سورة المعارج.. الولاية وصفات المكرمين[1]

بشير البحراني

سورة المعارج هي السورة السبعين وفق ترتيب المصحف الشريف، وهي أربع وأربعون آية قرآنية كريمة؛ مكية الخصائص وتتضمن آيات مدنية.

ويصف سيد قطب سورة المعارج بأنها "حلقة من حلقات العلاج البطيء، المديد، العميق، الدقيق، لعقابيل الجاهلية في النفس البشرية كما واجهها القرآن في مكة، وكما يمكن أن يواجهها في أية جاهلية أخرى مع اختلافات في السطوح لا في الأعماق! وفي الظواهر لا في الحقائق!

أو هي جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها في داخل هذه النفس، وفي خلال دروبها ومنحنياتها، ورواسبها وركامها. وهي أضخم وأطول من المعارك الحربية التي خاضها المسلمون -فيما بعد- كما أن هذه الرواسب وتلك العقابيل هي أكبر وأصعب من القوى التي كانت مرصودة ضد الدعوة الإسلامية والتي ما تزال مرصودة لها في الجاهليات القديمة والحديثة!"[2].

وعديدة تلك المواضيع المهمة التي تتطرق لها السورة الكريمة في إطار إثبات ولاية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وإقرار حقيقة الآخرة بناءً على ذلك الإثبات الولائي الذي تفتتح به السورة، وصفات المؤمنين والكافرين.

وللسورة إيقاع موسيقي -يتناسب مع طرحها- تجده محسوساً في تناسقها الفني، وفي انسياب ألفاظها، وجرس حروفها. يقول سيد قطب: "ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة، الناشئ من بنائها التعبيري.. فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة [السورة التي تسبقها حسب ترتيب المصحف الشريف] ناشئاً من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة. وفق المعنى والجو فيه.. فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقاً، لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها. والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيباً. ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ.

ففي هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة -مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها- من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي:

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًاْ} [المعارج:1-5].. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس.

{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6-7].. حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين.

{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:8-10].. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث. مع تنوع الإيقاع في الداخل.

{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج:11-15].. حيث ينتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول.

{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:16-21].. حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى.

ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء..

والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنوع المعقد الراقي -موسيقياً- من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي. ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه، وإن كان فناً إبداعياً عميقاً جديداً على مألوفها الموسيقي"[3].

وللقارئ الراغب بالتفصيل والفهم الأكبر حول ظاهرة الإيقاع والجرس الموسيقي في القرآن الكريم وأثرها على المعنى ونفس المتلقي، فليراجع كتب البلاغيين ذات العلاقة، وأنصحه بقراءة فصل (التناسق الفني) في كتاب (التصوير الفني في القرآن) لسيد قطب[4].

شيء من فضل السورة

ورد في حقها وخصالها وفضائلها العديد من الروايات، سأذكر منها هنا بعض النصوص، وسأتطرق إلى أخرى في صلب الموضوع إذ ترتبط بعضها ارتباطاً مباشراً بآيات السورة، مع أنه بالتأكيد أن النصوص الروائية الأخرى لها ارتباطات مباشرة وغير مباشرة، ولذلك جرى التنويه حتى لا يُفهم العكس.

وبصورة عامة فإن الروايات الشريفة الواردة في فضل السورة وخصائصها تفيد بأن السورة موجبة للثواب العظيم، والفرج، والحفظ الإلهي، والغض عن الذنوب، والسكن يوم القيامة مع أهل البيت (ع)، والبعد عن الجنابة.

ذكر المجلسي في بحاره في باب (الخصال التي توجب التخلص من شدائد القيامة وأهوالها)، رواية عن الإمام أبي عبدالله جعفر الصادق (ع)، يقول فيها: "من أكثر قراءة سورة المعارج لم يسأله الله عن ذنب عمله"[5].

