الاتفاقات الأمنية العسكرية مع العراق

 وقضية السيادة والاستقلال والمسؤولية؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

تناقلت وكالات الأخبار نبأ عقد اتفاق دفاعي مشترك بين أطراف في الحكومة العراقية وإيران. يأتي ذلك في وقت تصاعدت حدة السجالات بصدد الاتفاقية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبمراجعة سريعة لجميع أنشطة (مراكز القرار) في الحكومة العراقية في السنوات الخمس الأخيرة فسنجد أنَّ أبرز ما جرى هو الصمت المطبق على القصف المتصل المستمر للجانبين الإيراني والتركي الذي طاول الأراضي العراقية سواء على الحدود أم في العمق العراقي! وما زالت جريمة اختراق السيادة العراقية وتهديد سلامة التراب العراقي ووحدته وأمن العراقيين وتعريضهم لشتى المخاطر حال مستمرة حتى لحظة توقيع الاتفاق الدفاعي الأمني المشترك وحتى يومنا هذا.

وطبعا لا تنسى الذاكرة العراقية أن المسؤولين من أصحاب الكلمة والقرار في الحكومة قد كانوا في استقبال واحتفاء بممثلي تركيا في وقت كان جيشها يجتاح الأراضي العراقية كما تفاعلوا مع الجانب الإيراني في وقت كانت مدفعيتهم تدك القرى والمدن معرِّضة أبناءها لكل المخاطر..

وأكثر من ذلك تمَّ عقد الاتفاقات مع تلك الوفود في مجالات التعاون المختلفة منها ما جاء تلبية لدواعي وأسباب داخلية تخص البلدين الجارين وليس للعراق فيها لا ناقة ولا جمل... كما في حال فرض قيادة الجارة تركيا شرط مشاركة الحكومة العراقية في مطاردة قوات حزب العمال ومشاطرة التوجهات اللاديموقراطية في التعاطي مع قضايا الشعب في تركيا بما دانته الحكومات الأوروبية والديموقراطية عامة وعملت وتعمل ه9ذه القوى على تحقيق المنجز الديموقراطي في تركيا بعيدا عن النهج الاستعلائي الشوفيني الجاري...

وها نحن ندخل في اتفاقية أمنية بشكل يفاجئ حتى بعض مراكز القرار العراقي كما في تصريحات رئاسة أركان الجيش العراقي التي أعلنت بوضوح أن مجيء الاتفاق بعيدا عن مشاورتها يدفعها للتشكيك به وبما وراءه من نوايا وأبعاد!؟ هذا فضلا عن  توقيع الاتفاق بعيدا عن البرلمان العراقي ودوره الرقابي على أداء الحكومة.. فإذا كان هذا قد حدث مع إيران، فما الذي ننتظره بشأن الاتفاقية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية؟

إنَّ أغلب ما جرى تمريره من اتفاقات وقرارات قد تمَّ بذريعة طبيعة التوازنات والظرف العراقي الخاص أو على وفق التعقيدات التي تحيط بهذه الحادثة أو تلك... ولكن المشكل الحقيقي لا يكمن في الطارئ العابر بل فيما يُبيَّت من نوايا ومراسيم ستكبِّل العراق طويلا بقيود أقلها وأصغرها شأنا عقد الاتفاقات الثنائية الإقليمية والدولية ولن يكون أخطرها شؤون الحدود العالقة مع جيران العراق أو قضايا مثل قضية المياه وسرقة حقول البترول العراقي والمعادن الاستراتيجية الثمينة الأخرى...

إنَّ الخطر الحقيقي يكمن في أمور استراتيجية بعيدة المدى تتعلق بأن يكون العراق أو لا يكون؟ وبأن نجد لأنفسنا فرصة للعيش بأمان واستقلالية نمتلك فيها إرادتنا وحقنا في الحياة الحرة الكريمة بعد أن نزف منّا لا النفط ولا ثروات البلاد وتهجير ملايين العباد بل قطرات الدم التي تجري في عروق من بقي مكافحا متشبثا بالوطن والناس وحقه في الحياة...

لقد قلتُ مع شعبنا وممثليه بأنَّ راهن وضعنا لا يسمح للحكومة بعقد اتفاقات استراتيجية وأنه إذا أُريد أن يتم عقد أية اتفاقية فيجب فيها:-

1.  ألا تُدخِل العراق في أيّ حلف عسكري أو ارتباطات عسكرية أو أمنية إقليمية أو دولية.. فلقد ولى زمن الأحلاف العسكرية وولى معه زمن التبرع برقاب العراقيين لمعارك وحروب عبثية عصفت بهم وأكلت بهم الدهر وأشاعت القهر والذلّ. وما تطلع إليه العراقيون بعد رحيل زمن الطاغية هو ألا يعود إليهم بطاغية وألا يعود إليهم بفلسفة الطغاة التي جرَّت وتجرّ بالعراقيين إلى ميادين الموت والقهر...

2.  ألا تتم أية اتفاقية من دون حال الإجماع بالعودة إلى جميع القوى الوطنية المؤمنة بالعملية السياسية سواء كانت داخل الحكومة أم خارجها وأخذ موافقتها تامة واضحة وتوقيعها أولا وقبل تمرير الاتفاقية...

3.  أن يجري نشر نص الاتفاقية بكل شفافية وأن يتم تسجيل بند فيها يشير إلى عدم وجود ملاحق أو فقرات سرية غير معلنة...

