شبكة النبأ: على خلفية تعدد الإخفاقات في العديد من مناطق
النزاع العالمية، تشهد السياسة الخارجية الأمريكية في الآونة
الأخيرة حالة من التراجع الملحوظ على المستوى الدولي، والتي لا تقل
أهمية عن التأزم الأمريكي في العراق، حيث تزايدت الخسائر الأمريكية
البشرية والمالية هناك، فضلا عن، تدهور العملية السياسية.
يضاف إلى تلك الأزمات الإخفاق الأمريكي في أفغانستان والذي لا
يقل أهمية عن مثيله العراقي من حيث تزايد الخسائر المالية والبشرية،
وعدم تحقيق أهداف تلك الحربين من نشر الديمقراطية في منطقة الشرق
الأوسط، والقضاء على تنظيم القاعدة والمنظمات الإرهابية؛ فقد زادت
عددها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمقارنتها بتلك التي كانت
قبل هذا الحدث المفصلي في التاريخ الأمريكي، والذي يدحض مقولة
أمريكية مفادها أن العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر سوف يكون أكثر
أمنا عن مثيله قبل تلك الأحداث. ناهيك عن عدم وجود سياسات أمريكية
للتعامل مع صعود قوى جديدة على الساحة الدولية (الصين والهند) وقوى
أخرى تستعيد قوتها من جديد بعد فترة من التراجع (روسيا).
وفي إطار تلك البيئة التي تتسم بالتراجع الأمريكي على المستويين
الداخلي والعالمي، ومع قرب الانتخابات التمهيدية والانتخابات
الرئاسية المقررة في نوفمبر 2008؛ بدأت مراكز الأبحاث في بحث كيفية
مواجهة التراجع الأمريكي عالميا، واستعادة واشنطن مكانتها، بحسب
تقرير واشنطن.
مركز الدراسات الإستراتجية والدولية
ومشروع القوة الذكية
بدعم من مؤسسة ستار دشن مركز الدراسات الإستراتجية والدولية (CSIS)
مشروع القوة الذكية (Smart Power)، الذي يهدف إلى أن تقوم السياسة
الخارجية الأمريكية في الفترة القادمة على الدمج بين مفهومي القوة
الناعمة (Soft Power) والقوة الصلبة (Hard power)، وذلك في غياب
الرؤية الإستراتيجية لكيفية مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية
التي تواجها الولايات المتحدة، وانطلاقا من أهمية تلك الفترة حيث
تقترب الانتخابات التمهيدية من نهايتها، ومن ثم الدخول في حوار
قومي حول السبيل الأمثل لإدارة السياسة الخارجية الأمريكية؛ من أجل
تحقيق المصلحة والأمن القومي الأمريكي.
وفي هذا الصدد دعا المركز إلى اجتماعات ومناقشات ضمت أعضاء من
الإدارة الأمريكية الحالية، أعضاء من المكتب الانتخابي، الجيش،
المنظمات غير الحكومية، وسائل الإعلام، أكاديميين، وكذلك أفراد من
القطاع الخاص. وقد اجتمعت اللجنة ثلاثة مرات خلال عام 2007؛ لتطوير
مخطط تفصيلي لإنعاش القيادة الأمريكية الإلهامية على أساس مجموعة
من الأبحاث والدراسات أعدها خبراء بالمركز، والتي تمخض عنها توصيات
لتقوية مكانة وتأثير الولايات المتحدة عالميا.
وقد أصدرت اللجنة تقريرها عن التحديات التي تواجهها الولايات
المتحدة بعنوان "التوقع العالمي لتحديات الأمن العليا لعام 2008"
"Global Forecast the top security challenges of 2008"، وتقرير
أخر عن القوة الذكية كسياسة لاستعادة مكانة الولايات المتحدة
عالميا بعنوان "القوة الذكية، أمن أكثر لأمريكا" "Smarter, More
Secure America" وهُدف من خلالهما تشكيل النقاش السياسي أثناء
الحملات الانتخابية للمرشحين للفوز بالمكتب البيضاوي، وكذلك النقاش
الوطني حول سبل استعادة واشنطن مكانتها دوليا ومواجهة التحديات
التي تحدث عنها التقرير الأول.
رئيسا مشروع القوة الذكية
وقد رأس هذا المشروع والاجتماعات والحلقات النقاشية شخصيتين،
الأولى لها خبرة بالجانب العملي التطبيقي بالمشاركة في إدارات
سابقة، والثانية ذو خلفية أكاديمية مع العمل والمشاركة في العمل
الحكومي. وهما:-
ريتشارد أرميتاج (Richard L. Armitage) الذي تولى العديد من
المناصب، فعندما رشح رونالد ريغان نفسه للرئاسة انضم إليه أرميتاج
بصفته مستشارا في السياسة الخارجية منذ عام 1981 حتى 1983، وتسلم
منصب النائب المساعد لوزير الدفاع في شرق آسيا وشؤون المحيط الهادي،
ومنذ عام 1983 حتى 1989 عمل مساعدا لوزير الدفاع لشؤون الأمن
الدولي، وفي عام 1992 عينه الرئيس بوش الأب نائبا لوزير الدفاع في
مكتب شؤون الأمن الدولي، وتولى عام 2001 منصب مساعد وزير الخارجية
الأميركي، وقدم أرميتاج استقالته من منصبه في نوفمبر 2004 في وقت
واحد مع وزير الخارجية المستقيل "كولن باول"، ورئيس مركز "أرميتاج
الدولي" "Armitage International" www.armitageinternational.com
الذي أسسه في 2005 بعد خروجه من الإدارة الأمريكية، والمعني بتنمية
التجارة الدولية والتخطيط الاستراتيجي وحل المشكلات.