وعن رسول الله محمد (ص) قال: "من قرأ هذه السورة كان من المؤمنين الذين أدركتهم دعوة نوح (ع). ومن قرأها وكان مأسوراً أو مسجوناً مقيداً فرَّج الله عنه وحفظه حتى يرجع"[6

وروي عن الإمام جعفر الصادق (ع) أيضاً قوله: "من قرأها ليلاً أمِن من الجنابة والاحتلام، وأمن في تمام ليله إلى أن يُصبح بإذن الله تعالى"[7].

ولاية أمير المؤمنين (ع)

أعتقد أن سورة المعارج المباركة مبنية على الآيات الأولى التي افتتحت بها، وهي آيات كريمات بمراجعة أسباب النزول الصحيحة ترتبط بواقعة الغدير التي أعلن فيها رسول الله محمد (ص) خليفة من بعده وولياً للمؤمنين؛ وهو الإمام علي بن أبي طالب (ع).

ولتركيز هذا المعنى فإن كثيراً من النصوص الواردة في حق هذه السورة تشير إلى أمرين؛ وهما:

الأول: تسمية السورة باسم الآيات الأولى.. (سورة سأل سائل).

الثاني: ربط آثار السورة بأهل البيت (ع).

فعن الإمام جعفر الصادق (ع): "أكثروا من قراءة (سأل سائل)، فإن من أكثر قراءتها لم يسأله الله تعالى يوم القيامة عن ذنبٍ عمله، وأسكنه الجنة مع محمد (ص) وأهل بيته (ع) إن شاء الله تعالى"[8].

وعنه (ع) أيضاً: "من أدمن قراءة (سأل سائل) لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله، وأسكنه جنته مع محمد (ص)"[9].

وورد في مصادر عديدة عند الفريقين هذا النص عن نبي الله محمد (ص): "ومن قرأ سورة (سأل سائل) أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون"[10].

وأما سبب النزول، فهو مثبت في كتب كثيرة جداً، وأكثرها تناقلاً هو نص أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره (الكشف والبيان)، حيث يقول: "إن سفيان بن عيينة سُئل عن قوله عز وجل: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} فيمن نزلت؟

فقال للسائل: سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك، حدثني أبي، عن جعفر بن محمد، عن آبائه -صلوات الله عليهم- قال:

لما كان رسول الله بغدير خُمّ نادى الناس، فاجتمعوا فأخذ بيد عليٍّ، فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله (ص) على ناقة له حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته فأناخها، فقال:

يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثم لم ترضَ بهذا حتى رفعتَ بضَبعَيْ ابن عمك ففضلته علينا، وقلت: من كنتُ مولاه فعلي مولاه. فهذا شيءٌ منك، أم من الله؟

فقال: "والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله".

فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته، وهو يقول: "اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر، فسقط على هامته، وخرج من دُبُره وقتله، وأنزل الله عز وجل: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} الآيات"[11].

وورد هذا السبب لنزول الآيات الأولى من سورة المعارج في كتب كثيرة لا يستهان بها عند الفريقين، بل ويعد من الأحاديث المشتركة عند المسلمين[12]، مع اختلاف أحياناً في اسم الشخص؛ وهل هو الحارث بن النعمان الفهري، أم جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، أم النضر بن الحارث، أم غيرهم؟ مع أننا لن نلتفت إلى حقيقة الاسم بقدر ما يهمنا الحدث، وإلا فالاسم لا يُقدِّم ولا يؤخر هنا شيئاً.

ويذكر الشيخ عبدالحسين الأميني في موسوعته (الغدير) تسعة وعشرين نصاً لعلماء من أهل السنة، وكلها تشترك في المضمون، وليس نص الثعلبي -الذي ذكرناه- إلا واحداً منها، وسأكتفي هنا بذكر أسماء العلماء التسعة والعشرين، ويبقى على من يرغب في التفاصيل أن يراجع كتاب الأميني[13]:

1- الحافظ أبو عبيد الهروي.

2- أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي.

3- أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري.

4- الحاكم أبو القاسم الحَسْكاني.

5- أبو بكر يحيى القرطبي.

6- شمس الدين أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي.

7- إبراهيم بن عبدالله اليمني الوصابي الشافعي.

8- الحمّوئي.

9- محمد الزرَندي الحنفي.

