المبادرة لا المناورة

محمد علي جواد تقي

في اللقاء الذي جمعني مع الدكتور محمود عثمان ـ أحد ابرز القادة الأكراد ـ في مدينة شقلاوة وكان حينها في ملابس البيشمركة وفي باكور، التجربة السياسية الكردية عام 1998 أي بعد انسحاب مؤسسات نظام صدام العسكرية والمدنية، قال بصراحته المعهودة واسلوبه المباشر بإننا هنا في كردستان بحاجة إلى من يقدم لنا يد المساعدة ويعطينا (حَب وجع الرأس).. لا أن يصدّع رؤوسنا بالكلام والتنظير!.. وكان حينها يتحدث عن حالة الارتباك والحيرة التي خيّمت على قوى المعارضة العراقية آنذاك بعد قمع الانتفاضة الشعبانية وخروج صدام من جريمة غزو الكويت والحرب مع اميركا سالماً.

ونجد بعد مرور هذه السنوات الطوال على تلك التجربة التي لامسنا طراوتها وحداثتها قبل ان يقوى عودها وتصبح أمراً واقعاً، مايزال هناك البعض يكرر الخطأ الذي تبرم منه محمود عثمان، طبعاً فيما يتعلق بهمه وقضيته القومية، وهو محق في ذلك، وهذا الخطأ المتجدد يبدو إن على العراقيين ان يدفعوا ثمنه في ظل تداعيات مستمرة على كل الاصعدة وغياب مبادرات من شأنها رفع الواقع الاجتماعي ثم السياسي خطوة إلى الأمام وليس الإبقاء على الوضع القائم الذي يعود نظرياً إلى سياسية استعمارية قديمة...

الواقع العراقي اليوم بحاجة ـ قبل أي وقت آخر ـ  إلى يد المساعدة لينهض وينتفض من تلقاء نفسه، كما حصل في انتفاضة عام 1991 وكما حصل بعد الاطاحة بالتماثيل الحجرية لصدام يوم التاسع من نيسان عام 2003 مع فارق الشكل ونوع ردود الفعل.. لا إلى اللسان والتنظير والمزيد من استدرار الدموع والضغط على الجراح.. مثال على ذلك، الجرح الغائر الذي تعرض له العراقيون في مشاعرهم الدينية بهدم الروضة العسكرية في سامراء، فبعد مرور اكثر من عامين على بقاء المرقدين مهدمين لم يسكن هذا الجرح سوى المبادرة الشجاعة لموكب صغير من كربلاء المقدسة يقتحم جدار الخوف الوهمي ويصل إلى الروضة العسكرية ليشق الاخرون الطريق ويساهموا بشكل حقيقي في اعادة بناء هذا الصرح الحضاري المقدس.

هذا على الصعيد المعنوي، أما على الصعيد المادي فإن ارتفاع اسعار المواد الغذائية ـ مثلاً لاحصراً ـ بحاجة إلى مبادرة شجاعة تصون مزارع العراق وتربته الخصبة والتربة من التجاوز وقرارات التجريف وابادة البساتين بإي عذر وحجة كانت.. ومن ثم انقاذ الفلاح من محنة البطالة وضنّك العيش وحماية المستهلك من جشع التجار وغزو المنتوجات الاجنبية والامثلة على ذلك كثيرة لمن يُحب.. وحسناً فعل سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المُدسّي ـ دام ظله ـ عندما ذكّر المعنيين والخيرين في احدى محاضراته الاخيرة بضرورة التطلع إلى آفاق المستقبل وهم يرومو العمل في مختلف الحقول، واستشهد بمشروع كفالة الايتام التي تقوم بها مؤسسات خيرية بكل عزيمة واصرار في كربلاء وبعض المحافظات مشدداً على إن اليتيم ليس بالضرورة بحاجة دائماً إلى المأكل والملبس وإنما إلى التعليم والثقافة وربما سيقول البعض أو الكثير بإن الجهة الوحيدة القادرة على النهوض بمبادرات فاعلة ومؤثرة هي الحكومة لامساكها كل مقومات القوة من مال وقانون، ومن يريد انجاز عمل ما ـ وفق هذا التصور ـ عليه المناورة سياسياً واعلامياً للوصول إلى مفاصل القوة حينها يفكر بإنقاذ من يمكن انقاذه! في حين يقضي المنطق والعقل بإن تجربة الناس مع الحكومة واحدة وليس بوسع أحد ان يقول: (عندما أصل أنا إلى السلطة سأكون أفضل من غيري)، إلا إذا وثّق اقواله بمصاديق على الارض في مشاريع واعمال بعيدة كل البعد عن الاجواء السياسية، لان معيار العمل الناجح والمثمر على مدى الزمان مايوضحه القرآن الكريم في وصفه العمل بشكل واضح وجميل في الآية الكريمة: "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"

شبكة النبأ المعلوماتية- االخميس 15 أيار/2008 - 8/جماد الاول/1429