إسْلامُنَا وَ مِحْنَةُ أهْوَائِنَا

(الحلقة الأولى)

 محمّد جواد سنبه

ما حدث في العراق من أحداث قتل، وعنف خلال السنين الماضية، يعتبر مؤشراً خطيراً يشير بوضوح، إلى أنّ هناك خللاً كبيراً، قد حصل في وعي جزء من أبناء الأمّة الإسـلاميّة. وهذا الجزء المعبأ بالجريمة والقتل والإرهاب، ماهو إلاّ ناتج من بيئة أكبر (من حيث العدد)، تتبنى فكرة القتل وانتهاك حرمات الآخرين، وإلاّ من غير المعقول أنْ تظهر هذه المجموعات، من فراغ وعفويّة، وبشكل متتابع أشبه ما يكون بالموجات التتاريّة المدمّرة للنسل والحرث.

 هذه البيئة الكبيرة هـي المنتج والمسوّق الرئيسي للإرهاب، وهي الأكثر تدهوراً في وعيها من المغرر بهم، وهي الأكثر انحرافاً في عقيدتها و فكرها وسلوكها وأخلاقها، من الذين ينفّذون جرائم الإرهاب. هذا الخلل القاتل لا ينبغي أنْ يمرر إعلامياً، على أنّه حالة شاذة سرعان ما تذوب وتندثر، فالأمر يتطلب معالجة جذريّة شاملة، كي يُستأصل المرض من جسم الأمّة الإسلاميّة، لتعود أمّة الإسلام كما أراد لها الله أنْ تكون (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). فليس عيباً أنْ نخطأ، فتلك سنّة الله تعالى في الإنسان، كونه غير معصوم، باستثناء من أراد الله تعالى أنْ يعصمهم لحكمة منه، لكن العيّب كلّ العيّب، أنّ لا نفتّش عن أخطائنا، والأكثر عيباً أنْ نتباله أمام تلك الأخطاء، والأكثر من الأكثر عيباً، أنْ ينافق بعضناً على البعض الآخر، ويوهم كلّ طرف الطرف الآخر، أنّ لا خلاف بيّن الأمّة، وإنّها مجرد وجهات نظر مختلفة حول قضايا بسيطة.

الأمر ليس كذلك قطعاً، وليس بهذه البساطة الساذجة أيضاً، ولو كانت بهذه البساطة، لما كفّر أحدنا الآخر واستباح حرمته. إن مأسآة أمّتنا الإسلامية (وعلى وجه التحديد العربيّة منها)، المداراة على المرض، ومحاولة عدم كشفه والاستحياء من التحدث عنه أيضاً. فالشعوب العربيّة تحبّ المدح، وتعشق الإستعلاء، وترغب بشدّة سماع أساطير البطولة وصولات الفرسان، وهي متكئة باسترخاء بليد، ليروا صور الفتوحات الإسلاميّة، وسبي الجواري والعبيد، وتوزيع الغنائم على المجاهدين في سبيل الله، ورؤية وليّ الأمر (أمير المؤمنين)، جالساً على عرشه المذهّب، وعلى رأسه عمّة كبيرة فاخرة، تتصدّر مقدمة كورها، جوهرة نفيسة، تضفي على منظره بهاءاً أخاذاً، وهيبة باهرة. وهذا الخليفة يمضي مجلسه، متظاهراً بالتقوى وحرصه على الإسلام ووحدة المسلمين، ومعاقبة كل من يشق عصا وحدة المسلمين بقطع الرأس. وبعد انتهاء هذا المجلس (البروتوكلي)، سرعان ما ينتقل إلى دار مشيّد بظهر بيت الخلافة، هو دار الحريم. وهناك تبدأ الصورة الحقيقيّة (لأمير المؤمنين)، إنه خمّار يعبّ الخمّر عبّاً، ويطوف على الجواري الجميلات، اللائي نظّمت أسماؤهن في جدول شهري، يتمّ بموجبه ضبط دور الجواري، للقاء (أمير المؤمنين)، في خلوة لا يعلم حلّيتها إلاّ الله تعالى.

 إنّ ولاة الأمر الذين هم على هذه الشاكلة، وعلى مدى تاريخ طويل، هم الذين فرّقوا الأمّة ودمّروها تدميراً، لأسباب لا تخفى على أحد، فعندهم اجتمعت قوّة السلطة وقوّة المال، وبهاتين القوّتين وضعوا ما شاءوا، وحذفوا ما شاءوا، من أحاديث نبويّة شريفة، وسنن مطهرة وسير جليلة، وكفّروا من شاءوا على أمزجتهم وأهوائهم. فلا يستغربنّ أحد أنّ هذا المنهج، لازال متّبعاً لحدّ الآن، من قبل ولاة الأمر أصحاب النفوذ السلطويّ، وإن كان بطريقة مختلفة. فالسلطويون يرغبون بشدّة تحقيق الأمور الثلاثة التّالية:

 الاوّل: إمضاء الأمور على ماهي عليه، دون التدخل في إصلاحها، مادام أمر سلطانهم بخيّر، أي (عدم تحريك ساكن، أو تسكين متحرك).

والثاني: إعداد جيّش من المدافعين يضمّ بين صفوفه، علماء دين، مثقفين، وعاظ حكومة، رجال دين، عناصر أمن ومخابرات، رجال إفتاء... الخ.

والأمر الثالث: إنّ السلطة في نظر السلطويّين مكسب وحقّ خاصّ، والدفاع عن المكاسب والحقوق حقّ مشروع (في نظرهم). لذا فيصبح وجودهم ليس لإصلاح الأمّة، وإنّما لإصلاح سلطانهم وبقائه.

