مضت سنين كثيرة على قراءتي لكتاب الأخلاق للفيلسوف الهولندي (باروخ
سبينوزا) وقد حاولت جاهدا أن أمارس إسقاط ما قرأته على واقعنا
العربي المعاصر ولكن هيهات، فحجم المفارقات الغريبة العجيبة جعلتني
في حيرة من أمري، فانه في هذا الشرق لا توجد ثوابت فكل شئ قابل
للجدل ويحمل تبريرا من كل الاوجه.
فعلى سبيل المثال لا الحصر في معركة صفين قتل عمار بن ياسر رضي
الله عنه فقيل لمعاوية بن ابي سفيان ان الرسول صلى الله عليه وسلم
قال لعمار: ستقتلك الفئة الباغية يا عمار، وكان جند معاوية هم
الذين قتلوا عمارا وهنا قال معاوية بكل ثقة: الذي قتله هو الذي غرر
به، ويقصد الجماعة التي ناصرت علي بن ابي طالب.
وهذه الحادثة يمكن اسقاطها على كل تاريخنا العربي المعاصر
فسواء النظم السياسية الحاكمة او الجماعات السياسية المعارضة
الاسلامية منها او اللبيرالية تجد تبريرا لكل الامور التي تقترفها
على مبدا ميكافيلي بان الغاية تبرر الوسيلة ولو سلمنا جدلا بهذا
المبدا فلا يجوز بأي حال من الاحوال ان يسخر الدين لخدمة السياسة
بل العكس هو الصحيح فالسياسة هي التي يجب ان تخدم الدين ولو قرا
هؤلاء الساسة التاريخ الاسلامي من بدايات الدعوة لوجدو فيه قصص
كثيرة تؤكد مقولة ان السياسة هي التي يجب ان تخدم الدين، فعلى
سبيل المثال لا الحصر عندما قرر المسلمون الهجرة نصحهم الرسول صلى
الله عليه وسلم بالهجرة الى الحبشة وقال لهم ان فيها ملكا لا يظلم
عنده احد مع العلم ان الرسول لم يزر الحبشة ولم يقابل النجاشي في
حياته ولكنه سمع عنه وعندما وصل المسلمون الى بلاط (النجاشي) كانت
قريش قد أرسلت عمروا بن العاص وكان هذا الاخير صديقا للنجاشي وكان
لم يسلم بعد وحرضه على عدم استقبالهم ولكن النجاشي قرر ان يسمع
منهم قبل ان يتخذ قراره بقبولهم او عدمه وبعد ما سمع منهم ما سمع
عن شريعتهم سألهم عن سبب اختيارهم الحبشة من دون البلاد جميعها
وهنا كرروا عليه ما قال لهم الرسول ان فيها ملكا لا يظلم عنده احد
وهنا اردف النجاشي قائلا هل حقا قال لكم ذلك وجاء الرد بالايجاب
وهنا سمح لهم النجاشي بالبقاء ما شاؤوا.
وهذا درس من دروس كثيرة لا تعد ولا تحصى من مدرسة المصطفى صلى
الله عليه وآله وسلم فهذا هو الفرق بين النفاق وبين الايمان فالذي
حصل مع المسلمين في الحبشة هو الايمان والذي يحصل مع اغلب الحركات
السياسية التي تدعي الانتماء الى الاسلام هو النفاق فهم يسخرون
الدين مع الاسف لاغراض سياسية مما يوقع الناس في حيرة من امرهم ولا
خلاص لنا الا ان نحكم الاخلاق في كل تصرفاتنا وسلوكياتنا فانه بدون
الاخلاق تنهار الامم وتزول لانه عندما قرات الكتاب في الماضي لم
افهم ما قصد سبينوزا بذلك ولكن الحقيقة ان سبب التخبط والضياع التي
تعيشه الامة هذه الايام هو انهيار القيم وضياع الاخلاق والبعد كل
البعد عن العمل المؤسسي الذي بالتالي يؤدي الى زوال الحضارة
الانسانية ووصولها لطريق مسدود وعذرا منك يا سبينوزا فقد سبقك الى
هذه المحصلة احد الشعراء العرب ولخص ذلك في بيت من الشعر:
انما الامم الاخلاق ما بقيت
فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا. |