10- شهاب الدين أحمد الدولت آبادي.

11- نور الدين ابن الصبَّاغ المالكي المكي.

12- السيد نور الدين الحسني السمهودي الشافعي.

13- أبو السعود العمادي.

14- شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي.

15- السيد جمال الدين الشيرازي.

16- زين الدين المناويّ الشافعي.

17- ابن العيدروس الحسيني اليمني.

18- أحمد بن باكثير المكي الشافعي.

19- عبدالرحمن الصفوري.

20- نور الدين علي الحلبي الشافعي.

21- السيد محمود بن محمد القادري المدني.

22- شمس الدين الحفني الشافعي.

23- محمد صدر العالم سبط الشيخ أبي الرضا.

24- محمد محبوب العالم.

25- أبو عبدالله الزرقاني المالكي.

26- أحمد بن عبدالقادر الحفظي الشافعي.

27- السيد محمد بن إسماعيل اليماني.

28- السيد مؤمن الشبلنجي الشافعي المدني.

29- محمد عبده المصري (استشكل على النص بما ذكره ابن تيمية).

وقد أشكل أحدهم على سبب النزول المذكور، وحاول رده وإبطاله، ووصف من يقول بنزوله في حق الإمام علي (ع) بأعظم الكذب والافتراء، وذلك الواحد هو ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة النبوية)[14]، إلا أن محاولته الشاذة في الرد على النص كانت ضعيفة؛ بيَّن الباحثون فسادها ووهنها، ومن أبرز من فَصَّل في الرد عليه الأميني في (الغدير)[15]، ولأن ابن تيمية يشذ في كثير من آرائه عن جمهور المسلمين من الفريقين، فإنني لن أعمد إلى نقل تفاصيل رد الأميني عليه، وسأكتفي بتلخيص صاحب (الأمثل) في المسألة، حيث يجيب على إشكالات ابن تيمية بعد أن يذكرها بإيجاز، وذلك على النحو الآتي:

"1- حديث قصة يوم الغدير بعد رجوع الرسول (ص) من حجة الوداع أي في السنة العاشرة للهجرة، في حين أن سورة المعارج من السور المكية وقد نزلت قبل الهجرة.

الجواب: كما بينا من قبل فإن كثيراً من السور تسمى مكية في حين أن أولى آياتها مدنية كما يقول المفسرون، وبالعكس فإن هناك سوراً مدنية نزلت بعض آياتها في مكة.

2- جاء في الحديث أن (الحارث بن النعمان) حضر عند النبي في (الأبطح)، والمعروف أن (الأبطح) واد في مكة، وهذا لا يتفق مع نزول الآية بعد حادثة الغدير.

الجواب: إن كلمة الأبطح وردت في بعض الروايات، لا في كل الروايات، كما أن الأبطح والبطحاء تعني كل أرض صحراء رملية وتجري فيها السيول، وكذلك هناك مناطق في المدينة تسمى بالأبطح والبطحاء، وقد أشار العرب إلى ذلك في كثير من أقوالهم وأشعارهم.

3- المشهور أن آية: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]، نزلت بعد معركة بدر وقبل واقعة الغدير بسنوات.

الجواب: ليس منا من يقول: إن حادثة الغدير هي سبب نزول تلك الآية، بل الحديث هو في آية: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}. وأما الآية (32) من سورة الأنفال فهي أن الحارث بن النعمان قد استخدمها في كلامه، وهذا لا يرتبط بأسباب النزول، ولكن العصبية المفرطة تسبب في أن تجعل الإنسان غافلاً عن هذا الموضوع الواضح.

4- يقول القرآن المجيد: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، تقول هذه الآية: لم ينزل العذاب أبداً ما دام الرسول فيهم.

الجواب: المعروف أن العذاب العام والجماعي مرفوع عن الأمة لأجل الرسول (ص)، أما العذاب الخاص والفردي فقد نزل مراراً على بعض الأفراد، والتاريخ الإسلامي شاهد على أن أناساً معدودين مثل أبي زمعة ومالك بن طلالة والحكم بن أبي العاص وغيرهم قد ابتلوا بالعذاب للعن الرسول (ص) لهم أو بدون ذلك.

