تربع على عرش القلوب من دون سابق انذار، ودخل العقول من دون
استئذان، واستحوذ على تفكير الملايين من دون سابق معرفة، واختطف
المشاعر والاحاسيس بتواضعه، من دون تردد او ارادة، وأخذ بلب من
حوله، بوقاره وسكينته من دون استثناء.
استهوى الناس بمنطقه، وادهشهم بهدوئه، واثار فضولهم بعلمه
ومعرفته وثقافته، ونال رضاهم ومحبتهم واحترامهم باسلوبه الحواري
الفريد، وكسبهم الى جانبه، بجداله الموزون بالادلة العقلية
والاثباتات العلمية، واختطف الاضواء من دون ان يقصد ذلك، او يقصده
من انتبه اليه...متأخرا.
انه الفقيه الفقيد آية الله السيد محمد رضا السيد محمد المهدي
الحسيني الشيرازي اعلى الله مقامه، النجل الاكبر للمرجع الفقيد
الشيرازي قدس سره، والذي رحل عنا فجأة يوم الاحد الماضي (الاول من
حزيران 2008) عن عمر لما يبلغ الخمسين عاما.
لقد كان الاسرع في كسب الناس، والاقدر على التاثير بهم، والاجدر
بالتغيير، لولا ان اختطفته يد المنون، وهو بعد في اول المشوار
الطويل.
فعلى الرغم من انه لم يطل على المشاهدين والمستمعين عبر القنوات
الفضائية بمحاضراته واحاديثه الدينية التنويرية، الا اياما معدودات،
الا انه نجح خلالها في رسم معالم وعي ديني حضاري جديد، افتقدته
الساحة الاسلامية منذ امد بعيد، خاصة منذ ان اختطفت جماعات العنف
والارهاب والتكفير والتعصب والجهل والتحجر والوقوف عند الماضي، دين
الله السمح، الاسلام، ليتحول، بسبب ممارساتها وطريقتها المنحرفة،
الى نهج للقتل والتدمير والغاء الاخر والكراهية.
فكان لا بد من مصلح ومصحح، يبين معالم دين الله عز وجل، ويميط
اللثام عن حقائق الاسلام، فيرد عنه الشبهة، ويقوم المعوج من
الافكار التي تسربت اليه، فكان الرضا من آل الشيرازي لها اهلا، فهو
من احق الناس بالتغيير الثقافي، لانه اقواهم عليه، واعلمهم بامر
الله فيه،فانبرى بجرأة المؤمن وبسالة الواثق بربه وشجاعة الشهيد
على عصره، وبحجج منطقية وادلة عقلية، وبوعي رسالي قل نظيره، وصفاء
رؤية دينية متميزة، وبمنهج رباني يعتمد القرآن الكريم والصحيح من
السيرة النبوية ومدرسة اهل بيت العصمة والطهارة، تمكن، بكل ذلك، من
تحديد معالم دين الله من جديد، بعيدا عن الخرافات والقياس الباطل
والاجترار والانشاء الذي لا يغني ولا يسمن من جوع، وبعيدا عن ثقافة
(الاحلام) التي ابتلي بها هذه الايام الكثير الكثير من الخطباء
واصحاب المنابر، وممن يطل علينا يوميا من خلال الشاشة الصغيرة،
فبالرغم من انه كان اكثر دهره صامتا، الا انه عندما قال رايه في
الدين والقران الكريم والسنة المطهرة، والحياة والحضارة، بذ
القائلين، ونقع غليل السائلين، اذ كان لا يدلي بحجة حتى ياتي قاضيا،
ولذلك حقق نجاحا باهرا وسريعا جدا وبوقت قياسي فريد، وفي خلال
الايام المعلومات التي اطل بها على الملايين التي كانت تتابع
احاديثه الحضارية الدينية التنويرية المتلفزة، بشغف وشوق ولهفة.
