الحرائق المجهولة تأتي على ما تبقى من ثروة النخيل في العراق

اعداد/صباح جاسم

شبكة النبأ: فيما يشبه محاولات لإبادة الحرث والنسل في العراق وبعد ان دَمرت الحروب المتتابعة والاهمال ثروة النخيل، تعرضت عشرات البساتين في منطقة بدرة شرقي محافظة واسط إلى حرائق دمرت آلاف أشجار النخيل فيها، في ظاهرة يقول عنها أصحاب البساتين إنها تتكرر منذ ما يزيد على الشهر، فيما لم يتمكن احد منهم أو السلطات المحلية من معرفة أسبابها أو ظروفها. 

يقول محمد عبد الكريم حاج علو رئيس الاتحاد المحلي للجمعيات الفلاحية في بدرة (70كم شرقي واسط) إن "عملية إحراق البساتين التي بدأت وبشكل ملفت منذ أكثر من شهر ونصف من الآن  تدور حولها شكوك كثيرة فهي تحصل في الليل دائما ويكون الحرق للأصناف النادرة."

ويلمح علّو إلى "نوايا" مقصودة في عملية الإحراق بقوله أن "الشخص الفاعل يقوم بإحراق جذع النخلة، وتحديدا منطقة (قلب) النخلة ..  فالنار إذا وصلت إلى قلب النخلة  تموت حالا."

وأضاف علّو أن "هناك غرفة عمليات شكلتها الحكومة المحلية في بدرة لمتابعة هذه الحالة التي أدت حتى الآن إلى إتلاف إعداد كبيرة من النخيل وأشجار الفاكهة".

وأشار إلى أن"الجفاف الذي تعاني منه الأراضي الزراعية في بدرة والناتج عن سوء توزيع الحصص المائية وعدم السعي الى توفير مياه الري والسقي أدت إلى جفاف المزروعات والأشجار والأدغال ما سهل سرعة انتشار النيران في البساتين التي شهدت عمليات حرق."

وتشتهر بساتين النخيل في بدرة التي تقدر مساحتها نحو ثلاثة آلاف دونم بإنتاج أصناف مميزة من التمور مثل (المكتوم وجمال الدين والبربن والقيطاز) وصنفي (علي العبد وعلي دولا) وهما، الأخيرين، من الأصناف الفريدة وغير المتوفرة سوى في بساتين بدرة. بحسب تقرير وكالة اصوات العراق.

ويقول علي علوان رئيس جمعية البستنة في بدرة  إن "البعض من المواطنين يشير بأصابع الاتهام إلى أصحاب مقالع الحصى المتواجدين في حوض نهر (كلال) بدفع أصحاب النفوس الضعيفة لتنفيذ أعمال حرق البساتين."

وأضاف أن "هناك شكاوى كثيرة رفعت ضد أصحاب المقالع لتجاوزهم على مجرى النهر والقيام بعمليات الحفر وتسببت تلك الأعمال بعدم وصول المياه الى البساتين التي يعد نهر كلال مصدرها الرئيس."

ونهر كلال  هو نهر قادم من الأراضي الإيرانية ويعد المصدر الوحيد لسقي البساتين في مدينة بدرة، لأنه يصعب وصول المياه بكميات كافية لتلك البساتين من نهر دجلة لأسباب عدة من بينها بعد المسافة وارتفاع الأرض إضافة إلى التجاوزات التي تحصل على مشروع التغذية الذي بالكاد يكفي للشرب.

ويقسم ( الكلال) البساتين في المدينة إلى قسمين، فهو يمر في وسطها ويوفر لها مياه السقي على طول المواسم ويزيد تدفق مياهه في فصل الشتاء لكن إيران قامت في السنوات الأخيرة بإنشاء سد عليه ما أدى إلى توقفه كليا وصار يتعذر السقي من خلاله.

وأشار علوان إلى إن "أصحاب البساتين يتهمون أصحاب المقالع بإحراق بساتينهم، لكن الأمر لا يتعدى غير الاتهامات وان جميع عمليات الحرق التي طالت 106 بساتين كلها سجلت ضد مجهول" مطالبا الأجهزة الأمنية في المدينة بضرورة  البحث جديا عن المتسببين بذلك وكشف الفاعلين وتقديمهم للقضاء".