بالإضافة إلى ذلك فإن الآية السالفة لها تفاسير أخرى، وطبقاً لذلك فإنه لا يمكن الاستدلال بها في هذا المكان.

5- إذا كان سبب النزول هذا صحيحاً فلا بد أن يكون معروفاً كقصة أصحاب الفيل؟

الجواب: إن سبب النزول لهذه الآية معروف ومشهور، كما أشرنا من قبل، إلى حد قد ألف فيه ثلاثون كتاباً من كتب التفسير والحديث، والعجيب بعدئذ أن ننتظر حادثة خاصة مثل تلك الحادثة العامة تعطي انعكاساً وأثراً كقصة أصحاب الفيل، لأن تلك القصة كانت لها صفة عامة، وقد استولت على أنحاء مكة، وأبيدت فيها جيوش كبيرة، وأما قصة الحارث بن النعمان، فإنها كانت تخص فرداً واحداً فقط!

6- ما يستفاد من هذا الحديث هو أن الحارث بن النعمان كان معتقداً بأسس وأصول الإسلام، فكيف يمكن لمسلم يعاصر النبي (ص) أن يبتلى بمثل هذا العذاب؟

الجواب: هذا الاحتجاج ناشئ أيضاً من التعصب الأعمى، لأن الأحاديث المذكورة سلفاً تشير إلى أنه لم ينكر نبوة الرسول (ص) فحسب، بل أنه أنكر حتى الشهادة بالوحدانية، واعترض على الأمر الإلهي الذي صدر للرسول (ص) في حق علي (ع) وهذا يدل على أقوى مراحل الكفر والارتداد.

7- لا نجد اسماً للحارث بن النعمان في الكتب المشهورة كالاستيعاب الذي جاء فيه ذكر الصحابة.

الجواب: ما جاء في هذا الكتاب ومثله من ذكر الصحابة يرتبط فقط بقسم من الصحابة، فمثلاً في كتاب (أسد الغابة) الذي يعد من أهم الكتب وفيه يذكر أصحاب الرسول (ص) قد عدَّ منهم فقط سبعة آلاف وخمسمئة وأربعة وخمسين صحابياً، في حين أننا نعلم أن الجمع الذي كان حاضراً عند النبي (ص) في حجة الوداع مئة ألف أو يزيدون، ومما لا شك فيه أن كثيراً من أصحاب الرسول (ص) لم يأتِ ذكرهم في هذه الكتب"[16].

ونهاية الأمر أن ولاية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) أمر على درجة كبيرة من الأهمية، بحيث لا تقل أهميته -مع اختلاف نسبي- عن الإيمان بالمعاد الذي ستبدأ السورة بالحديث عنه وعما يجري فيه، مع أننا لا نقول بنزول العذاب الدنيوي على منكر أحد الأمرين (الولاية، المعاد)، فالرجل السائل في الآيات الكريمة السابقة هو في إطار التحدي المباشر مع أوامر الله سبحانه وتعالى والمواجهة المتعنتة مع رسوله الكريم (ص).

معنى المعارج

سميت السورة باسم (المعارج) لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه فيها بأنه صاحب المعارج، كما ذكر جل جلاله حديثاً عن عروج الملائكة والروح إليه، إذ يقول تبارك وتعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ...}.

والعروج عند أهل اللغة يأتي بمعنى الارتقاء والصعود والارتفاع والعلو، ولكن بملاحظة معاني لغوية أخرى ذات علاقة بالجذر اللغوي نفسه، فإننا نجد أن المعنى يحمل معنى الميل والانعطاف أيضاً، كالعرج في مشية الأعرج، ويُقال: تعَرَّج البناء، أي مال. وجرى في لساننا وصف الطرق كثيرة الانحناءات بالمتعرجة.

