نوازع حزبيّة في قراءة المناهج الدّينيّة

كريم المحروس

إلى جانب معاناة رواد الإصلاح من الآثار السلبية التي تركتها التحديات المعترضة لجهودهم ومساعيهم الحميدة؛ لم يخذل هؤلاء الرواد سبل الاعتدال في مشروع الإصلاح، ولم يتبنوا منهج المواجهة المباشرة للتعليم التقليدي ومناهجه القديمة في المؤسسة الدينية - التي كانت تعتبر آنذاك بمثابة القطب الذي يُستمد منه رؤى الدين - ولم يتغيبوا عن أوساطها، وشاركوها جهودها ومسيرتها العلمية، وتدارسوا ما كان يشوب هذه المؤسسة من فكر تعطيل وانسداد وجمود وقعود وانقطاع عن المحيط الاجتماعي والخارجي الإقليمي والدولي. لأن المؤسسة التعليمية الدينية- في تقدير الرواد المصلحين - هي الحاضنة الرئيسة للإرث النظري والتراث الثقافي الديني الأصيلين ولا يمكن التمرد عليها والخروج عن دوائرها بغية إصلاحها من الخارج.

الإصلاح وشؤون السياسة

وقد أثبتت المسيرة التعليمية والثقافية في عصرنا الراهن أن الدور الذي لعبته جهود الإصلاح في سيرتها الأولى كان دورا حكيما ومتفوقا في الإبقاء على الإرث والتراث العلمي والثقافي شامخين صامدين متألقين واثقين في مضامينهما ومحافظين على هيئتهما وصورهما. وإلى جانب هذا الدور المهم نجح رواد الإصلاح في إخراج مؤسسة التعليم الديني على عزلتها، وعبّدوا لها الطريق من أجل فاعلية مجدية في الوسط المجتمعي والإنساني العام، وعرفوها بمتطلبات المرحلة الجديدة من بعد التحول العلمي الحديث وتقدمه المتسارع باتجاه البناء الحضاري.

 ربما كان جيل الإصلاح الأول اصطدم بحمى الصراع ومراكز النفوذ السياسي حتى أُشغل به عن الفكرة في جعل إصلاح مناهج الدراسات الدينية مقصدا أساسيا، فكانت مفاهيم الإصلاح السياسي بالنسبة لهذا الجيل مدخلا لصنع فرص تعديل تلك المناهج وتطويرها. وكانت الخشية من الامتداد الكبير للنفوذ التعليمي المدني والنفوذ الثقافي الوافد قد هيمنت في كثير من الأحوال على هموم رواد الإصلاح، فاضطر بعضهم مرغما أو مختارا إلى تقسيم نسب الاهتمام بين المؤسسة ومناهجها التعليمية وبين شؤون السياسة والدولة والمجتمع. لكن المراحل المتقدمة من عهد الصراع السياسي والنفوذ الفكري الوافد استطاعت بلورت فكرة إصلاح المناهج التعليمية وجعلت منها أساسا متقدما على طريق النهضة بالأمة من جديد وبشكل متوازن ومتين في وقت كانت الرؤية شديدة الضبابية إزاء إثر العلوم الدينية وإرث وتراث المؤسسة التعليمية على الحياة المستجدة ومتطلبات الولوج بها في إطار مشروع إصلاح المناهج التي باتت تشكل منطقة محرمة في تلك المرحلة الزمنية الخطرة بسبب عدد من الخبرات السلبية المختزنة في الذهن الديني فضلا عن الخشية من الوافد الأوروبي مجهول الأغراض والمقاصد.

التجديد ونزْع فكرة الانقلاب على الموروث

وبعد أن نشطت عملية إصلاح وتجديد وتطوير مناهج التعليم الديني في بعض مساعيها، تكشّفت للكثير من طبقات المجتمع أن تلك المساعي كانت أخذا حقيقيا بالأمة نحو معايشة مثال الإنسان الحضاري ومساهمة جادة في تحولاته بشكل أساس وفاعل بلا خروج على متطلبات حدود الشريعة وإشراقات العقل وأنوار الحكمة وشروط وضع الأشياء في موضعها بلا إفراط ولا تفريط. كما لمست طبقات المجتمع أن هناك تجنبا مؤكدا عن فكرة الانقلاب على الموروث الديني وبعدا عن غرض صناعة بدائل تعليمية مبنية على الالتقاط والاستنساخ عن بيئة وافدة.