4.  وليس أخيرا أن يجري لكل قرار استرتيجي استفتاء الشعب العراقي عليه؛ ومن ذلك الاستفتاء على الاتفاقية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة الأمريكية قبل مصادقة البرلمان عليها وبعد التداول القانوني المسؤول بخصوصها..

وبخلاف هذه الشروط فلا موافقة ولا شرعية لأية إجراءات متخذة بشأن أي اتفاق أمني عسكري دفاعي أو غيره ومع أية جهة..

وينبغي هنا أن نؤكد على أن عقد اتفاقية أمنية كالتي جرت مع الجانب الإيراني لا يمثل تجاوزا على المسؤولين المعنيين في الإدارة الحكومية كما في رئاسة الأركان العراقية بل يمثل تجاوزا بيّنا على البرلمان العراقي ومهامه وتجاوزا لصلاحية الحكومة وحدود ما يمكنها فعله ما يمثل خرقا دستوريا يوجب على البرلمان مساءلة المعنيين بشخص معالي وزير الدفاع ودولة رئيس الوزراء قد تصل المحاسبة البرلمانية فيها لحدود طرح الثقة ووقف إجراءات تلك الاتفاقية...

إنَّ من حقي وحق العراقيين أن يستأنفوا لدى المحكمة الدستورية العليا وعبر البرلمانيين الشرفاء ليوقفوا أية محاولة للتفريط بحقوق العراقيين أو لإخضاعهم لاتفاقيات تخل بمصالحهم الوطنية العليا أو تعرّضهم لويلات الارتباطات بأحلاف عسكرية أو أمنية إقليمية أو دولية بما يضر بهم وبمستقبلهم...

إنَّ العراقيين اليوم من الوعي ما يذهب باتجاه تمتين الجهود وصبِّها في الإطار الذي يحمي مصالحهم ويدافع عنها وعن مستقبلهم. ولا يمكن لهذا أن يتم بالانقسام والتشظي والتشرذم، فنحن هنا لا نتصيد لمسؤول حكومي؛ بل في قضية تجري بين العراقيين في طرف وأي جهة أجنبية تتوحد الجهود ولا نسمح لأحد بابتزاز مسؤول أو جهة حكومية أو الاستفراد به لتمرير اتفاق أو غيره مما يضر بالعراقيين...

فالعراق الجديد قد وضع أصبعه البنفسجي على صفحة بيضاء للبدء بمشروع بناء مؤسساته الديموقراطية التي لا نتخلى عنها وإذا كنّا نعاني من خلل هنا أو ضعف هناك فإننا مع مؤسستنا الحكومية نعمل ونمضي سويا ونصوِّب ونقوِّم المسيرة سويا ولا نتعرض لمسؤول يخطئ ولكننا نعفيه من ثقل المهمة لنضع البديل القادر على تحقيق تلك المهمة الوطنية وهو ما لن يكون عداء مع طرف أو انقسام في الموقف بقدر ما سيكون عملا جمعيا مؤسساتيا وثقتنا ستتوطد وتتنامى مع تطهير مؤسساتنا تلك من الفساد ومن الأخطاء ومن النواقص والهنات ومن كل ما يمكن أن يعرّضنا لخطر من أي نوع...

والعراق الجديد قبل هذا وبعده غير مستعد أبدا للتفريط بقرار الشعب [وتكليفه مؤسسات دولته بالمهمة الوطنية] في تبني مسيرة سلمية ثابتة راسخة مع جميع جيرانه وأنه لن يُقدِم على اتفاق عسكري مع طرف يمكن أن يفسره طرف آخر بأنه تهديد له أو اعتداء على العلاقات الاستراتيجية وعلى الخلفية الأساس لوجود عراق تعددي ديموقراطي فديرالي يؤمن بوحدة وجوده واندماجه السلمي مع محيطه المتنوع ويتفاعل مع المحيط بما تمليه الشرائع والقوانين الدولية ونهجها السلمي...

وفي وقت خاضت إيران حروبا عبثية مع العراق وهددت باتفاق سابق طيفا عراقيا (التسهيلات المطلوبة باتفاق الجزائر ضد الكورد والأمر يحصل مجددا بقصف كوردستان العراق ومحاولة قمع مطالب الكورد في إيران).  كما أن دولا عربية عديدة تتعرض لاختراقات إيرانية تستهدف أمنها الوطني وهيويتها مثلما تمضي إيران بمشروعها النووي مهددة أمن المنطقة والعالم. وعلى طرف آخر تواصل في الجهة الأخرى تركيا حربها لقمع مطالب الكورد العادلة وفي جميع الأحوال يجري تعاطي بعض مسؤولي القرار بطريقة تتعارض وهذه الحقائق..

لذا ننتظر من الدبلوماسية العراقية موقفا بناء وموضوعيا في التصدي لمسؤوليتها المكلفة بها لكي توقف أية إجراءات تربط العراق بطريقة ستلغي مصالحه وتمحو وجوده لتجعل من ذلك بوابة تهدد الخريطة الجيوسياسية في المنطقة وتهيئ لمشروع يهدد السلام العالمي برمته... أو على أقل تقدير يمشي عكس تيار مصالح شعوب المنطقة وأمنها ومستقبلها.

وشعبنا ينتظر من قياداته في الحركة الوطنية أن ترتقي لمستوى المسؤولية في لحظة تاريخية لا تحتمل الصمت أو تأجيل إعلان الصوت فعلا لا كلمة محدودة بخطابات شعاراتية...

* باحث أكاديمي في الشؤون السياسية \ ناشط في حقوق الإنسان

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت  14/حزيران/2008 - 10/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م