وعلى هذا المعنى اللغوي فالعروج يختلف عن الصعود، إذ إن العروج يكون بشكل منحنٍ أو مائل. وقد أثبتت الحقائق العلمية الحديثة أن الارتقاء باتجاه السماء لا يمكن أن يكون سليماً دون مراعاة قانون العروج أثناء الارتقاء، ولذا فإن علماء الفضاء لا يسمحون للصواريخ والمركبات الفضائية بالسير في اتجاه مستقيم صعوداً، بل ينبغي أن ترتقي المركبات نحو الفضاء بصورة مائلة مراعاة لقوى الجذب والطرد.

هذا المعنى اللغوي والاستئناس العلمي يعطيانا حقيقة فعل العروج وكيفية وقوعه، ولكن لا يبعد أن يكون للمعارج معنى مراد. يقول الشيخ جعفر السبحاني: "المعارج مواضع العروج، وهو الصعود مرتبة بعد مرتبة، ومنه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الأخرى، وأما المراد من هذه الدرجات فهي عبارة عن المقامات المترتبة علواً وشرفاً التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من الله، وهو من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها. وربما يفسر بأن المراد مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163]، وقال: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]، وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15].

والوجهان متقاربان غير أن الأول يخص الدرجات بالملائكة والثاني بالمؤمنين، وقوله سبحانه: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} يؤيد الوجه الأول"[17].

والمفسرون يعددون وجوه أخرى للمعنى المراد للمعارج، فيقولون: المنازل الرفيعة والدرجات العلية التي ينالها الأنبياء والأولياء في الجنة. ويقولون: السماوات. ويقولون: الفواضل والنعم. ويقولون: غرف في الجنة...

وعلى كلٍ فإن الله سبحانه وتعالى هو المالك والصاحب لكل شيء، وإليه تعرج الملائكة والروح، ومآلنا جميعاً إليه جلت قدرته. ورد عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين السجاد (ع) قوله: "وإن لله تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته، فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه، ألا تسمع الله عز وجل يقول: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}"[18].

محاسبة النفس

تشير بعض الروايات الشريفة الواردة في تفسير قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} إلى موضوع محاسبة النفس، قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي يحاسب الله فيها عباده على أعمالهم وعما اقترفته جوارحهم، وهو يوم ليس ككل يوم، تتحدث سورة المعارج عنه بأنه يوم له زمن ليس بمقاييسنا ومشاهد كونية عظيمة تغير معالم ما آلفناه، حيث تكون السماء كالزيت أو كالمعدن المذاب، وتكون الجبال كالصوف.. يوم عظيم جداً، بل لا أعظم منه، فكيف يخلص الإنسان ويفر بنفسه من هول ذلك اليوم؟

الجواب: بمحاسبة النفس، ومساءلتها، كي ندرك حقيقة ما تصنعه تلك النفس مما ستترتب عليه نتائج ذلك اليوم علينا، كل ذلك قبل فوات الأوان.

في حديث طويل، يقول فيه الإمام جعفر الصادق (ع): "ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإن في القيامة خمسين موقفاً كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون، ثم تلا هذه الآية: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}"[19].

وفي موضع آخر من القرآن الكريم يعاود الله سبحانه وتعالى الربط بين اليوم العظيم وبين محاسبة النفس ولومها، عبر قسمه بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، إذ يقول جل جلاله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2].

وروايات عديدة تربط بين محاسبة النفس وحساب ذلك اليوم، فها هو الرسول الأكرم (ص) يخاطب أبا ذر الغفاري بقوله: "يا أبا ذر، حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية"[20].

وكان الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) يقول: "ابن آدم، إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحزن لك دثاراً. ابن آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله فأعد جوابا"[21].

التفت يا ابن آدم.. ينتظرك يوم عظيم بكل ما فيه، ولا تعتقد أنه بعيد عنك: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا}.. فإن تحاسب نفسك تنجُ من حساب ذلك اليوم، لأنك ستكتشف مواطن الخلل في تلك النفس قبل فوات الأوان، مما يمكنك العمل على سد الثغرات وتقويم الذات فيما يرضي الله سبحانه وتعالى.. أنت تملك معرفة أخطائك وزلات نفسك، فعاتب نفسك قبل أن يأتي يوم لا يفيد فيه لوم أو عتاب، حيث يجمع فيه كل ما فعلته، بينما لا تستطيع الفرار من حقيقة أنك كنت تملك القدرة على محاسبة ذاتك ومعرفة كنه أعمالك في الدنيا.. يقول تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:10-15].

