القرار العربي في مصيدة اللاعقلانية والسياسوية

زهير الخويلدي

جاء في كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي: أيها الناس قوموا الى نيرانكم فاطفئوها ونجد فيه أيضا أن الله قد أوحى الى داود: يا داود كذب من ادعى محبتي واذا جن عليه الليل نام عني.

 ان التذكير بهاتين القولتين ضروري هذه الأيام لأن الجميع يذهبون الى النوم ويؤثرون مصلحتهم الخاصة تاركين مصلحة أوطانهم وشعوبهم وراء ظهورهم أو يقفون منها موقف عدم اكتراث وكذلك ان النيران مشتعلة هذه الأيام في العديد من المناطق والدول في العالم العربي الإسلامي وتحتاج الى من يطفئها وهذه الحرائق والحروب ليست بفعل الطبيعة ونتيجة الأعاصير والبراكين وغضب السماء بل نتيجة قرارات ساسة هذا الزمان وبسبب سوء تفاهم بني البشر وجنوحهم الى غريزة الطغيان وسيطرة انفعالات الكره والبغضاء والحقد على النفوس وتكالبهم على شيطنة الآخر والقول بفردوسية الأنا.

انه من المعلوم أن وضع كهذا هو أمر لا يطاق وينذر بالكارثة في ظل سياسة دولية متقلبة وعولمة ملتهبة وتقتضي التريث والحصافة وحسن التدبير في السياسة لأن البيت المحترق لا يقوم ولا يسمح بالآدمي بأن يستمر بالحياة فيه ونحن نرى أن الخلافات لم يقع تخطيها على الرغم من عقد العديد من جلسات الحوار وأن المفاوضات دائما تنتهي بتكريس الفرقة وتعميق التباعد وكأن الشخصية الشرقية ميالة الى الفوضى والنزاع وفاقدة لشروط التفاهم ومبادئ التوحد وكأن العقل العربي محكوم بالفشل والهزيمة وفاقد لمقومات النجاح والانتصار.

ثمة عدة أسباب تمنع من رأب الصدع في الساحة السياسية الشرقية وتؤجل مشروع المصالحة والتوحد وتقف حجرة عثرة أمام اصطفاف عدة قوى هامة وراء مشروع واحد مناهض للعولمة الامبريالية والشمولية السياسية والرجعية الدينية والفكر العنصري المغلق يمكن أن نذكر منها ما يلي:

*سيطرة الريع النفطي على السياسة:

المقصود أن الطفرة النفطية جعلت من بعض الدول الصغيرة في حجمها والتي لم تكن تلعب دورا كبيرا أو تحتل موقعا استراتيجيا تصعد الى السطح وتشرف على عدة ملفات حساسة وقضايا ساخنة مثل قطر وتعتمد منهجا برغماتيا وتغلب المنفعة والبيترودولار على حساب القيم والثوابت.

*انحراف الممارسة نحو السياسوية:

لا يمكن أن نسمي الأداء اليومي للأنظمة العربية بالفعل السياسي لأن هذه الكلمة تشير الى الإبداع والتخطيط والبرمجة والانجاز والإتمام والإتقان بينما ما نراه هو الارتجال والتردد والتذبذب وفقدان البوصلة وغياب النظرة الاستشرافية وسيطرة نزعة أنانية ضيقة وانتشار ذرائعية عشائرية مقيتة لم ترتقي الى مستوى التنظير السياسي البراغماتي الذي ينشد إحراز المنفعة للجميع وتمتع فئة قليلة بالنفوذ والقدرة على ممارسة السلطة وتحكم أقلية في مصائر الأغلبية.

ويسمى هذا الداء بالسياسوية وهو مرض عضال تعاني منه السياسة العربية ويؤدي الى اتخاذ قرارات غير أخلاقية وغير إنسانية في الفضاء العمومي وإتباع سلوك سلطوي لا يرحم ولا يشفق على الضعفاء والأجيال المقبلة لأن الغرض هو احتكار السلطة وتراكم الثروة وتحقيق الرغبة حتى وان كان ذلك بتخليف الضحايا وحرمان الآخر وتخريب الأوطان والوقوع في الاستبداد والطغيان لأن الغاية تبرر الوسيلة ومادامت الأهداف غير مشروعة وأنانية فلا يهم تستعمل جميع الوسائل غير المشروعة للوصول الى هذه الغايات القذرة والعنف وإشهار السلاح والفساد والجوسسة والسرقة وغسل الأموال والمتاجرة بالبشر هو من بين هذه الوسائل المتبعة في الأزمة اللبنانية، فهذا يقدم معلومات خطيرة عن فريق منافس له لوكالة مخابرات أجنبية وذاك يرد عليه بقوة السلاح ويكتسح المدينة ويحسم الأمر بمنطق غير مبرر وكلا الفريقين يمارس السياسوية وليس السياسة الحكيمة والإنسانية لأن جوهر السياسة هو الحق وليس القوة ، السلم وليس الحرب، التسامح وليس التعصب، الاتفاق وليس الخلاف، العدالة وليس الظلم، الصداقة وليس العداوة.

