لست هنا بصدد التنظير لمفهومي الدولة والوطن، ولا أريد ان أخوض
في شعارات " الطرف الواحد" التي تدفع المواطن دائما إلى التضحية من
أجل الوطن، بحجة أنه القيمة العليا، والكائن الحضاري الذي استمد
قدسيته من قدسية جلاد أو مستبد أوفرعون، صغير أو كبير، فهذه الحقبة
قد احترقت في العراق ولايفلح من يسعى لإعادة الحياة لها، لأن
العراقيين عزفوا عنها وملوها.
تردد وسائل الإعلام لدينا هذه الأيام عبارة "التجاوز على
أملاك وأراضي الدولة" حتى بات لفظ" المتجاوزين" لعنة على من قام
بهذا الأمر، وحين يتم تهيئة الرأي العام بهذا الاتجاه، فلا أحد
سيتعاطف مع هؤلاء المتجاوزين حين تهدم جرافات البلدية في أي مكان
منازلهم، لأنهم ببساطة متجاوزون، وقد حدث هذا الأمر فعلا في إحدى
المحافظات قبل ايام.
وهنا تبرز مشكلة جدية في تعريف الدولة، فمن هي الدولة وممن
تتكون، هل هي السلطة السياسية أم الادارية، ومادور المواطن في ظل
هذه الدولة وماهي واجباته وحقوقه، وهل على الدولة واجبات ام لا؟.
هذه التساؤلات تثار في ذهن كل عراقي هذه الايام وربما منذ قيام
الدولة العراقية الحديثة، فالعراق الدولة الوحيدة في المنطقة التي
لم يحصل فيها المواطن العراقي على قائمة واضحة بالحقوق والواجبات
وكان عليه دائما أن يقدم قرابين الفداء ويلهج بشعارات وأغاني
الولاء لهذه الدولة ولقادتها دون أن يجني منها ما يستحقه من خيرات
العراق، مع إن المواطن العراقي هو أحق من الجميع بخيرات بلده، فهو
الركن الأساسي في تعريف الدولة ولايمكن تصور قيام دولة بدون شعب،
وإلا فإن الأرض موجودة منذ بدأ الباري جل وعلى الخليقة، وهناك أراض
مازالت موجودة ولكنها لم تأخذ تعريف الدول الحديثة لأنها خالية من
البشر..
نعم تحتاج الدولة لتقوم الى مؤسسات وقيم وممارسات، ولكنها
تحتاج قبل كل شئ إلى الإنسان، إذن فهو أعلى قيمة في هرم الدولة،
وهو المالك الشرعي للثروات التي يحتويها وطنه، وكل ماتقوم به
الدولة التي يفترض انها نشأت من خلال "عقد اجتماعي" أو من خلال"
التفويض" لتدير شؤون الأفراد وتحرص على حماية مصالحهم. ولكن الدولة
العراقية وحتى اليوم ـ وهذا الكلام نظري ولايستهدف أي جهة او مسؤل
ـ هي عبارة عن سلطة وقوة وكيان مستقل ليس للمواطن فيه حصة تستحق
موقعه في تعريف مفهوم الدولة وفي واقعها الذي لاينشأ بدونه.
معلوم أن الأراضي كلها مملوكة للدولة، وهي في الواقع لاتعني
انها كانت مملوكة للملك غازي، أو عبد الكريم قاسم، أو صدام حسين،
ولاتعني كذلك انها مملوكة لمجلس الحكم أو البرلمان العراقي، أو اي
جهة تشريعية او تنفيذية أخرى، فالمعني الحقيقي للملكية يشير إلى ان
الأرض العراقية والثروات العراقية مملوكة للعراقيين وإنما تقوم
السلطات بتنظيم هذه الملكية فتشيد معملا هنا وآخر هناك أو تشق
طريقا هنا وآخر هناك، لأن المواطنين فوضوا الدولة القيام بذلك،
ولأن هذه الطرق وتلك المؤسسات لابد أن تقدم خدمات للمواطنين.
بتعبير آخر إن على الدولة أن تجد حلولا لمشاكل المواطنين، وألا
تفاقم مشاكلهم، فحين يعاني الناس من أزمة سكن ولايجدون من يعتني
بهم، ويجبرون على بناء أكواخ في اطراف المدن، فعلى الدولة ان تدرس
هذه المشكلة وتعين بوسائلها الخاصة من هو المحتاج الحقيقي لبيت
يؤويه وعياله، ومن هو المتاجر بهذه الأزمة، وحين تجد الدولة ان هذا
المواطن أو ذاك لايملك سكنا آخر، فالواجب عليها أن توفر له سكن، أو
على الأقل تحل له بعض المشكلة إذا كانت ظروفها لاتسمح في الوقت
الحاضر أن تحل كل المشاكل.
ولكن أن تقوم الدولة بتحريك جرافاتها المحمية برجال الشرطة
وتزيل أكواخ مواطنين وتتركهم في العراء، فهذا يعني أننا في ظل دول
وليس دولة واحدة، خصوصا حين يصرح الموظف المامور بتنفيذ امر
الإزالة أن مشكلة المواطنين لاتعنيه، وهو ملزم بتنفيذ امر الإزالة
الصادر من رؤسائه في الوظيفة، فهو يمثل دولة ويرى المواطن قادم من
دولة أخرى، وإلا فلايوجد تبرير مقبول واحد يجيز لأي سلطة تنفيذية
او تشريعية إزالة أثر لمواطن دون أن توضع مصلحة المواطن بنظر
الاعتبار.
هؤلاء المواطنون الذين لايجدون سكنا مناسبا يؤيهم وأطفالهم، هم
من أوصل الساسة إلى السلطة، وهم من سيوصل غيرهم في الغد، وحين يجد
هؤلاء الذين يراد منهم أن يكونوا مطية للآخرين في سبيل الوصول إلى
السلطة، أن حصتهم من العراق تقف عند حد إيصال الساعين إلى السلطة،
لمراتب أعلى، فحينها لايحق لأي أحد أن يعتب على هؤلاء حين تتغير
قناعاتهم وحين يخطئون، وقد يدفع العراق كله ثمن خطئهم.. |