لا تضيع الوقت في الخوض مع الخائضين، واللعب مع اللاعبين، فتحذير سورة المعارج واضح وصريح: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:42-44].

وتشير الحقائق القرآنية إلى أن هناك في يوم القيامة نوعان من الوجوه، وجوه ناضرة وأخرى كالحة وعابسة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22-25]، وما أصحاب تلك الوجوه الناضرة إلا أولئك المؤمنين الذين اعتادوا على لوم النفس ومحاسبتها كل نهار وكل مساء، ذلك اللوم الذي يستدعي -بالطبع- تقويم النفس وإرشادها نحو الصالح.

ورد في (مجمع البيان) في معرض تفسيره للآية الرابعة من سورة المعارج هذا النص عن أبي سعيد الخدري، حيث يقول: قيل: يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟! فقال: "والذي نفس محمد بيده، إنه ليخف على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا"[22].

الصبر الجميل

إن مسألة محاسبة النفس ليست بالأمر الهين، ولذا فالمسألة بحاجة إلى صبرٍ من المؤمنين حتى يصلوا إلى الفرج، فالصبر هو مفتاح الفرج، ولكن أي صبر هو المطلوب؟ إنه صبر يصفه الله تعالى بالصبر الجميل: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}.

وقد وصف الله الصبر بالجميل في موضع آخر من القرآن الكريم، وذلك في معرض حديثه عن قصة النبيين يعقوب ويوسف (ع)، إذ يقول تعالى على لسان يعقوب (ع): {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18، و83].

فما هو الصبر الجميل؟

سُئل الإمام محمد الباقر (ع) عن معنى الصبر الجميل، فقال: "ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى الناس".

إنه الصبر ذاته شرط أن يكون فيه تسليم خالص لله عز وجل، وبلا شائبة كجزعٍ أو ضعف أو شك أو شكوى للناس أو ما شابه ذلك.. ولكن لا يمنع أن يشوبه البكاء، بل هو رحمة وأمر صحي وله قيمة عظيمة في عون الصابر على ما بُلي به، فقد بكى يعقوب (ع) على ابنه يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن، وقد هملت عينا رسول الله محمد (ص) بالدموع عند موت ابنه إبراهيم، ولكنه كما في حديث للإمام جعفر الصادق (ع): "لما مات إبراهيم ابن رسول الله (ص)، قال رسول الله (ص): حزنا عليك يا إبراهيم، وإنا لصابرون، يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول ما يسخط الرب"[23].

ولذلك فعلى الإنسان أن يصبر وهو يلاحق نفسه ويمنعها عن الشهوات غير المضبوطة، وله أن يبكي على حاله وتقصيره في حق الله عز وجل، حتى يكون ذلك البكاء عوناً له في الصبر واجتياز الامتحان بنجاح.

وهذا الذي ذكرناه معنى نستفيده من الآية الكريمة: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}، ولا يعني أن معناها يقف عند هذا الحد، ففي الآية أيضاً خطاباً للرسول الأعظم (ص) للصبر الجميل على سؤال السائل وإنكاره لولاية أمير المؤمنين (ع) وتكذيبه النبي (ص) بتلك العبارات القاسية.

الكل مشغول بنفسه!

من منَّا في هذه الدنيا يعيش بمفرده، كلنا لنا أحباء، ولنا أصدقاء، ولنا أقارب، ولنا ولنا... بل بعضنا له خدم وحشم، وله من الجاه والمال ما يُخضع الآخرين له، ولكن هل بإمكان أولئك أن يحموا الإنسان من تلك التي يصفها الله جلت قدرته في هذه السورة الكريمة بأنها: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى}؟!

إنهم لا يستطيعون إنقاذ أنفسهم فكيف بغيرهم؟ والنداء القرآني هنا يركز على أولئك المدبرين والمتولين عن الإيمان، وعلى الذين يجمعون المال ولا ينفقونه في سبيل الله.. إنهم نفسهم الذين يجزعون إذا مسهم الشر، ويمنعون الخير إذا حصلوا عليه: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}.