جوزيف ناي(Joseph S. Nye): وهو أستاذ بجامعة هارفارد، والعميد
السابق لكلية كيندي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد " Kennedy
School of Government" وقد شغل في الفترة من 1993 إلى 1994 منصب
رئيس مجلس الاستخبارات الوطنية، وفي الفترة من 1994 إلى 1995 مساعد
وزير الدفاع للأمن الدولي. ومؤلف كتاب (تناقض القوة الأمريكية:
لماذا لا تستطيع القوة العظمى الوحيدة في العالم أن تمضي بمفردها).
ماهية القوة الذكية (Smart Power)
القوة الذكية (Smart Power) عندهما تعني الدمج بين القوة الصلبة
(Hard Power) المتمثلة في زيادة القوة العسكرية والاقتصادية
الأمريكية، والقوة الناعمة (Soft Power) والتي تتمثل في استثمار
المكانة الأمريكية وجاذبيتها عالميا في التأثير. والجمع بين هاتين
القوتين التي يطلقان عليها القوة الذكية، ستمكن الولايات المتحدة
من التعامل مع التحديات العالمية. حيث هناك العديد من التحديات
التي تواجهها واشنطن ليست ذات طبيعة عسكرية كصعود الصين، التي حسب
الكاتبين تبني محطتا كهرباء تدار بالفحم كل أسبوع، فالقوة العسكرية
لن تفيد في التعامل مع تحديات من هذا النوع، ولكن التكنولوجيا
الأمريكية المتطورة من الممكن أن تجعل الفحم الصيني نظيفا، والذي
سيصب في حماية البيئة وفتح أسواق جديدة أمام الصناعات الأمريكية.
وهو ما أكد علية وزير الدفاع الأمريكي "روبرت جيتس" "Robert M.
Gates" في خطابه في 26 نوفمبر الماضي، حيث قال "أن القادة
الأمريكيين أدركوا أن طبيعة الصراعات تحتاج منهم إلي تطوير
القدرات والمؤسسات الأساسية (غير العسكرية)".
فهناك عدد من التحديات التي تواجه واشنطن في تطبيق إستراتيجية
القوة الذكية والتي تتمثل، في أدواتها الدبلوماسية والمساعدات
الخارجية التي توجه إلى الدول التي تُنافس فاعلين دون مستوى الدولة
داخل حدودها، وأن المساعدات المالية في أغلب الأحيان تكون غير
كافية ويمكن تجاهلها؛ بسبب صعوبة ظهور تأثيرها في المدى القصير على
القضايا الحرجة.ويري كلاهما أن استخدام القوة الناعمة عملية معقدة؛
لأن أغلب مصادر القوة الناعمة الأمريكية تكمن في العلاقات الثنائية
بين الولايات المتحدة وحلفائها، والمشاركة في المنظمات الدولية
المتعددة الأطراف، أو خارج الحكومات بالتأثير في القطاع الخاص
ومنظمات المجتمع المدني.
ولذا فلابد من عملية الدمج بين مفهومي القوة الناعمة والصلبة
حيال التعامل مع القضايا الدولية كمحاربة التمرد وبناء الأمة
ومكافحة الجماعات الإرهابية التي اعتمدت بصورة شبة أساسية على
القوة العسكرية الأمريكية، ولاسيما أن السنوات الست الماضية توضح
أن القوة العسكرية لا تستطيع حماية الأهداف القومية على المدى
الطويل.
والخبرة التاريخية توضح أن واشنطن نجحت في الدمج بين هاتين
القوتين في سياستها الخارجية وكان ذلك في الحرب العالمية الثانية
حيث اعتمدت على القوة المسلحة في القضاء على أعدائها، فضلا عن،
القوة الناعمة لإعادة بناء اليابان وأوروبا عن طريق خطة مارشال
وبناء المؤسسات والقيم التي كانت الأساس الذي قام عليه النظام
الدولي الجديد بعد تلك الحرب.
الانتخابات الرئاسية فرصة مواتية للنقاش
يرى ناي وارميتاج أن الحدث المهم في الولايات المتحدة الأمريكية
سوف يكون شهر نوفمبر 2008 حيث الانتخابات الرئاسية، فمن سيصل إلى
البيت الأبيض بصرف النظر عن انتمائه السياسي والحزبي سوف يرث أمة
مرهقة بعد ست سنوات من الحرب ضد الإرهاب، والطامحة إلى استعادة
دورها مرة ثانية على الساحتين الداخلية والخارجية. ولذا فانتخابات
2008 تختلف عن سابقتها حيث سيسيطر عليها قضايا السياسة الخارجية.