من جانبهم، حاول أصحاب البساتين عبثا الوقوف على أسباب تلك الحرائق، ويقول الحاج محمد كاظم جود (80 عاما) "اتصلت برئيس المجلس البلدي أكثر من مرة حول كارثة الحرائق وذهبت مع مجموعة من أصحاب البساتين المتضررين وتحدثنا حول مسببات ودوافع هذه الأعمال".

وأضاف أن "البساتين في بدرة أصبحت مهددة بالفناء تماما لسببين شحة ماء السقي وما تبعه من عمليات حرق منظمة وواضحة المعالم من دون ان نعرف لها سببا".

ويقول المزارع محسن احمد محمد "امتلك بستانا مساحته 26 دونم ومنذ عشرات السنين كان ولازال هو مصدر رزقي وبسبب الجفاف وعمليات الحرق التي تعرض إليها أصبت بخسارة كبيرة لا تعوض، ومثلي هناك العشرات من أصحاب البساتين ممن يأملون إنصافهم في أدنى تقدير في البحث جدياً عن المتسببين بتلك العمليات.

وقال صاحب بستان آخر إن "واردات الإنتاج أصبحت لا تسد المصروفات لأنها تدنت كثيراً وتسبب الأمر بموت أعداد كبيرة من أشجار الفاكهة إضافة إلى انقراض أصناف فريدة من التمور."

وأضاف ولي شاطر إن المشكلة لم تقتصر على الحرائق فقط، بل تعدتها إلى شحة المياه، وهو الأمر الذي سوف يقضي على تلك البساتين."

فيما يقول الحاج خضر حسين إن "حوادث إحراق البساتين التي تعد الأشد فتكا بالنخيل مازالت تسجل ضد مجهول". مشيرا إلى أن "فرق الدفاع المدني في بدرة والكوت ساهمت بإطفاء الحرائق التي تحصل غالبيتها في الليل وتمت السيطرة عليها وفي بعض المرات استمرت عمليات إخماد الحرائق أكثر من ست ساعات".

وأضاف "تعرض لحد الآن 106 بساتين لعمليات الحرق المنظمة من أصل نحو ألف بستان تشتهر بأجود أصناف التمور والفواكه ما تسبب بخسائر طائلة كلفت أصحابها نحو أربعة مليارات دينار عدا المشيدات والأبنية التي أصابها الضرر."

ونوه الحاج حسين إلى أن "البساتين تنتشر في جانبي المدينة الشرقي والغربي وهي بمساحات مختلفة وتعد مصدر العيش الوحيد لأصحابها."

مصدر في الحكومة المحلية قال إن "هناك إجراءات جادة نقوم بها لكشف المتسببين بعمليات إحراق البساتين، لكن إلى الآن لم نشخص أحدا بذاته أو جهة معينة بالقيام بتلك الأعمال."

وأضاف المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، "نحن لدينا شكوك وملاحظات حول ما يجري وشكلنا غرفة عمليات لمتابعة الموضوع ونعتقد أن الأجهزة الأمنية والعناصر الاستخبارية قادر على كشف المتورطين قريبا".

نخيل البصرة من 13 مليوناً عام 1977 إلى أقل من مليونين

أكثر من 60 سنة مرت على مطالبة أحد موظفي دائرة الزراعة في البصرة الحكومة الملكية آنذاك بتقليل عدد أشجار النخيل من اجل زراعة الأرض بأشجار أخرى بعد أن ضاقت المساحات بـالـ13 مليون نخلة المثمرة، وهو مجموع أشجار النخيل في المدينة الجنوبية، والتي كانت توصف حقاً بأنها غابة لا تحد وأنهار لا تعد.

وحتى منتصف الستينات من القرن الماضي كان عدد أشجار النخيل في البصرة أكثر من 13 مليون نخلــــة من مجموع نخيل العراق البالـــغ 30 مليوناً، ويؤكد الباحثون أن تسميــــة العراق بأرض السواد جاءت من مشاهد غابات النخيل في البصرة حين كان العراق يعني البصرة فقط، ومعروف لدى الجميع أن لفظة العراقين تعني البصرة والكوفة.

 ويقول الشيخ عبدالقادر باش أعيان في كتابه "النخلة": تكاد البصرة تنفرد عن بقية مدن الأرض بالنسبة الى تأثير الفيضان فيها، فهي لا تتأثر به بل العكس تماماً، فهو يغسل أراضيها من كميات الملوحة التي يسببها قربها من البحر، وكانت المواسم التي تعقب الفيضان من أفضل المواسم الزراعية فيها، إذ تصبح أراضيها خصبة خالية من الأملاح، ومعدّة لزراعة مختلف أنواع المزروعات، وبخاصة النخيل.