هل من منقذ لك سوى عملك الصالح أيها الإنسان؟

{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ...}.. حتى من كنت تهتم بهم، وتغدقهم بحنانك في الحياة الدنيا، عندما تبصرهم ويبصرونك في ذلك اليوم العظيم، فلا أنتَ مهتم لأمرهم، ولا هم بمهتمين لأمرك، فالكل مذهول ومشغول بنفسه!

{... يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}.. والمعنى أن الإنسان المذنب إذا ذاق العذاب بسبب جرائمه يتمنى لو يفتدي نفسه بأقرب الأقرباء إليه، ومن شدة العذاب فهو مستعد لأن يضحي حتى بأولاده لكي يكونوا في العذاب بدلاً عنه..

بل حتى أنه مستعد لأن يضحي بزوجته وإخوانه وأخواته: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}.

بل ويضحي بأسرته وعشيرته التي يعيش بينها: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}.

ولكن هل تقف أمنيات ذلك المجرم عند حدود أهله وأحبائه؟

إنه أمام عذاب شديد يتمنى مقابل النجاة لو يضحي بكل أهل الأرض: {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ}.

المكرمون هم الاستثناء

وتأتي لفظة (إلا) لتعلن عن استثناء.. فهناك من لن تدعوه نار جهنم لنفسها، وهم من تقول عنهم السورة: {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35]، ولكن من هم أولئك؟

{إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22-23].. أول صفاتهم الصلاة، ولا يفوتون واحدة البتة، مستمرون في الصلاة في أوقاتها. وتشير الروايات بأن المقصود هنا (الصلاة النافلة)، أي أنهم لا يفوتوا حتى النوافل. وسأنقل نصاً روائياً يدل على ذلك في تفسير آية أخرى بعد قليل.

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} [المعارج:24-25]..  ومن صفاتهم تحديد جزء من أموالهم للسائل والمحروم، وهو غير الزكاة والصدقة كما يظن بعض المفسرين. فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع): "إن الله تعالى فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها وهي الزكاة، بها حقنوا دماءهم وبها سموا مسلمين، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} فالحق المعلوم غير الزكاة، وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله فيؤدي الذي فرض على نفسه، إن شاء في كل يوم، وإن شاء في كل جمعة، وإن شاء في كل شهر..."[24].

 وجاء رجل إلى الإمام علي بن الحسين السجاد (ع)، فقال له: "أخبرني عن قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} ما هذا الحق المعلوم؟ فقال له علي بن الحسين (ع): الحق المعلوم الشيء يخرجه من ماله ليس من الزكاة ولا من الصدقة المفروضتين. فقال: وإذا لم يكن من الزكاة ولا من الصدقة فما هو؟ فقال: هو الشيء يخرجه من ماله إن شاء أكثر وإن شاء أقل على قدر ما يملك. فقال الرجل: فما يصنع به؟ قال: يصل به رحماً ويقوي به ضعيفاً ويحمل به كلاً أو يصل به أخاً له في الله، أو لنائبة تنوبه. فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالاته"[25].

ومن ذلك الحق المعلوم يعطي الإنسان المالَ للسائل الذي يطلب ويفصح عن حاجته، وللمحروم الذي يحتاج ولكنه يتعفف ويمتنع عن السؤال.

{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26].. إنهم يصدقون بالمعاد والآخرة، وبيوم الدين حيث الحساب والجزاء. وفي رواية عن الإمام محمد الباقر (ع) في هذه الآية قال: "بخروج القائم (ع)"[26]، أي التصديق بخروج الإمام محمد المهدي (ع). ولا يبعد أن تحتمل الآية المعنيين.

