كما كان متوقعا من خلال الجولات الإنتخابية المكوكية التي جرت
بين المرشحين الديمقراطيين باراك أوباما وهيلاري كلنتون، فقد فاز
أوباما وأصبح المرشح النهائي الذي سيقود حزبه الى منصة الإنتخابات
الأمريكية النهائية التي ستتم في شهر تشرين الثاني القادم منازلا
خصمه الجمهوري جون ماكين.
يتوقع المراقب السياسي بأن الصراع الإنتخابي القادم بين هذين
الرجلين سيكون شديدا وحاميا، ليس لكونه نزالا بين رجلين منتميين
الى حزبين متنافسين على السلطة فحسب وإنما لأن في هذا النزال أمور
جديدة وغريبة على طبيعة الإنتخابات الأمريكية الكلاسيكية. أنه نزال
بين خصمين متباينين في أمور شتىّ تستقطب رؤى وأفكار ومزاج الشارع
الأمريكي. فهو نزال بين أسود وأبيض...بين شاب وكهل...بين متحرر
ومتطرف... بين بسيط ومتعجرف....بين إنساني كرّس جزءا من حياته في
الدفاع عن مصالح الضعفاء والمهمشين ومترفه يتطلع الى الكسب والنصر
مهما كلّف الأمر !
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو أي قطب من هذين القطبين
المتنافرين سيكون الأثقل في كفتي المعادلة الإنتخابية؟. سؤال يدعو
الى التمحيص والتحليل، حيث ثمة عوامل موجبة وسالبة تتدافع فيما
بينها في حشد الأصوات لكلا المرشحين. العوامل الإيجابية التي تلعب
دورا في ترجيح كفة المرشح الديمقراطي كثيرة، وإن كانت غير كافية،
ومن أهمها ما يلي:
1- باراك أوباما كان من المعارضين لفكرة إجتياح العراق منذ
البداية، بل كان يدعو الى تركيز الجهد العسكري الأمريكي في
إفغانستان والى عدم تشتيت المال والسلاح والأفراد في صراع آخر أقل
أهمية. آراء أوباما بهذا الشأن قد أثبتت صحتها بتوالي الوقائع
والأحداث، حيث بينت الأيام شدة المأزق الذي تورط به الأمريكيون
ومقدار النزف الروحي والمادي الذي أصابهم.
يدعو أوباما من خلال خطاباته اللاحقة الى وضع حد لهذا النزيف
المستمر وذلك من خلال وضع جدول عملي للإنسحاب من العراق وتخليص
شعبه من الورطة التي وقع فيها. هذا المشروع يستهوي الشارع الأمريكي
ويضرب على أوتار حساسة فيه. لقد ملّ الأمريكيون من الوعود
والخطابات الفارغة التي تكررت من دون جدوى على لسان رئيسهم جورج
دبليو بوش وأصبحوا يتطلعون الى من يتحدث معهم بإسلوب الواقع ونبرات
الحقيقة. باراك أوباما أثبت لحد هذا اليوم صدق أقواله من خلال
أفعاله، ووعده بتخليص شعبه من محنة الحرب على العراق لا بد أن تلقي
بظلالها على نفسية المواطن الأمريكي الذي يعاني بشكل مباشر أو غير
مباشر من هذه الحرب.
2- تميّز باراك أوباما من خلال حياته العملية في مجال القضاء
وفي مجلس الشيوخ الأمريكي بتوجهاته الإنسانية المنصبة على حقوق
الضعفاء والمهمشين في المجتمع الأمريكي. سعى أوباما الى الدفاع عن
ضحايا التهميش العنصري من خلال عمله كمحامي عن الحقوق المدنية، كما
كان بارعا في تنشيط برنامج التثقيف الإجتماعي لمنع إنتشار مرض نقص
المناعة المكتسب "الإيدز" خلال عمله كعضو في مجلس الشيوخ الأمريكي.
لقد ظهرت إهتماماته الإنسانية أيضا من خلال تركيزه على أهمية البحث
والمتابعة في الأمراض التي إستشرت بين الجنود الأمريكيين العاملين
في العراق وأهمها مرض ما يعرف بظاهرة قلق الكوارث أو إضطرابات ما
بعد الصدمة التي يعاني منها عدد هائل من الجنود الأمريكيين في
العراق. فقد ذكرت آخر التقارير أن نسبة المصابين بهذا المرض قد
وصلت الى ( 46.3 ) في المائة من العدد الكلي للجنود ! هذا الإهتمام
وهذا النهج الإنساني الذي يميّز سيرة حياة هذا الرجل، والذي يشير
الى أنه مهتم بما يصيب الجندي الأمريكي أكثر مما يحققه هذا الجندي
من مكاسب في ساحات القتال، لابد أن يرفع من نسبة الناس المتأثرين
فيه.
