد يسبق احدهما الاخر فيصبح الاخر ضرورة تراتبية له.

* مدرس الفلسفة السياسية

جامعة بغداد – كلية الاداب – قسم الفلسفة

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء  17/حزيران/2008 - 13/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م