العرب ارتجال في التقرير وبطء في التغيير

زهير الخويلدي

يظهر التاريخ أن الشعوب الموهوبة اذا لم يتبدل قوامها الموروث تتحلى بقدرة تكيف واختراع تجعلها تتغلب على الأزمات الاجتماعية وأزمات المؤسسات

ريمون رويه  نقد الإيديولوجيات المعاصرة

العرب اليوم يحقدون على الصيرورة وينفرون من التجديد ويكرهون الحركة ويميلون الى السكون ويحبون التقليد ويؤثرون الاستقرار، شعارهم عبادة الماضي في الحاضر وتقديس الموروث وترك أمور المستقبل بيد المجهول، وحالهم هي الثبات في التردي والإبقاء على التدهور،سلفية في العقل وانهزامية في الوجدان وامتهان للسان وميوعة في الجسد ولصوصية في اليد,

 تمزق من هنا وانقسام من هناك ،اقتصاديات راكدة وسياسات خاطئة وأزمات اجتماعية خانقة وتضخم في الأنا وشعور بالعظمة والتفوق عند الملأ الأعلى وجلد للذات وشعور بالدونية والقهر عند السواد الأعظم والأغلبية الصامتة وانكماش في الثقافة وانحباس في الأخلاق.

 اقتصاد يقوم على أوراق مضغوطة وسياحة وانتاج ذو بعد واحد موجه نحو استيراد كل شيء وتصدير لاشيء ، غلاء في الأسعار وبطالة وهجرة غير شرعية وشرائح اجتماعية تورث أبناءها في نفس المواقع وتعيد إنتاج نفسها بشكل يسد باب الأمل على الأجيال الشابة ويحرمها من فرص تحقيق الذات وفرض الكيان.

ما يفترض بالنسبة للعقل السليم والضمير الراشد والتجربة التاريخية هو أن العامل الهام الذي يقف وراء تعكر الأجواء وانسداد الآفاق هو غياب عقلية المؤسسة في التعامل مع الناس وعدم احتقار قيمة المواطنة والتفويت في القيم الأصيلة وتفضيل الربح السريع وتكديس الثروة وإتباع أساليب غير المشروعة مما ينشر الفساد في الإدارة والرشوة والمحسوبية. فماهي الأسباب الفعلية التي أدت الى مثل هذه الوضعية المقلقة وغير المحتملة؟

السبب الأول لبقاء دار لقمان على حالها يتمثل في الارتجال في التقرير وعدم القيام بالتخطيط العلمي للمستقبل وغياب الرؤية الإستراتيجية وتغليب الأهواء والعواطف والمزاجية والمؤثرات الذاتية في إسداء التوجيهات وسن التشريعات وإصدار القرارات، إذ نرى في ديار العرب تلاعب بالقوانين تطبق على الضعفاء ويخترقها الأقوياء دون محاسبة وكأنها جعلت لتحمي الأغنياء من الفقراء وليس لتنصف الفقراء من جور الأغنياء.

 ونرى كذلك شعارات جوفاء وكذب على العقول وتهريج وتهميش وممارسات انتخابية عرجاء، كل شيء حدد حسب المقاس: شروط مجحفة للترشح وآليات موجهة للانتخاب ونتائج أعدت سلفا ومعروفة قبل الفرز وان اقتضت الضرورة تعديل الدستور واللجوء الاستفتاء من أجل التوريث والجلوس على العرش الى أبد الآبدين وقد يصل الأمر الى حد الانقلاب على المسار الديمقراطي ان أفرز بروز تيار يتعارض مع واقع الأمور.

الشارع العربي أصبح يخشى من القرارات التي تتخذ من الفوق دون استشارة القاعدة الشعبية ودون مراعاة اللحظة التاريخية وأفق الانتظار لأن كل تقرير صار يعني المزيد من النبذ والاستبعاد والتضييق وكل عزم على الإصلاح من طرف السلطة يعني المضي قدما في التسويف والتعويم لحقوق الناس وتدمير شروط الحياة وأديم الأرض وجلب المهالك والكوارث للبلاد والعباد.

الارتجال يعم كل تدخل يقوم به المجتمع السياسي في اتجاه المجتمع المدني والاعتباطية تسم الروابط التي تجمع الحكام بالمحكومين، كل إصلاح في طرق التعليم والتربية ليس سوى استجابة لضغوط عالمية من أجل اجتثاث الإرهاب والقيام باخصاء الذات وتخثير الوعي وتعليب العقول وترويض الأجساد حتى تصبح لينة ولعبة طيعة في يد السلطان، أما مراجعة منظومة الصحة فحدث ولا حرج وكأن الغاية منها ليس توفير المزيد من الرعاية الطبية لكل مواطن والقضاء على الأمراض المستعصية وقهر الشيخوخة ورفع معدل الأمل في الحياة عند الناس بل الحد من تعمير الأرض وتخريب النوع البشري والقضاء على السلالات وإبادة الجينات المقاومة في الأجساد.

