لا يخفى على أحد، أنّ العراق حديث تجربة بالعمليتين السياسية
والآلية الديمقراطية، فلا غرابة من حصول بعض الاخطاء و الاخفاقات هنا
وهناك. وهذه الحداثة في العمل السياسي، هي نتجية لمقدمة أملتها سياسة
النظام الشمولي البائد، الذي استمر ماسكاً بمقاليد أمور العراق جميعها
بلا منازع، زهاء ثلاثة عقود من الزمان. فعندما حصل التغيير بالعراق في
9/4/2003، لم تكن هناك فرصة متاحة أمام الشعب العراقي، ليستعد في
مواجهة متطلبات المرحلة الجديدة بعد انهيارالنظام البائد.
إنّ البذور التي خبأتها مرجعية الامام الشهيد السيد محمد محمد صادق
الصدر(قدس سره) في الواقع العراقي، والتي تعتبر امتداداً لتوجهات مدرسة
الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)،على مستوى النضج
السياسي والوعي الجماهيري، والتصدي لمرحلة التقاطع مع النظام البعثي
البائد، عقائدياً وفكرياً وثقافياً وسياسياً، أو على مستوى انضاج الوعي
الجماهيري، بالرغم من قصر فترة النشاط العلني للامام الشهيد محمد محمد
صادق الصدر(قدس سره)، كنشاط تواصلي مع الجماهير العريضة، التي أصغت
لتوجهاته السياسية والفكرية بصورة مباشرة وعلنية. هذه البذور كانت
تحتوي في طبيعتها مركبات رفض الظلم، والتأكيد على الثوابت الاسلامية
والوطنية، جراء عملية التثقيف الجماعية المباشرة، من خلال خطب صلاة
الجمعة والمنشورات المركزية، التي كانت تصدر من مكتب السيد الشهيد محمد
محمد صادق الصدر(قدس سره)، فقد كان الامام حريصاً، على غرس مبدأ عدم
التبعية في نفوس الجماهير، حيث قال (انا حررتكم فلا تسمحوا لأحد ان
يستعبدكم بعدي).
نعم انه (قدس سره) قد حرر الكثير من العراقيين، من عقدة الخوف من
النظام البعثي، المتسم بالقهر والقسوة والبطش، فعلّم الناس على الصراحة
والمباشرة في قول الحقّ، وكانت حياته (قدس سره)، ثمناً لهذا الموقف
وغيره من المواقف المماثلة، في تحدي السلطة آنذاك. فمنهجه السلوكي
والتربوي أعاد للذات العراقية المقهورة بقوة الحديد والنار، فسحة الأمل
للعيش بفضاء الحرية، وأجواء ممارسة التعبير عن الرأي، ورفض وصاية
الحاكم الظالم على عموم الشعب العراقي.
إنّ هذه المدرسة انتجت فيما بعد تياراً شعبياً واسعاً، يحمل اسم
التيار الصدري، اندمج في العملية السياسية المكلفة ببناء العراق الجديد،
وهو يحمل تصوراته السياسية في هذه المرحلة، التي تنبثق من المدرسة
الفكرية للامامين الراحلين. وجراء حداثة التجربة السياسية في العراق،
حصلت الكثير من المواقف الآنية التي سرعان ما تتلاشى، ومواقف اخرى أكثر
حدّة، تستوقف المراقبين لجسامة خطرها، وكان منها أحداث الاسبوع الأخير
من شهر آذار الجاري. لقد اختنق العراق في هذه الازمة، وكاد الانفجار ان
يحرق الجميع، لكن الجهود التي بذلتها بعض الشخصيات المتعقلة، التي
تستشعر مستقبل العراق برؤية وطنية، تشمل كل التفاصيل الدقيقة، لقضية
العراق الآنية والمستقبلية، فتـألفت لجنة برلمانية برآسة السيد محمود
المشهداني، انبثقت منها لجنة يقودها السيد الجعفري توجهت الى النجف
الاشرف، ولجنة ثانية يقودها السيد علي الأديب توجهت إلى إيران، إنها
فتنة مدمرة وقى الله الناس شرها. فهذا الدرس ينبغي أن لا ينساه أحد من
العراقيين المخلصين، لأنه كلف شعبنا الكثير من الارواح والاموال، فضلا
عن القلق والشدّ النفسي الذي انتاب العراقيين.