وكان الفقيه الفقيد يستنصح الله تعالى في اموره، ولذلك وفق لما
انبرى اليه من مهام ومسؤوليات، وكان يتخذ من قول الله عز وجل
دليلا، فهدي للتي هي اقوم، لعلمه بان جار الله تعالى آمن، وعدوه
خائف، ولانه تواضع لله فقد رفعه ربه في عليين، في الدنيا والاخرة،
بعد ان علم انه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله تعالى ان يتعظم {فان
رفعة الذين يعلمون ما عظمته ان يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون
ما قدرته ان يستسلموا له} على حد قول جده امير المؤمنين علي بن ابي
طالب عليه السلام، ولكل ذلك اعتقل الفقيه الفقيد نفسه على الله
عزوجل، فاختاره الى جواره راضيا مرضيا باذنه تعالى.
كان يراقب نفسه ويعاتبها قبل ان يستعتب، ودليله الى ذلك قول جده
امير المؤمنين عليه السلام {اعلموا عباد الله ان عليكم رصدا من
انفسكم، وعيونا من جوارحكم، وحفاظ صدق يحفظون اعمالكم، وعدد
انفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، ولا يكنكم منهم باب ذو
رتاج، وان غدا من اليوم قريب} فكان مؤدب نفسه قبل ان يؤدب الاخرين،
ومعلمها قبل تعليمه الاخرين، وكان نموذج نفسه قبل ان يكون نموذجا
لغيره، فكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، وكان اذا غلب على
الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على ما يسمع احرص منه على ان
يتكلم.
لقد عرف الفقيه الفقيد ربه، بعد ان تيقن بان اول الدين معرفة
الله تعالى، أو لم يقل جده امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه
السلام {اول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق
به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات
عنه، لشهادة كل صفة انها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف انه غير
الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه
فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد اشار اليه، ومن اشار
اليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال فيم فقد ضمه، ومن قال علام
فقد أخلى منه} لذلك صدق الفقيه الفقيد ربه بتوحيده عز وجل والاخلاص
اليه تعالى، فلم يشرك به شيئا قيد انمله، لا في نية ولا في عمل.
ثم آمن برسوله وبما خلف في أمته من كتاب الله عز وجل، الذي قال
عنه جده امير المؤمنين عليه السلام واصفا مرحلة ما بعد رحلة الرسول
الكريم (ص) {فقبضه اليه كريما صلى الله عليه وآله، وخلف فيكم ما
خلفت الانبياء في اممها، اذ لم يتركوهم هملا، بغير طريق واضح، ولا
علم قائم، كتاب ربكم فيكم، مبينا حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله
وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وامثاله،
ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسرا مجمله ومبينا غوامضه} فكان
الفقيه الفقيد معلما للقرآن الكريم، يغوص في آياته برفق ليستكشف
اعماقه بتوئدة وحذر، حتى لا يقع فيما وقع فيه من غاص فيه على عجل،
فاخطا المفهوم ولم يدرك المعنى، فكان الفقيه الفقيد مهتما بتعلم
القران وتعليمه، فكتب في بدايات شبابه كتابه الموسوم (كيف نقرا
القرآن؟) في محاولة جادة منه لتلمس طريق المعرفة القرآنية الربانية،
لنفسه وللاخرين، اذ كان الفقيه الفقيد حريصا على ان يفهم جيل
الشباب خاصة، القران الكريم كما يريد الله تعالى ورسوله الكريم
وائمة الهدى، لا كما يريد اهل الاهواء والاغراض الدنيوية.
لقد زهد الفقيه الفقيد بالدنيا حتى كاد ان يلقي حبلها على
غاربها، لولا انه وعى قول جده امير المؤمنين عليه السلام الذي يقول
فيه {اما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام
الحجة بوجود الناصر، وما اخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على
كظة ظالم ولا سغب مظلوم، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها
بكأس اولها، ولالفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز} فكان
سلاحه العلم والمعرفة، ودرعه كتاب الله عز وجل، ولامة حربه المنطق
والدليل والجدال بالتي هي احسن.
وانما زهد في الدنيا لقول جده امير المؤمنين عليه السلام {ما
اصف من دار اولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها
عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته،
ومن قعد عنها واتته، ومن ابصر بها بصرته، ومن ابصر اليها اعمته}.