وفي مرحلة معاصرة انبثقت عن تلك المساعي مشروعات هادفةً إنشاء مؤسسة تعليمية دينية حديثة صُرّح مرارا أنها تشكل امتدادا للأصول والجهات التعليمية والحوزات الأم التي شهدت أولى جهود الإصلاح وانطلاقتها. وعُرف عن هذه المؤسسة التعليمية الحديثة تبنيها لفكرة التجديد والتطوير الدائم في المناهج والوسائل التعليمية من بعد إصلاحها حتى يتسنى لها الرقي بالمؤسسة التعليمية التقليدية والمساهمة في تعزيز دورها الريادي والفاعل بين الأمم . ولكن هذه المساعي مازالت في مراحلها الابتدائية حتى الآن، ولم تستطع أن تصل بمنتسبيها إلى درجات علمية متقدمة مقاربة للدور الحوزوي العلمي التقليدي، وغلب عليها البعد عن المقصد الأساس المتمثل في إعداد مستويات علمية قادرة على ممارسة الاجتهاد، ولكنها نجحت في التوفيق بين متطلبات المنهج العلمي المدني بما يحمل من صفة علمية شمولية وبين الإرث العلمي الديني التقليدي، الأمر الذي بات محل جدل في الوسط الحوزوي الذي قلل من أهمية هذه المساعي واعتبرها خروجا على المألوف والدارج في الحياة العلمية الدينية، وأكد أن الإصلاح يجب ألا يخرج عن دائرة الحوزة ونظمها التقليدية، واعتبر مثل هذه المساعي تمرّدا على دور رواد الإصلاح الأوائل ومقاصدهم، ولا يمثل امتدادا لآمالهم.

من هنا، فإن البحث والدراسة في المؤسسة التعليمية الدينية وتسليط الضوء على دور جهود الإصلاح في تطوير مناهج الدراسات الدينية في العصر الحديث؛ يُعدّ مساهمة أساسية في الكشف عن الكثير من التجارب والخبرات التي تركتها جهود الإصلاح لخدمة الدراسات التعليمية الدينية الحديثة ومناهجها ووسائلها، إضافة إلى جعل هذه الخبرات والتجارب رهن حاجة ذوي العلاقة والشأن في المؤسسة التعليمية الدينية التي بدأت بالتوسع والانتشار منذ نهاية القرن الماضي على أيدي المخلصين للوصول بها إلى تغطية الحاجات العلمية والأكاديمية في بلاد مختلفة.

 وعلى هذا السبيل كان مسعى القائمين على هذه المؤسسة التعليمية العريقة بحاجة إلى بحوث ودراسات كاشفة ومعززة للأدوار الحميدة المكملة للوظيفة العلمية الدينية، ومعرّفة بنقاط الالتقاء والافتراق بين مناهج التعليم ومفاصلها القديمة والحديثة وسبل تقييمها وتقويمها والآثار التي تركتها جهود الإصلاح وتجاربها التمهيدية على مسار الوظيفة التعليمية، والسبل المجدية لتطوير مناهجها، ومظهرة لمدى تطابق جهود الإصلاح مع الحاجات الذاتية والمجتمعية المعاصرة ومستوى انسجامها مع التحولات الحضارية الحاصلة في عالم اليوم، بالإضافة إلى تحليل خبراتها وقيمها وأهدافها من بعد كشف ظروف نشأتها ونموها.

 كل ذلك يأتي بهدف تأسيس بناء تعليمي منهجي سليم يعي الإرث والتراث المكتسب ويحيط علما بالمعطيات التاريخية ذات العلاقة ويراعي ظروفها ويتعاطى معها بالسبل المناسبة الكفيلة بإيصال التعليم الديني إلى مقاصده في مثل هذا الظرف الذي طغى فيه الجدل حول النظريات الدينية المتصدية لمشروع بناء مجتمع في إطار دولة دينية كنظرية ''ولاية الفقيه'' التي تطلق للقائمين على الحوزات والمدارس الدينية وخريجيها صلاحية السلطنة والهيمنة على المال والأنفس، فضلا عن تعاظم دور الفضائيات المتخصصة في الشأن التعليمي الديني وتصديها لمشروع نشر العلوم الدينية بين عامة الناس من بعد أن كانت مقيدة بصرح تعليمي تقليدي خاص مغلق، إضافة إلى المشروعات العلمية الحديثة التي حملت على عاتقها تأسيس جامعات إسلامية وتعبيد الطريق أمامها للاصطفاف في عرض الجامعات المدنية.

تدخّلات ذاتيّة في دراسة إرث الإصلاح

ومن خلال متابعة ومطالعة الدراسات والبحوث والمؤلفات والمطبوعات في هذا الشأن؛ نجد أن إرث الإصلاح ومدوناته مبعثرة غير منتظمة في إطار منهج خاص. وقد اقتصرت بعض هذه الأطر على تغطية جزئية لأفكار وتجارب إصلاحية تقليدية خاصة وتجاهلت أجزاء حضارية أخرى مهمة وأساسية انطلاقا من أسباب طائفية أو حزبية أو شخصية أو عصبية مرجعية تقليدية أو مناطقية أو قومية. وكانت نتائج التغطية تلك قد حُصرت وضُيقت في شأن قاصر من الشؤون السياسية في الأغلب الأعم من دون رعاية لحقائق تعليمية كبيرة المقام كانت ترمي إليها جهود الإصلاح، كما حددت في جوانب تحليلية بلا رعاية للجانب التجريبي ومساراته النظرية أو الوظيفية الصحيحة، وجَمد بعضها على دراسة بعض التجارب الإصلاحية في عهد محدد خاص من دون متابعة آثار تلك التجارب أو نتائج انعكاساتها على الواقع المعاصر.

