يواجه المجتمع العراقي حاليا اعباء بالغة التعقيد تعكر صفو
حياته اليومية، من بطالة وتضخم ونقص في الخدمات والوقود التي يصعب
الحصول عليه خارج السوق السوداء، وانعكاسات كل هذا على تكاليف
المعيشة و الانتاج على حد سواء.
وقد ادت الارتفاعات في تكاليف الانتاج الى توقف الكثير من
المشاريع الصغيرة الصناعية والزراعية والخدمية في البلاد، بعد ان
اصبح من غير الممكن لها مواجهة المنافسة غير المتكافئة في السوق
العراقية، المتخمة بالسلع التي تضخ من دول الجوار وجنوب شرق وغرب
اسيا، بسبب التعطيل المتعمد لسياسة الحماية التجارية التي صيغت في
السنين السابقة لحماية المنتج العراقي.
ان وزارة الصناعة والزراعة والموارد المائية والتخطيط لم تباشر
من جانبها بوضع تصور لمعالجة المشاكل التي تواجه القطاعين الزراعي
والصناعي التي دفعت بالعاملين فيها الى البطالة. كما لم تدرس
الظاهرة الاخطر وهي الهجرة المستمرة من القطاع الزراعي الى المدن
وخاصة العاصمة، وما تسببه من ضغوط على فرص العمل والخدمات الشحيحة
فيها.
ويعزى السبب الرئيس للبطالة بمختلف أصنافها ومصادرها في البلاد،
الى وجود اختلالات هيكلية خطيرة في اقتصادنا موروثة من الحقبة
السابقة، ناتجة بالاساس عن ضآلة الاستثمارات في النشاطات الانتاجية
لمختلف قطاعات وفروع الصناعة والزراعة والبنية التحتية.
وبرغم أن قطاع الانتاج الصغير والمتوسط هو الاكثر استيعابا لقوة
العمل اليدوية وأقل أستخداما لرأس المال، إلا انه الاضعف مساهمة في
الناتج القومي. ولذا ومع اهمية الابقاء على قطاع الانتاج الصغير
والمتوسط في الوضع الراهن لدوره المميز في تشغيل اعدادا كبيرة من
قوة العمل قليل المهارة، ينبغي العمل على مراحل لزيادة دوره في
الناتج القومي عبر تشجيع الاستخدام الاوسع لوسائل انتاج حديثة ذات
كفاءة عالية ترفع من متوسط أنتاجية العمل.
ومن هنا تنشأ ضرورة مباشرة سياسة استثمارية متعددة التوجهات
والاهداف تأخذ طريقها الى مختلف حقول النشاط الاقتصادية. بدون ذلك
ووفق التركيبة الحالية للآقتصاد سيتحول المجتمع العراقي الى
مجتمع يعتمد بشكل شبه كلي على انتاج الدول الاخرى، فيما الكثير من
موارده البشرية والاقتصادية تواجه الاهمال والتجاهل.
وما يزيد الوضع الاقتصادي سوء والبطالة بشكل خاص،هو السياسة
التجارية للدولة. فبدلا من أن تكون موجهة بالاساس لخدمة التنمية
الاقتصادية وتشجيع الانتاج الوطني وزيادة فرص العمل، نراها تعمل
العكس تماما. فهي تكبح النمو الاقتصادي بوضع العراقيل امام توسع
الانتاج الوطني مما يرغم أصحاب المشاريع الصناعية والزراعية على
غلق أبوابها وتسريح العاملين فيها لينضموا الى جيش العاطلين عن
العمل.
أن السياسة التجارية الحالية تعتمد سياسة حرية التجارة من خلال
الوقف المتعمد لسياسة الحماية التجارية التي صيغت سابقا خصيصا
لحماية أنتاج المشاريع الزراعية والصناعية الوطنية. والمراقب
المحايد للأثار الاقتصادية المترتبة على هذه السياسة يخلص الى
أستنتاجين أثنين لا ثالث لهما.
الاول: أن الوزارة لا تفقه دور وأهمية السياسة التجارية في
حفزالتنمية الاقتصادية.
ثانيا: أن مصالح خاصة وراء التوسع في منح أجازات الاستيراد،
بصرف النظر عن ماتسببه من أضرار على سوق العمل والانتاج الوطني.
فالشائع أن موظفين فاسدين على صلة باقارب الوزير في الوزارة تحصل
على عوائد مالية من كل اجازة تمنح للمستورد.
هذا اضافة الى وجود رغبة قوية لدى المسؤولين فيها لأبقاء نظام
اجازات الاستيراد ساريا الى أجل غير مسمى، بحجة أفضلية مبدأ حرية
التجارة على مبدأ السياسة التجارية الموجهة، وهو أعتقاد خاطئ
تماما. فالولايات المتحدة نفسها تأخذ بمبدأ التدخل في حماية
أنتاجها الزراعي لحماية فرص العمل وتطور انتاجها الوطني.
في العراق الذي يعاني اكثر من 50% من قواها الحية من بطالة
دائمة، لا ينبغي أبدأ أن يسمح بوجود الاف المشاريع الصناعية
الصغيرة والكبيرة تعمل بأقل من نصف طاقتها التشغيلية، بينما عدة
الاف اخرى متوقف عن العمل كليا بسبب السياسة التجارية الخاطئة.
علما أن عددا اخر من الصناعات قد توقف عن الانتاج كليا، بسبب
التصاعد الجنوني المنفلت لتكاليف الوقود وانقطاع التيار الكهربائي
وتوقف الدعم الحكومي من أي نوع.
ولذا فأن الاستمرار في هذه السياسة التجارية سيوقف توسع وتطور
الانتاج الوطني الى غير رجعة، اذا لم تتخذ الاجراءات لوقف السياسة
التجارية التدميرية المتبعة ضد انتاجنا الوطني بكل اصنافه.
أن التخطيط والمتابعة هما مفتاح التقدم الى امام، وبدونهما يصبح
الكلام الكثير كما الماء الراكد يتعفن مع مرور الوقت. وما أقترحه
هنا بالضبط هو وضع مهمة ادارة النشاط الاقتصادي بمجلس من المختصين
في العلوم الاقتصادية والتخطيط يقوم بصياغة السياسات التنموية
واقتراح ادوات تنفيذها، من خلال ما يعده من خطط أقتصادية متعددة
المدى. ويكون(المجلس الاقتصادي)هذا بمثابة فريق العمل المهني
الساعد الايمن للحكومة، يضطلع بمهمة تنفيذ السياسة الاقتصادية
للبلاد على مراحل يقدر هو مداها، تنجز في مرحلتها الاولى اعادة
تأهيل الاقتصاد العراقي كمهمة عاجلة، وخلال ذلك يكثف جهده نحو
اعادة هيكلة الاقتصاد وتخليصه من التشوهات التي لحقت به نتيجة
السياسات الخاطئة السابقة.. |