فالرئيس القادم سوف يقع على عاتقه تقديم اقترابا للشعب الأمريكي
يوازن بين الطموح الأمريكي في حماية الأراضي الأمريكية والعقلية
الدولية الحكيمة للخروج من العراق والنجاح في محاربة الإرهاب.
ويؤكدان أن الولايات المتحدة يجب أن تكون القوي الأذكى في
العالم " smarter power"، بإعادة الاهتمام بما يخدم الصالح العالمي
ـ عن طريق تزويد الأفراد والحكومات بما يحتاجون إليه ـ، والذي لا
يحدث في غياب القيادة الأمريكية.
وإن خدمة الصالح العالمي سيساعد واشنطن على تحقيق توافق بين
قوتها الهائلة ومصالح وقيم وتطلعات العالم، ولا يعد ذلك من وجه
نظرهما عملا خيرا، وإنما سياسة خارجية فاعلة.
ولاستعادة مكانة الولايات المتحدة عالميا فإنهما يريان في مقال
نشر لهما بصحيفة "واشنطن بوست" "Washington Post " في التاسع من
ديسمبر والمعنونة بـ "قف عن الجنان، أمريكا، أصبحت ذكية" "Stop
Getting Mad. America. Get Smart" أن عليها التركيز على خمس أشياء
أساسية هي:-
أعادة تقوية التحالفات والشراكات والمنظمات التي تتيح لواشنطن
مواجهة مصادر الخطر المتعددة، وعدم الحاجة إلى بناء إجماع من
البداية عند مواجهة كل تحدي جديد.
أن يكون هناك اهتمام على مستوي الإدارات الأمريكية بالتنمية على
المستوي الدولي، مما يساعد واشنطن على تطوير برامج المساعدات، بحيث
تكون أكثر تكاملا وتوحدا، والذي يربط المصالح الأمريكية مع تطلعات
الأفراد في كافة أنحاء العالم، والذي يبدأ بالاهتمام بالصحة
العالمية.
إعادة استثمار الدبلوماسية الشعبية، وإنشاء مؤسسات لا تسعي إلى
الربح في الخارج؛ لخلق روابط بين الأفراد، والتي تتضمن مضاعفة
الاعتماد السنوي لبرنامج "فولبرايت" "Fulbright Program".
الارتباط بالاقتصاد العالمي بالتفاوض حول مناطق التجارة الحرة
مع دول منظمة التجارة العالمية الراغبة في التحرك تجاه تحرير
التجارة، استنادا إلى القاعدة الدولية، وتوسيع مناطق التجارة الحرة
لتشمل الدول التي لم تحلق بركب العولمة.
أخذ موقع الصدارة في قضايا التغيرات المناخية وغياب الأمن
لمصادر الطاقة، بالاستثمار أكثر في التقنية والإبداع.
وحسب أرميتاج وناي تتطلب القيادة أكثر من الرؤية، فهي تحتاج إلى
التنفيذ والمسئولية الغائبتين في الإدارة الحالية.
تصدير الأمل!
منذ قيام الولايات المتحدة الأمريكية وهي تكافح من أجل الدفاع
عن مبادئ وأفكار عالمية كالحرية والمساواة والعدل سواء كان بالقوة
المسلحة أو الاقتصادية، وعملت على جذب الأفراد والحكومات إلى صفّها
من خلال حربين عالميتين وخمس عقود من الحرب الباردة. ورغم اختلاف
المصالح بين واشنطن وحلفائها إلا أن القيادة الأمريكية مهمة لتحقيق
عالم يسوده السلم و الازدهار.
ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدأت الولايات المتحدة في
تصدير الخوف والغضب بدلا من الأفكار التقليدية والتفاؤل. وإعادة
المجد مرة ثانية إلى القيادة الأمريكية سيتحقق بالبحث عن مسلمة
مركزية جيدة لسياستها الخارجية لتحل محل الحرب على الإرهاب التي
سيطرت على السياسية الخارجية لواشنطن لقرابة سبع سنوات. والالتزام
الأمريكي بخدمة الصالح العالمي يجب أن يكون هدفها في القرن الحادي
والعشرين.
ويختتما دراستهما بأن الرئيس الأمريكي القادم سوف تتاح له فرصة
في بداية عام 2009 لتقديم رؤيته لأمريكا الآمنة والذكية (أي منظوره
للقوة الذكية التي يجب أن تركن إليها أمريكا في الفترة القادمة)،
وإعادة اكتشاف العظمة الأمريكية كمصدر للأفكار والحلول العملية في
كل أنحاء العالم الذي سيستمع إلى كلماته وأفعاله، واللتان ستشكلان
الطريقة التي ستتعامل بها واشنطن مع التحديات العالمية لعام 2009
وما بعده. |