ولقد كان الفقيه الفقيد ينظر الى حال من سبقه من الانام فيتخذهم
عبرا، كما قال جده امير المؤمنين عليه السلام {عباد الله اين الذين
عمروا فنعموا، وعملوا ففهموا، وانظروا فلهوا، وسلموا فنسوا، امهلوا
طويلا، ومنحوا جميلا، وحذروا اليما، ووعدوا جسيما، احذروا الذنوب
المورطة، والعيوب المسخطة.
اولي الابصار والاسماع، والعافية والمتاع، هل من مناص او خلاص،
او معاذ او ملاذ، او فرار او محار، ام لا فانى تؤفكون، ام اين
تصرفون، ام بماذا تغترون، وانما حظ احدكم من الارض ذات الطول
والعرض، قيد قده، متغفرا على خده الان، عباد الله والخناق مهمل،
والروح مرسل، في فينة الارشاد وراحة الاجساد وباحة الاحتشاد، ومهل
البقية وانف المشية وانظار التوبة وانفساح الحوبة قبل الظنك
والمضيق، والروع والزهوق، وقبل قدوم الغائب المنتظر} فهل بعد كل
هذا، من فرصة للتهالك على الدنيا؟.
لقد تيقن الفقيه الفقيد ان دين الله لا يدرك الا باهل البيت
عليهم السلام، الذين قال عنهم جده امير المؤمنين عليه السلام {هم
عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وصمتهم عن حكم
منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، هم دعائم الاسلام وولائج
الاعتصام، بهم عاد الحق في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع
لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية،
فان رواة العلم كثير ورعاته قليل} وان القران الكريم لا يفهم الا
بعلومهم، وان الهداية الى الطريق المستقيم تمر عبر الائمة الهداة
المهديين من آل بيت الوحي والنبوة، كما قال جده امير المؤمنين عليه
السلام {بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم العلياء، وبنا انفجرتم عن
السرار} ولذلك تسلح الفقيه الفقيد بقولهم وسيرتهم ونموذجهم، فجاء
منطقه قويا، ودليله متينا، وحجته دامغة.
كان اذا تيقن ان رضا الله تعالى في امر ما، لم يتردد في انجازه،
ولم يتخوف في الاقدام عليه، ولم يخش الا الله تعالى، فقام بامر
الوعي والارشاد وتوضيح معالم الاسلام، حين فشل كثيرون، وتطلع الى
المسؤولية حين تقبعوا، ونطق بالحق والصدق حين تعتعوا، ومضى بنور
الله تعالى وهدايته عز وجل حين وقفوا، ومع كل ذلك، كان اخفض
الناطقين صوتا واعلاهم فوتا، فطار بعنانالرسالة واستبدد برهان
المسؤولية، كالجبل لا تحركه القواصف، ولا تزيله العواصف، فلم يكن
لاحد فيه مهمز، ولا لقائل فيه مغمز.
هدوؤه وهو يحاضر، دليل قوة الحجة التي يسوقها بثبات وعزيمة قل
نظيرها، فلم يكن بحاجة الى ان يوظف الصراخ لاقناع المستمع او
المشاهد، كما ان شدة الوضوح في منطقه، وهو يلقي حديثه، دليل صفاء
الرؤية في ذهنه.