إنّ التاريخ العربي (الرسمي)، يقف على الدوام مصطفاً بجانب خطّ السلطة، فيكتب التاريخ (الرسمي)، على ضوء رغبات (وليّ النعمة)، الأمر الذي ينسحب على مواقع أخرى، أكثر أهميّة من التاريخ. ينسحب إلى خدش المقدسات الإسلاميّة، لدرجة الجرأة على اختراع احاديث تنسب للرسول (ص)، ودسّ سير مزيّفة، وإدخال وقائع مكذوبة، كلّ ذلك خدمة للسلطان والسلطة. فعلى سبيل المثال التاريخي ؛ سقطت بغداد في 10 شباط عام 1258م (في خلافة المستعصم بالله العباسي)، على يد هولاكو. والمؤرخون الرسميون يرفضون بشدّة لوم الخليفة (أمير المؤمنين)، لأنّه كان منشغلا، فـي الجواري والخمور وتربية الحمام، ويضعون اللوم كلّ اللوم، على وزيره ابن العلقمي، ومن سوء حظّ ابن العلقمي، أنّه من الطائفة الشيعيّة، أو ربّما هكذا كان دوره في سيناريو سقوط الخلافة العباسيّة، فربّما المؤرخون اخترعوا له هذه الهويّة الطائفيّة، ليكون بمثابة طوق النجاة، الذي ينجو به الخليفة، من لعنة التاريخ والأجيال اللاحقة من جهة، وحتى تبقى على الدوام، الطائفة التي ينتمي لها ابن العلقمي، متهمة في الدّين، والوطنيّة والواجب والأخلاق.

هذا هو جزء من تاريخنا العربي الإسلامي، تاريخ (قفاّز) يعتبر الحقائق ماهي إلاّ (عوارض أو موانع)، يجب القفز عليها، وتركها وراء الظهر دوماً. ومن الجدير بالذكر أنّ التاريخ الحديث، لا يجرّم الفكر القومي في هزيمة العرب، أمام إسرائيل في حرب حزيران 1967م، لأنّه فكر السلطة. من المؤكد أنّنا لا نستطيع تغيّير التاريخ، ولا نستطيع إعادة كتابة التاريخ أيضاً، فالتاريخ أشبه بالصورة الفوتوغرافية، فأيّ عمليّة مونتاج تدخل عليها، تكون طارئة على صميم حدث الصورة، وتكون في فترة خارج تاريخ الصورة، وبذلك يدخل ما ليس في التاريخ إلى التاريخ. لكن بإمكاننا أنْ نقيّم أحداث التاريخ، وهذه هي الدراسة العلميّة له. فمن خلال هذه الدراسة، التي يجب أنْ تتبنى موقف الحياد بصورة مبدئيّة. يمكن عزل الكثير من الشوائب، وغربلة أحداث و وقائع التاريخ، من عمليات التزييف والتحريف، التي كانت تغذيها وتحركها السياسات الحاكمة، التي تفرض تصوراتها على الآخرين، أمّا بقوّة الحديد والنار، أو بقوّة المال والجاه. وأنا واثق أنّ هكذا مشروع استراتيجي، هو خارج حدود إمكانيّات الأفراد، وإنّما يجب أنْ تتبناه، مؤسسات مستقلّة، وكوادر علميّة متنوّرة، لا يثنيها يـأس أو يردّهـا عجز. إنّ الكثير من مثقفينا يتطرقون إلى موضوع الوحدة الإسلاميّة، أو التفاهم والتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وهذا شعور غاية في النضج والرقيّ، وتحمّل أعباء المسؤوليّة الشرعيّة والأخلاقيّة والتاريخيّة معاً.

 لكن أودّ أنْ أنبّه، أنّ الجهود التي بذلهـا أكابر العلماء، من مختلف المذاهب الإسلاميّة كبيرة جداً، ومستمرّة منذ تاريخ بعيد، وفي مقاطع زمنيّة متعاقبة. فكانت تتخذ أشكال المراسلات والمناظرات، وكان منها في العصر الحديث، مراسلات العلاّمة عبد الحسين شرف الدين (رحمه الله)(ولد عام 1869م)، مع الإمام شيخ الأزهر الشريف، الأستاذ سليم البشري (رحمه الله)، والتي بدأت في عام 1908 م، و جمعها الإمام شرف الدين(رحمه الله) في كتاب سماه(المراجعات). واضيف هنا: أنّ حملة تشكيكيّة كبيرة، تعرض لها هذا الكتاب ومؤلفه، سابقاَ ولحد هذه اللحظة. فمنهم من يكذّب هذه المناظرات جملة وتفصيلاً، ومنهم من يذهب إلى التشكيك في مصداقيّتها، ومنهم من يذهب إلى غير ذلك من التصوّرات. وما على المتتبع إلاّ البحث عن كلمة (المراجعات) في شبكة الانترنت، حتى تظهر عشرات المواقع، المنتقدة والمشكّكة بهذا العمل. وأقول: لو سلّمنا بأنّ (المراجعات) كتاب مزيّف، لكنه لا يخلو من جهد علميّ، جمع و وثّق مسائل الخلاف بين الطرفين، لذا فإنّه يصلح ليكون مصدراً، لتثبيت هذه المسائل و ردودها، على أقل تقدير. في الحلقة القادمة إنْ شاء الله تعالى، سنبحث الأسباب التي منعت، وحدة الأمّة الإسلاميّة وتلاحمها، والحلّ البديل الذي يضمن (على الأقل مؤقتاً)، تماسك الأمّة، والحدّ من تدهور كيانها، وهدر طاقاتها وقدراتها. والله تعالى من وراء القصد.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- االاثنين 12 أيار/2008 - 5/جماد الاول/1429