وتنفرد البصرة بوجود اكثر من 350 نوعاً من التمر بين التجاري الذي يصدر، كالحلاوي والساير والزهدي والخضراوي... وبين الخاص الذي يستخدم للاستهلاك المحلي، كرطب البرحي والبريم والقنطار. وكانت أول باخرة محملة بالبلح تغادر ميناء المعقل (10 كلم شمال البصرة) في مطلع الشهر العاشر من كل سنة متوجهة إلى اميركا، ثم تتوالى السفن الكبيرة منها والصغيرة تجوب بحار العالم شرقاً وغرباً حاملة تمر البصرة إلى العالم.

وكانت الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي سنوات ذهبية بالنسبة الى إنتاج التمور في البصرة من ناحية الكمية والجودة، ولعل جملة أسباب تقف وراء ذلك، فلم يكن النفط عرف بعد ليصبح مصدراً رئيساً للاقتصاد، بل لم يكن الفلاحون أنفسهم سمعوا بعد بمقدار كمية النفط في العراق ومخزونه منه، وإنما كانوا يعتقدون بأن التمر والتمر وحده هو المصدر الحقيقي للحياة ومن دونه لا معنى للعيش.

ويعتقد التجار وكبار ملاكي البساتين بأن النظام الضريبي المعمول به آنذاك كان شجع على استثمار أموالهم في زراعة النخيل وتجارة التمور، حتى صار يعرف الملاك الحقيقي بمقدار ما يمتلك من أشجار النخيل، والنخل هو المعنى الأول للثراء في البصرة. بحسب تقرير لـ الحياة.

وكان أهل البصرة أشهر الناس في تصنيع التمور، وتفننوا في صناعاتها، وتطورت هذه الصناعة في شكل كبير منتصف القرن الماضي، عندما كان يصدر بالخصاصيف والأقفاص المصنوعة من السعف والجريد قبل دخول الصندوق الخشب، وصار التمر يعلب بعلب خشبية وبمختلف الأحجام، فانتشرت المكابس الكبيرة على ضفتي شط العرب بفضل التجار الكبار الذين فتحوا لهم فروعاً في لندن ونيويورك وبيروت وغيرها.

ولعل التاجر البريطاني المشهور أندرو ويت الذي دخل العراق مع بداية الحرب، من أول التجار الذين عرفوا أهمية تمر البصرة، فأنشأ شركة لصناعة التمر صارت في ما بعد أكبر مستودع للتمور في العالم وهي المنطقة المسماة اليوم بنهير الليل عند مدخل نهر الخندق من جهة شط العرب، ثم توالت المكابس يقيمها تجار البصرة وصار اسم بيت حنا الشيخ و بيت جوك و بيت اصفر و مارين و الداوود وغيرها ماركات مشهورة في عالم الصناعة التمرية.

ويقول المعنيون إن العد العكسي لصادرات البصرة من التمور بدأ بانهيار الحكم الملكي، ومجيء الجمهوريات التي اتجهت الى النفط بكل طاقاتها، وفتحت الشركات وصار الفلاح يترك حقله ليعمل بأجر يومي هو في الحقيقة أضعاف ما كان يحصل عليه، ثم ان النظام السياسي صار يضايق الملاكين فهربت غالبيتهم إلى دول الخليج والدول الأوربية للبحث عن فسحة الأمان المفقودة في البصرة، وللحفاظ على رؤوس الأموال التي باتت مهددة من جانب النظام.

ويقول الحاج عبدالرزاق العلي أحد المكبسين المعروفين في البصرة إن المتاجرة بتمر البصرة اليوم لا تؤمّن للتاجر حاجته، وإذا لم يستورد من الناصرية والحلة وغيرهما، فإنه لا يستطيع سد حاجة السوق، لأن مساحات شاسعة من البساتين خرجت تماماً من كونها مصدرة للتمر، فـ الفاو هذه المدينة التي كانت تشكل المصدر الرئيس للإنتاج لم تعد كذلك، وهي اليوم عبارة عن صحراء بطول 100 كلم خالية من النخل إلا من نخلة أو نخلتين بعد أن جرفت الحرب العراقية - الايرانية ما كان على أرضها.