لم يرخص لنفسه مكروها ليفعله، او مستحبا ليتركه، بل كان الدين
عنده امران، حلال وحرام، واجب التحقيق وواجب الترك، فلم يغتب احدا
تحت اي عنوان، ولم يرتد مجالس البطالين لحظة واحدة، لان الزمن عنده
فرصة، مهما صغرت، او كانت اصغر من {قبل ان يرتد اليك طرفك} ولذلك
كان يبادر الى اغتنام الفرص ويوصي، بذلك، من حوله،خاصة من الشباب
اليافع، كما انه لم يترك صلاة الليل يوما واحدا منذ ان بلغ السن
التكليف الشرعي، وكان يصبر نفسه على الدنيا باعتبارها قنطرة لا بد
من عبورها، ان عاجلا ام آجلا، فلماذا لا يعبرها المرء على احسن حال؟
كما كان اطوع الناس لربه، لانه كان انصح الناس لنفسه، وكان اذا نوى
عملا او حديثا يلقيه، استعاذ بربه من الشرك، لياتي خالصا لوجهه
الكريم، فاذا شك في شئ من ذلك، ترك الامر، مهما كان عظيما، لانه
كان على يقين من ان الله تعالى انما يتقبل من المتقين، فلماذا
يتحمل عناء عمل ليس فيه لله رضا؟ كما كان صادقا في القول والعمل،
وكان اذا اعجب بعمل امرء غبطه على ذلك ودعا له وشجعه عليه، فلم يكن
يعرف للحسد معنى، بل كان همه ان ينجح الاخرون كما يحب لنفسه ان
يكون ناجحا، واتذكره كيف كان يشجعني ويشد على يدي للاستمرار في
الكتابة كلما هاتفته لامر ما، وكان يكرر علي قوله (بيانك مسؤولية
فلا تتركه، وقلمك رسالة فلا يسقط من يراعك) فكنت احس وكأن الغيب
يدعوني لمواصلة المشوار، فكان في كل ذلك انموذجا حيا لقول جده امير
المؤمنين عليه السلام {فاستدركوا بقية ايامكم، واصبروا لها انفسكم،
فانها قليل في كثير الايام التي تكون منكم فيها الغفلة والتشاغل عن
الموعظة، ولا ترخصوا لانفسكم، فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب الظلمة،
ولا تداهنوا فيهجم بكم الادهان على المصيبة، عباد الله ان انصح
الناس لنفسه، اطوعهم لربه، وان اغشهم لنفسه، اعصاهم لربه، والمغبون
من غبن نفسه، والمغبوط من سلم له دينه، والسعيد من وعظ بغيره،
والشقي من انخدع لهواه، واعلموا ان يسير الرياء شرك، ومجالسة اهل
الهوى منسأة للايمان، ومحضرة للشيطان، جانبوا الكذب فانه مجانب
للايمان، الصادق على شرف منجاة وكرامة، والكاذب على شفا مهواة
ومهانة، ولا تحاسدوا فان الحسد ياكل الايمان، كما تأكل النار الحطب،
ولا تباغضوا فانها الحالقة، واعلموا ان الامل يسهي العقل، وينسي
الذكر، فأكذبوا الامل فانه غرور، وصاحبه مغرور}.
لقد نظر اليه كثيرون بامل للمستقبل، واتخذه عديدون اسوة وقدوة،
اذا قال فهمه حتى العامة، واذا سكت اسلم نفسه من الخطا والخطل، لم
يصف عدلا قبل ان يعمل به، ولم ينه عن ظلم قبل ان ينتهي عنه، فكان
النموذج الذي يحتذى، وكان يستمسك باوثق العرى، ويترك الضعيف منها،
ولذلك جاء منطقه قويا وحجته بالغة، وقدرته على الاقناع استثنائية،
اذ كان كتاب الله تعالى قائده وامامه، لا يتقدمه ولا يتاخر عنه، قد
اخلص نفسه لله تعالى، فاستخلصه الله تعالى، وربما لذلك، عجل عليه
منيته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فكان في كل ذلك، مصداق قول جده
امير المؤمنين عليه السلام {عباد الله، ان من احب عباد الله اليه
عبدا اعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف، فزهر مصباح
الهدى في قلبه، واعد القرى ليومه النازل به، فقرب على نفسه البعيد
وهون الشديد، نظر فابصر، وذكر فاستكثر وارتوى من عذب فرات سهلت له
موارده فشرب نهلا وسلك سبيلا جددا، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى من
الهموم الا هما واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة اهل
الهوى، وصار من مفاتيح ابواب الهدى ومغاليق ابواب الردى، قد ابصر
طريقه وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، استمسك من العرى
باوثقها، ومن الحبال بامتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد
نصب نفسه لله سبحانه في ارفع الامور من اصدار كل وارد عليه، وتصيير
كل فرع الى اصله، مصباح ظلمات، كشاف عشاوات، مفتاح مبهمات، دفاع
معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد اخلص لله
فاستخلصه، فهو من معادن دينه، واوتاد ارضه، قد الزم نفسه العدل،
فكان اول العدل نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع
للخير غاية الا امها، ولا مظنة الا قصدها، قد امكن الكتاب من زمامه،
فهو قائده وامامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله}.