{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27-28].. إنهم لا يعيشون في غفلة عن يوم الحساب العظيم، بل يدركون جزاء الأعمال ولا يستهينون بما يمكن أن يكون مصيرهم، ويخافون من عذاب الرب، ويشفقون على أنفسهم من أن يصيبها ذلك العذاب غير المأمون لمن لا يفتدي نفسه بعمله الصالح.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29-31].. إنهم على انضباط في المسألة الجنسية، ولا يمارسون حراماً في ذلك، وإنما يصرفون احتياجهم الجنسي فيما أحل الله سبحانه وتعالى.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32].. إنهم يراعون الأمانات؛ مطلق الأمانات، ويراعون عهودهم ومواثيقهم مع الآخرين.. إنهم لا يخونون.

{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج:33].. إنهم لا يكتمون شهادة الحق أبداً مهما كانت الظروف أو الأسباب.

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34].. إنهم يحافظون على الصلوات الفرائض، وينجحون في امتحان المحافظة على الصلاة في وقتها.

قال الفضيل بن يسار: "سألتُ أبا جعفر (ع) [الإمام محمد الباقر] عن قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}، قال: هي الفريضة. قلت: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}. قال: هي النافلة"[27].

كل تلك الصفات مفتوحة أمامنا جميعاً، فمن طمع منَّا في جنة يُكْرَم فيها، فلا يبخل على نفسه بالتحلي بها، والتمسك بأهل البيت (ع)، والاقتداء بهم والاهتداء بهديهم.

* كاتب من السعودية

[email protected]


[1] - المقال عن مجلة القرآن نور، العدد الثامن.

[2] - سيد قطب. في ظلال القرآن، ط15، (بيروت: دار الشروق، 1408هـ)، ج6، ص3692.

[3] - المصدر نفسه، ج6، ص3694-3695.

[4] - سيد قطب. التصوير الفني في القرآن، د.ط، (بيروت: دار الشروق، 1415هـ)، ص87-142.

[5] - محمد باقر المجلسي. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (ع)، ط3، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1403هـ)، ج7، ص296.

[6] - مشتاق المظفر. عيون الغرر في فضائل الآيات والسور، ص218-219.

[7] - المصدر نفسه، ص219.

[8] - المصدر نفسه، ص218.

[9] - الفضل بن الحسن الطبرسي. مجمع البيان في تفسير القرآن، ط1، (بيروت: دار المرتضى، 1427هـ)، ج10، ص89.

[10] - مشتاق المظفر. مصدر سابق، ص218.

[11] - عن: عبدالحسين الأميني. موسوعة الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ط2، (قم: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، 1424هـ)، مج2، ج1، ص461-462.

[12] - انظر: محمد علي أسدي نسب. جامع البيان في الأحاديث المشتركة حول القرآن، ط1، (طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية)، 1426هـ)، ص540-541.

[13] - عبدالحسين الأميني. مصدر سابق، مج2، ج1، ص460-471.

[14] - انظر: ابن تيمية. منهاج السنة النبوية، ط1، (مؤسسة قرطبة، 1406هـ)، ج7، ص31-47.

[15] - انظر: عبدالحسين الأميني. مصدر سابق، مج2، ج2، ص472-501.

[16] - ناصر مكارم الشيرازي. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ط1، (بيروت: مؤسسة البعثة، 1413هـ)، ج19، ص14-16.

[17] - جعفر السبحاني. مفاهيم القرآن، ط1، (قم: مؤسسة الإمام الصادق (ع)، 1412هـ)، ج6، ص252.

[18] - عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي. تفسير نور الثقلين، ط1، (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي، 1422هـ)، ج7، ص475.

[19] - المصدر نفسه، ج7، ص473.

[20] - محمد بن الحسن الحر العاملي. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ط2، (قم: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، 1414هـ)، ج16، ص98.

[21] - المصدر نفسه، ج16، ص96.

[22] - الفضل بن الحسن الطبرسي. مصدر سابق، ج10، ص92.

[23] - محمد بن الحسن الحر العاملي. مصدر سابق، ج3، ص280.

[24] - عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي. مصدر سابق، ج7، ص477.

[25] - المصدر نفسه، ج7، ص478.

[26] - المصدر نفسه، ج7، ص480.

[27] - المصدر نفسه، ج7، ص480.

شبكة النبأ المعلوماتية- االثلاثاء  10/حزيران/2008 - 6/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م