3- لقد إجتاز باراك أوباما خطوطا حمراء ونال سبقا مميزا بكونه
الأسود الوحيد في مجلس الشيوخ الأمريكي في الوقت الحال، إذ أنه
الأسود الوحيد الذي فاز بعضوية هذا المجلس في إنتخابات عام 2004م.
كما يعتبر أوّل اسود صار رئيسا لقسم حقوقي في جامعة هارفرد حينما
كان يعمل في تلك الجامعة. فوق كل هذا وذاك فأنه هذا اليوم يقود
حزبه الى إنتخابات الرئاسة النهائية المزمع إجراءها في أواخر هذا
العام وهي خبرة متميزة وفريدة لرجل أسود في الإنتخابات الأمريكية.
هذه الأرقام القياسية تجعل المراقب لا يستبعد فوز أوباما برقم
قياسي جديد حيث يصبح أول رئيس أسود للولايات المتحدة الأمريكية
وبهذا يتغير تأريخ أمريكا الإنتخابي!
كارزما أوباما... شبابه... ذكائه... حركته... سيرة حياته وتألقه
في عمله المدني والسياسي كلها عوامل تستهوي المحلل السياسي بأن
يعتبرها من عوامل التسلق الى البيت الأبيض.
4- رئيس أمريكي أسود هو من المحرمات الإنتخابية في أمريكا، إذ
أن الناخب الأمريكي الأبيض بشكل عام لا يجازف بإهداء صوته الى مرشح
أسود مهما كانت مواصفات هذا المرشح. هذه النظرة العنصرية
الكلاسيكية القاسية تتأثر اليوم بعوامل ترويض وتلطيف ناشئة من
الخبر والممارسات الناجحة للسياسيين السود التي أفرزتها السنوات
الأخيرة. فكولن باول كان وجها مميزا ومقدّرا من قبل السواد الأعظم
الأمريكي وذلك لنجاحه المميز كعسكري ستراتيجي لامع وكسياسي متنور
كان قد قاد حملة الحمائم التي عارضت إجتياح العراق. كما أن
كوندليزا رايس سيدة سياسة أمريكا الخارجية لها وزنها الثقيل في
المعايير السياسية العالمية، إضافة الى أمثلة حية أخرى أبلى فيها
السياسيون الأمريكيون السود بلاء حسنا في مجال السياسة. هذا
الترويض قد يلعب دورا هاما في تغيير أفكار الناخب الأمريكي الأبيض
وتجعله يتقبل الى حد ما المرشح الأسود إن تميّز وأحسن بلاء.
5- التفاتة اوباما الذكية في إقتراحه بتسمية هيلاري كلينتون
نائبة له في حال فوزه برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية قد عزز
موقفه وأكسبه ودّ الكثيرين. إذ أن الكثير من أصوات الديمقراطيين
الذين لم يصوتوا لصالحه ستنضم اليه في حالة تعيين هيلاري كلنتون
نائبة له. كما أن موافقة هيلاري كلينتون على هذا الإقتراح يؤكد
نجاح هذا المسار ويزيد من الزخم والتعجيل الإنتخابي لبراك أوباما
في جولته الإنتخابية القادمة أمام جون ماكين.
كل هذه العوامل وغيرها ستلعب دون شك دورا ملحوظا في رجاحة الكفة
الإنتخابية لبراك أوباما، لكن مقدار الزخم المعاكس والمتمثل بدرجة
رئيسية في رفض شرائح هامة من المجتمع الأمريكي لشخصية باراك أوباما
على أساس أصل العرق والدين سيبقى طلسما خفيّا ستكشفه نتائج
الإستطلاعات الإنتخابية القادمة. قد ينخدع الناخب الأمريكي ويتخوف
من عرق أوباما القادم من أبيه " حسين " الكيني المسلم كما إنخدعت
شبكة تلفاز الـ " السي أن أن " حينما كتبت على شاشتها أوباما بن
لادن وكانت تقصد أسامة بن لادن حينما كانت تتحدث عن الأخير في
برنامج خاص!. |