تهريب الفسائل الى ايران

يقول حميد صالح حمود، رئيس المجلس البلدي لناحية البحار التابعة لقضاء الفاو ان على رغم عودة بعض الفلاحين إلى المنطقة، إلا أن ما يزرع اليوم لا يتناسب مع المساحة الكبيرة الخالية، والمشكلة الأكبر، من وجهة نظره، هي أن المنطقة ما زالت تعاني وجود مئات الآلاف من الألغام التي لم تُنزع والتي تتسبب بإعاقات للناس فضلاً عن تحولها إلى صحراء بعد أن كانت واحة من نخل وفاكهة.

وهناك مشكلة أخرى تقف وراء انخفاض عدد أشجار النخيل في البصرة وهي تهريب الفسائل من النوع الجيد المسمى محلياً بالبرحي إلى إيران ودول أخرى عبر شط العرب، على رغم ندرة هذا النوع، فضلاً عن ارتفاع نسبة الملوحة في الأراضي بسبب شح المياه وعدم قيام الدولة بكري الأنهار الكبيرة، ما أدى إلى انخفاض مستوى المد والجزر وذلك بسبب الطمي والغوارق الكثيرة التي سدت مجرى الشط الكبير .

ويقول جمعة خضير عيسى، معاون مدير زراعة البصرة، إن دائرته استحدثت آلية جديدة لإكثار عدد الفسائل وذلك بإقامة 4 محطات لأمهات النخيل في مناطق من البصرة، هي: القرنة، والبرجسية، والفاو والهارثة، وهي مشاريع حديثة تعتمد على زراعة الفسائل والعناية بها بمساعدة كلية الزراعة والجمعيات الفلاحية من أجل تزويد المزارعين بالفسائل وبعد أربع سنوات تؤخذ الفسائل الناشئة منها على أن تهدى الأم الى المزارعين.

ويحدد مدير زراعة أبي الخصيب، احمد شهاب، عدد نخيل البصرة بعد عام من توقف الحرب العراقية - الإيرانية، وفي ضوء إحصائية عام 1989 بمليون وتسعمئة ألف نخلة بعد أن كانت تقدر عام 1977 قبل اندلاع الحرب مع إيران بـ3 سنوات بأكثر من 13 مليون نخلة.

ويتحـــدث شهاب عن عوائل النخيل إذ كانـت الفسائل تزرع بوجود النخلة الأم والنخلة الجدة وكلها مثمرة، لكن طريق التعاون الذي فتحه الجيش العراقي من منطقة الخورة حتى آخر نقطة في رأس البيشة في الفاو تسبب في جرف آلاف الهكتارات من الأرض الزراعية وتحويلها إلى مراصد وسواتر حربية جعلت من المنطقة هذه والبالغ طولها أكثر من 120 كلم أرضاً بوراً، ما أخرجها من كونها أراضي زراعية، كما ان غلق مئات الأنهار وتحويل مجاريها تسببا في رفع نسبة الملوحة في التربة بحيث لم تعد الزراعة ممكنة فيها.

ويؤكد رئيس الجمعيات الفلاحية أن البصرة لا تنتج اليوم اكثر من 1-10 مما كانت تنتجه في السابق، فقد توالت التراجعات سنة بعد أخرى حتى أجهز عليها بالكامل النظام السابق أثناء حربه مع إيران، بعد هجرة الفلاحين وتجريف الغابات الكثيفة من النخيل والبساتين على ضفتي شط العرب.

وبذلك خرجت تمور البصرة منذ ثمانينات القرن الماضي من السوق العالمية، فأغلقت مكاتب التجار في لندن وفرنسا وأميركا والهند وجنوب شرقي آسيا وبلدان الخليج، حتى نسيت الأسواق العالمية المدينة بصفتها منتجاً لأقدم أنواع التمور وأجودها بعد أن كان إنتاجها منها تجاوز الـ130 ألف طن سنوياً.

البصرة تستورد تمورها من المحافظات المجاورة!!

والمتبضع من أسواق البصرة اليوم يأخذه العجب، فقد اختفت أنواع كثيرة من تمورها، وما هو معروض في السوق منها لا يدل على سابق عهدها به كأشهر مدينة للتمر في العالم، بل إن من يبحث عن الأنواع الممتازة من التمور لا يجدها في تمر البصرة، بل في تلك التمور التي تصلها من محافظات كربلاء وديالى وبغداد وغيرها من مدن النخيل الأخرى، فتمر البصرة صار أصغر حجماً وأقل جودة بفعل العوامل التي ذكرناها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24 نيسان/2008 - 17/ربيع الثاني/1429