هيمنة البترودولار ورجال المال وتراجع دور الساسة وعدم الاحتكام الى المبادئ والثوابت في اتخاذ القرارات المصيرية وإتباع الهوى والانفعالات والابتعاد عن صوت الضمير وعدم الاهتداء بنور العقل كل ذلك أدى الى انقلاب السياسة العربية الى سياسوية وظهور مجموعة من المتزلفين المتعطشين الى السلطة وممارسة الطغيان وقلة احترام للتقاليد والرموز الحضارية.

 *انتصار الوهم والخرافة على العلوم السياسية:

السياسة هي على تدبير شؤون المجتمع تدبيرا عقلانيا وهي أيضا فن الممكن وهذا الممكن اتسع معناه ليفيد الخيالي والافتراضي والوهم وليعانق ميدان السياسة من جديد مجال التطير والتدجيل والشعوذة وطلب الحظ واقتناص الفرص من أجل الفوز بالمواقع وإحراز منافع آنية عاجلة حتى وان كانت ستخلف مآسي جماعية مقبلة.

ان انتصار السياسوية وشهوة الحكم وعودة الخرافة وسيطرة رجال المال  ومضاربي السوق على الساحة الاجتماعية والدولية هي أمارة على هيمنة لاعقلانية السوق على السياسة العربية وهذه اللاعقلانية الاقتصادوية جعلت كل تجارب الحوار بين الغرب والشرق تفشل وتصل الى طريق مسدود لأن لا أحد يقدم تنازلات للأخر ولا أحد يريد أن يحتضن الآخر ويرفض أن يكون هو الخاسر والمخدوع الطيب زائد على اللزوم وكأن الاعتماد على النية الحسنة والطيبة والسلوك العادل الخير هي من السموم والطفيليات التي ينبغي اقتلاعها من الممارسة والتفكير والقول العربي.

المدهش أن الاحتكام الى العقلانية بشقيها العقلانية الأداتية الحسابية والعقلانية التواصلية التفاعلية يمثل العلاج المناسب والدواء الحقيقي لهذه الأمراض لأن العقل الحساب يؤدي الى تحديد حجم الخطر ويعمل على حساب النتائج الكارثية فيتوجه على الفور الى توفير وسائط ضرورية لتخطي هذا الخطر أما العقل التواصلي فانه يؤدي الى التوافق والإجماع على نوع من الحكم الصالح ينهي الخلاف ويجعل الأغلبية تصون حقوق الأقليات ويدفع الأقليات الى احترام الأغلبية.

بيد أن العقل العربي التي تحكم بنيته على حد تعبير الجابري العقيدة والقبيلة والغنيمة يرفض في نفس الوقت الاحتكام الى العقلانية التداولية والعقلانية التواصلية ويعتمد فقط على الفوضى ويتبع هواه بل انه يعيش حالة من النكوص والاستقالة تجعله يلغي نفسه ليترك المجال مفتوحا للسحر والأسطورة والخرافة،ويصر على العناد ويرفض التنازل عما هو طبيعي لكسب ماهو مدني ويرفض احتضان الآخر والإنصات الى همومه ومشاكله.

ان العرب يقعون في الخلاف ولا يصلون الى اتفاق ويفشلون كل حوار اذا ما حكموا  اختلافهم حول العقيدة  وبجلوا الانتماء الى القبيلة على حساب الوطن وفضلوا تحقيق المصلحة الضيقة على حساب قيم الانسان الكونية. ان المطلوب هو أن نتعلم التنازل  والتفهم والاحتضان ، تفهم الأخر والتنازل عن القوة وليس عن الحق والحرية واحتضان المشارك لنا في الهوية والإنسانية.

 فما معنى أن يتساءل فيلسوف عربي اليوم عن ماهية السياسي وطبيعة الحكم الصالح وينادي بضرورة الاحتكام الى العقلانية التواصلية والديمقراطية التوافقية في السياسة العربية والتخلص من السياسوية والذرائعية الأنانوية الضيقة بينما يرافق كل سياسي منجم ويقف عراف وراء كل زعيم طائفة يقرأ له الحظ ويميز له بين أيام السعادة وأيام النحس ؟ فمتى يحكم رجال السياسة ضمائرهم في قراراتهم ويهتدون بالحكمة والعقلانية ويضعون مصير أوطانهم نصب أعينهم ويجنحون الى التفاهم والصلح ويبتعدون عن الخلاف والعداوة؟ وأليس الوقت مناسبا لكي نلعن اللاعقلانية ونلطم السياسوية حتى يعود الناس الى رشدهم وتتجه كل ممارسة إنسانية نحو مقاصدها الحقيقية ؟ ألا يجب أن يعمل القرار العربي على تقوية نفسه في مراكز الضعف كما يقول ميكيافيلي؟

* كاتب فلسفي

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء  28 أيار/2008 - 21/جماد الاول/1429