السبب الثاني الذي أدى الى تعكر الأجواء واشتداد الأزمة هو البطء في التغيير والصوم على التطوير  والتخوف من الإصلاح والنفور من التحوير إذ لا وجود لحراك اجتماعي وليس ثمة ارتقاء طبقي ولا تغير في المنظور الاجتماعي أو تبادل في المواقع بين الأجيال وانما هناك تأبد للتفاوت بين الفئات الاجتماعية وهوة شاسعة تفصل الذين يسيرون دواليب الأنظمة وبين الذين يخدمونهم دون أن يستفيدوا شيئا ودون أن يوفروا لأنفسهم حياة كريمة أو حتى يضمنوا لأبنائهم مستقبل مقبول.

قد نعثر فوق أرض العرب على الحداثة الشعرية والنقد الأدبي والواقعية الفنية والإصلاح الأخلاقي ولكن يحرم الحديث عن الحداثة السياسية والثورة الثقافية والتنوير الديني والانقلاب القيمي لأن ذلك في عيون الشخصيات الاعتبارية الماسكة بمقاليد الوضع السائد نوع من الشغب والإلحاد والصعلكة والتهريج يخدم الطفيليين ويحقق لهم العديد المنافع أكثر من عامة المجتمع.

 يفسر البعض هذه الركود بالتحديات الخارجية ووقوع العرب ضحية مؤامرة كبرى وعودة الاستعمار والتهديدات الأجنبية والنهج الاختراقي الاستقطابي الذي اعتمدته العولمة والصراع على الهوية والتقاتل بين الهويات ويفسر البعض الآخر هذا الانحباس بالضعف الداخلي وحالة الهوان والانقسام التي تعاني منها الشرائح والطبقات والفئات الاجتماعية وانسداد الآفاق وضياع البوصلة والدخول في نزاعات ثانوية غير مجدية ومنهكة وهو ما أخر كل تغيير وزاد في الارتباك والارتجال. فكيف يمكن أن نقاوم هذا الارتجال في التغيير والتخوف من التغيير؟

المطلوب اليوم في حضارة اقرأ هو الابتعاد عن أسلوب الفرقعات الهوجاء والصدمات القاتلة وتنجب التنظير الطوباوي والقفزات الجنونية نحو المجهول والتوقف عن التعويل على المساعدات الخارجية وما تمن عليه الدول المانحة من قروض ومنح والتوجه نحو الثقة بالمقدرات الذاتية والتعويل على النفس وترشيد النفقات وبناء تنمية خصوصية تتلاءم مع السياق الاجتماعي.

من هذا المنطلق ينبغي الإيمان بالصيرورة التاريخية والقيام بالتحول الوجودي والانخراط في المنعرج السياسي والشروع في انجاز تخطيط علمي للمستقبل بامتلاك الرؤية الإستراتيجية وذلك بفسح المجال أمام الجيل الصاعد من أجل تحميله مسؤولية وجوده ووضع مصيره بين يديه.

ان هذا المقصد لا يتحقق الا بالدقة والحكمة في التقرير والمساهمة والتوازن في التغيير والبداية بالعقول والأنفس والتركيز على نظم التربية وأطر الثقافة والتشيع على العلم والفنون ثم الانتقال الى الشروط المادية والبني التحتية واحترام الحريات الفردية والتركيز على العلاج السياسي لكونه العلاج الحقيقي لكل الأمراض وشرط أي سداد أخلاقي ممكن للمجتمع.

المشكلة التي تعوق كل تقرير سديد وتغيير جذري تتمثل في غياب التعامل السوي والأصيل مع التراث والعولمة والوقوع في سلفية مقيتة للماضي الموروث والحاضر المعولم وأقوم المسالك هو تجاوز منطق الثنائية الميتافيزيقي إما مع القطيعة والانكماش وإما مع التواصل والذوبان في الآخر واعتماد منطق تعددي جديد يخرج الانسان من دائرة البعد الواحد الى الانسان متعدد الأبعاد يجعل من العقلانية النقدية مدار نظره للواقع ومن الهوية الكوكبية قبلته الوجودية ومن السياسة الحيوية قاعدته الاتيقية.

فمتى نرى العرب لا يقررون الا ما يقدرون على انجازه ويفعلون ما يقولون ؟ وماهي الشروط التاريخية التي ينبغي أن تتوفر لكي يحدث التغيير المرتقب الحاسم؟ وأي دور للمفكرين والفنانين والكتاب في هذا التغيير؟

* كاتب فلسفي

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 21 نيسان/2008 - 14/ربيع الثاني/1429