بخس الناس

حسن آل حمادة

القرآن الكريم، ينهانا عن بخس الناس أشياءهم، مستخدماً في ذلك أداة النهي: "ولا"، ضمن ثلاث آياتٍ من الذكر الحكيم؛ هدفت جميعها إلى دعوة (قوم مدين) -ودعتنا- للوفاء بحقوق الناس، إذ كانوا لا يوفون الكيل ولا الميزان، فهم إن أخذوا زادوا عن الحد المقرر، وإن أعطوا نقصوا، خلافاً لمراعاة حقوق الآخرين. 

يقول تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[الشعراء:183].

ويقول تعالى -على لسان نبيه شعيباً- : {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[هود:85].

ويقول تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[الأعراف:85].

والملفت في الطرح القرآني أنه ربط بين بخس الناس والإفساد في الأرض؛ فبديهة أن من لا يوفي الكيل والميزان، فهو بعمله هذا يُسهم في إشاعة الفساد الاقتصادي، فيضر بمصالحه -من غير أن يدري- قبل أن يضر بمصالح غيره، على المدى البعيد، وربما القريب، ليغدو فيما بعد؛ كمن فقأ عينه بيده، خاصةً إذا علمنا أن الظلم تتعدد قنوات صرفه، وربما عادت لمنبعها الأول!

فبخس الناس اقتصادياً يعني الإفساد، كما أن بخس الناس على مختلف الصعد يعني الإفساد أيضاً، فنحن قد نبخس الناس مادياً، وربما بخسناهم معنوياً، ومن السذاجة بمكانٍ أن نقرأ الآيات السابقة لنخصصها بقوم نبي الله شعيب فقط، أو بمن يحذو حذوهم؛ بممارسته للبخس الاقتصادي، فالآيات القرآنية -كما نفهم- وإن نزلت لتعالج معضلة ما؛ إلاّ أنها لا تقف عندها، بل تتعداها لما سواها، وهذه السعة هي التي تجعل القرآن غضاً طرياً صالحاً لكل زمان ومكان، كما أننا نعلم بأن كل نبي من الأنبياء يعالج مسألة الانحراف الأبرز في قومه بعد دعوتهم للتوحيد، وقوم مدين كانوا مبتلين بالفساد الاقتصادي، ونحن ربما نكون مبتلين بفسادٍ من نوعٍ آخر.

فعموم اللفظ إذاً، في "وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ "؛ لا يخصص السبب، لذا حريٌّ بنا أن نترجم آيات البخس، -وهي تحمل معنىً واسعاً- على مستوى واقعنا الاجتماعي وعلاقاتنا الإنسانية مع الناس من حولنا؛ لنزن أنفسنا والناس بميزان الحق والعدل الذي تتساوى كفتاه، كما يريد منا القرآن الكريم ذلك، فالناس جميعاً يخسرون إذا هم بخسوا بعضهم بعضاً، وجميعهم يربحون إذا {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}[الشعراء:182]. فالله -سبحانه وتعالى- ينهانا عن بخس الناس، وينهانا عن الإفساد في الأرض؛ إذا إن البخس مقدمة للظلم بمختلف صوره، ولا نظنن أننا بمأمن عن طوفان الفساد إن لم نسهم في إخماد شعلته.

فبخس الناس اجتماعياً، قد يؤدي لتفكك العلاقات السليمة، بين أبناء المجتمع الواحد، بل يفككها -على مستوى دوائرها الضيّقة والواسعة- بعد أن يتم رفدها وتغذيتها بالبغضاء والشحناء، والتي تتحول مع مرور الوقت؛ لصراع يهدف لتحقيق المكاسب الآنية بكسب نقطة هنا وأخرى هناك، بعيداً عن الالتزام بالقيم والمبادئ التي يفترض أن يتمحور حولها المؤمنون؛ الذين يدعون إلى الخير، ويشجعون على التنافس الشريف، الذي من شأنه أن يرفد الساحة بكفاءات وقدرات متعددة تعمل جميعها من أجل تحقيق كرامة الإنسان. 

فآيات البخس إذاً، تدعونا للتعامل بمصداقية تتكئ على إنصاف الناس وعدم بخسهم حقوقهم الفردية والاجتماعية، أياً يكن هؤلاء الناس، بعيداً عن دينهم أو معتقدهم أو جنسهم أو لونهم، كما أنها آيات تتوسع في معنى البخس؛ ليشمل البخس: المادي والمعنوي، ونحن مخاطبون بهذه الآيات كما خوطب بها الأولون، فإن شئنا الخير لأنفسنا، فطريق الخير تتجلى في الصلاح والإصلاح، والعدل والإنصاف، بعدم التعدي على الآخرين بسلبهم مستحقاتهم، بينما طريق الشر والفساد تبدأ منذ اللحظة الأولى التي نقرر فيها أن نبخس الناس حقوقهم، لتسير الحياة بقضها وقضيضها في الظلمات، ونحن الذين نقرر أين نضع أنفسنا.

شبكة النبأ المعلوماتية- االاحد  8/حزيران/2008 - 4/جمادي الثاني/1429

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م