كان يعمل لآخرته، ليوم تذخر له الذخائر، وتبلى فيه السرائر، فلم
تره الا في طاعة الله تعالى على اية حال، في ليل كان ام في نهار،
قائما او قاعدا.
آه آه على الفقيه الفقيد الذي تلى القرآن فاحكمه، وتدبر الفرض
فاقامه، احيا السنة وامات البدعة، ولبى نداء جهاد النفس و.....الكلمة
الطيبة التي مثلها {كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء* تؤتي
اكلها كل حين باذن ربها}.
لقد كان الفقيه الفقيد من ابرز مصاديق وصف جده امير المؤمنين
عليه السلام للمتقين بقوله {المتقون فيها هم اهل الفضائل، منطقهم
الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضوا ابصارهم عما حرم
الله عليهم، ووقفوا اسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت انفسهم
منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الاجل الذي كتب لهم لم
تستقر ارواحهم في اجسادهم طرفة عين شوقا الى الثواب، وخوفا من
العقاب، عظم الخالق في انفسهم فصغر ما دونه في اعينهم، فهم والجنة
كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها
معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، واجسادهم نحيفة، وحاجاتهم
خفيفة، وانفسهم عفيفة، صبروا اياما قصيرة اعقبتهم راحة طويلة،
تجارة مربحة يسرها لهم ربهم، ارادتهم الدنيا فلم يريدوها، واسرتهم
ففدوا انفسهم منها.
ولقد خالطهم امر عظيم، لا يرضون من اعمالهم القليل، ولا
يستكثرون الكثير، فهم لانفسهم متهمون، ومن اعمالهم مشفقون، اذا زكي
احدهم خاف مما يقال له فيقول: انا اعلم بنفسي من غيري، وربي اعلم
بي من نفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني افضل مما يظنون،
واغفر لي ما لا يعلمون.
فمن علامة احدهم انك ترى له قوة في دين، وحزما في لين، وايمانا
في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم، وقصدا في غنى، وخشوعا في
عبادة، وتجملا في فاقة، وصبرا في شدة، وطلبا في حلال، ونشاطا في
هدى، وتحرجا عن طمع}.
لقد كان، والله، الفقيه الفقيد كذلك، يشهد له من عرفه وعايشه
وسمعه واصغى اليه ونظر في وجهه وتحدث اليه.
فرحم الله الفقيه الفقيد، وجزاه الله عن الاسلام والمسلمين خير
جزاء المحسنين، بدفاعه عن الاسلام والذب عن حياضه، والتعريف بمدرسة
اهل البيت عليهم السلام، واسكنه فسيح جنانه في مقعد صدق عند مليك
مقتدر، وحشره مع من تولاهم في الدنيا، حبيب اله العالمين ابي
القاسم محمد (ص) واهل بيته الطيبين الطاهرين، ولقد رحل عن الدنيا
وتركنا لها، وخلف وراءه قلوبا حزينة ونفوسا مشتاقة، فكيف بمن احبه
اذا اراد ان يبل الشوق ويبرد المصاب؟.
برايي، فان الطريق الى ذلك، في مواصلة المسير الذي سار عليه
الفقيه الفقيد، فالالتزام بما التزم به، والعمل بما عمل به،
والتمسك بما تمسك به، وفعل ما فعله، وقبل وبعد كل ذلك، الايمان بما
آمن به، الايمان بالله ورسوله وبائمة الهدى والتمسك بالقران
الكريم، ان كل ذلك، يهون الخطب ويقلل من الم المصيبة، وبه تتواصل
مسيرة العلم والمعرفة والتنوير، في زمن تخنقه الظلامات المتراكمة،
وبه نفي بعهدنا الى الله والفقيد، ولا نقول الا ما يرضي الله
عزوجل، وانا لله وانا اليه راجعون، وصدق العلي الاعلى الذي قال في
محكم كتابه الكريم {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه،
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا} صدق الله
العلي العظيم.
احر تعازيي للمرجع الشيرازي دام ظله الوارف، ولاشقائه المحترمين
اعزهم الله تعالى، والى الاسرة الكريمة، والى ابنائه وكل المتعلقين
به، والى كل من احبه ونهل من علمه، والى كل محزون ومهموم بسببه،
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
[email protected] |