نجد الكثير من المصادر المعنونة بموضوع الإصلاح المؤسسي والمنهجي للتعليم الديني لا تحكي قصة التجارب الإصلاحية في مناهج الدراسات الدينية ولا خلفياتها الفكرية ومقاصدها الحقيقية بشكل مجرد خالص. واقتصر الكثير منها على الاهتمام بجانب التحليل السياسي وتغطية حركة الإصلاح في هذا البعد بشكل مفصل في بعض الأحيان، وغفلت جانب الإصلاح في القواعد العلمية والفكرية والمنهجية التي انطلقت منها جهود الإصلاح الديني والكيفية التي تعاطت بها مع مؤسسة التعليم الديني وحواضرها. يضاف إلى ذلك أن بعض تلك المصادر ركزت اهتمامها على الجوانب الإصلاحية بعيون طائفية أو عصبية مرجعية أو حزبية أو مناطقية أو قومية متطرفة، وكانت تحلل في بعض الأحيان في الجوانب الشخصية لبعض المصلحين بغية توجيه فكر الإصلاح إلى أغراض ومقاصد فئوية خاصة أكثر منها علمية خالصة.

هنالك الكثير من المصادر غطت جهود الإصلاح في المؤسسة التعليمية الدينية على اتجاه الخلافة، كالأزهر بشكل خاص، بينما افتقرت المكتبة العلمية إلى تغطية جهود الإصلاح في مناهج الدراسات الدينية في المؤسسة التعليمية الدينية على اتجاه التشيع بشكل تفصيلي وعلمي مجرد من الخلفيات والميول الفكرية والعصبية المرجعية أو الحزبية السياسية، وهي جهود إصلاحية مهمة كان لها دور ريادي كبير وواسع جدا في أكثر التحولات المفصلية الخطرة التي عانت منها مجتمعات العالم الإسلامي ولا يمكن بأي حال من الأحوال المرور عليها من خلال بحوث موجهة توجيها خاصا غير مستقل.

 ولا شك أن الطموح إذا ما كان خالصا، فذلك يقتضي أيضا الإحاطة بالتجربة بما كانت تظهر عليه من صحة وخطأ من دون الخضوع للقيود والضغوط على حساب الموضوعية والعلمية.

وفي هذا المجال تتداخل بعض الأبعاد الإصلاحية التي لو ذهبت البحوث إلى تفاصيل هواجسها الخاصة لخرجت على مرادها العلمي، ولألبت على نفسها من لا يعي الحقائق من ذوي الحزبيات والعصبيات. فالبحث المفصل في هذا المجال بحاجة لكشف الكثير من الحقائق التي ربما يرجعها البعض إلى ''عالَم سفلي'' سلبي تدور الكثير من حوادثه بين زوايا وأروقة المؤسسة التعليمية الدينية ويصعب والخوض فيها.

 ولمثل هذه البحوث المفصلة هناك حاجة إلى تضافر الكثير من الجهود لدراسة كل قسم من مجالاته بشكل مستقل وإخراج تغطية متكاملة وشاملة له معوضة عما كان دارجا من مصادر وبحوث محدودة التغطية أو منحرفة النتائج أو قاصرة عنها. من هنا تأتي أهمية إطلاق البحوث في هذا الشأن الخطير إضافة إلى أهمية تبيان جهود الإصلاح والتجديد وتدوين آثارها على تطور مناهج الدراسات الدينية في عصرنا الراهن، حتى تتشكل دوافع ومحفزات المختصين الباحثين بنحو سليم، ثم يستتبع ذلك إدراك وقائع التطور والتحول العلمي والثقافي والمؤسسي لأهم مرحلة عند نهاية القرن التاسع عشر التي أسست لدور الإصلاح وقواعده ومنطلقاته، ومن ثم المرور بخصوصيات وقائع نهاية القرن العشرين التي شهدت ولادة تجارب إصلاحية في مناهج الدراسات التعليمية في كل من الأزهر والقرويين والزيتونة والنجف الأشرف وكربلاء وقم المقدستين، وبلورة ما تمخض عن هذه التجارب من آثار على الجانبين: المؤسسي والمنهجي التعليمي، وأثرهما على التحولات المجتمعية الكبيرة ذات العلاقة بحياتنا المعاصرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10 نيسان/2008 - 3/ربيع الثاني/1429