هذا الدرس لابدّ من اجمال تجربته في نقاط محددة، لغرض توثيقه
ومراجعته بالتحليل والتقييم، خدمة للشعب العراقي المظلوم.
1. عدم السماح لتنامي روح التعالي والغطرسة عند بعض الاحزاب
السياسية ومنها الاسلامية، على اعتبار أن تجربتها النضالية، تمتد لعقود
من الزمن، فتتصور انها صاحبة الصوت العالي دون الآخرين.
2. التفهم الواضح أن الشعب العراقي يحتاج على الدوام من السياسيين،
إلى مبادرات المكاشفة المباشرة معه، ومراجعة المواقف وعدم ترك الامور
على عواهنها (وهذا ما اعترف به السيد المالكي يوم 29/3/2008)، وتأجيل
حلها اعتماداً على المستقبل.
3. ينبغي ترك اسلوب المناقشات خلف الكواليس إذا كان بالامكان اطلاع
الشعب العراقي على حقائق الأمور، دون لف أو دوران على الاحداث، فهذه
الممارسة اثبتت عملياً، أنها تعزل الشعب العراقي عن المحيط السياسي،
الأمر الذي يفسح المجال لتنامي التقولات والتأويلات والتحليلات، التي
ربما تكون مستقاة من وقائع خاطئة، او مواقف متشنجة أو من انعكاسات
الحالة الضبابية، للمواقف السياسية التي تتزامن مع حالة الانغماس
بالمشاعر المتاججة بالحماس.
4. التثقيف على أن العملية السياسية هي عملية مركّبة، والجميع اطراف
مسؤولة فيها على حدّ سواء، ولا يمكن لعنصر او لعناصر منها العمل،
والأخرى تأخذ حالة الانزواء بعيداً عن الميدان.
5. إنّ التيار الصدري يشكل مساحة كبيرة من المكوّن العراقي، ومن
الخطأ الجسيم ترك التشاور معه في عملية اتخاذ القرار، خصوصاً أنّ هذا
التيار بحاجة الى خبرات الاخرين، وهذه ليست سبّة علية، وانما حقيقة
يفرضها الواقع العملي. فيجدر بالآخرين التعاون معه، وعلية التعاون معهم
أيضاً، لكن مع الاسف الشديد، طغت على الجميع روح الانانية، والنظر إلى
ألاخر بمنظار الندّ، تحت تأثير تقديم المصالح الحزبية او الفئوية على
المصالح الوطنيّة.
6. إنّ تطويق الازمة وسرعة حلها، يقطع الطريق على كل الذين يتصيدون
بالماء العكر، محاولين الاستفادة من هذه الثغرة او تلك، لتصعيد المواقف
وتأزيمها، لغرض انتاج مناخ جديد يكون ملائماً لفرض مشاريع أخرى جديدة،
على حساب آلام العراقيين، وبذلك تضاف عناصر جديدة الى العمل السياسي،
الأمر الذي يزيد الموقف تأزماً واحتقاناً وارباكاً. وحتى اكون اكثر دقة
دخول الشيخ فاضل المالكي على الخط عبر فضائية الشرقية في يوم الخميس
28/3 خير دليل على ما أقول. وقبال هذا التوجه المغرض يجب ان لا ننسى
موقف بعض المراجع الدينية، وان كانت قليلة جداً، التي بادرت باصدار
البيانات، داعية للتعقل في معالجة الأمور وتهدئة المواقف المتوترة.
7. إنّ بيان النقاط التسع الذي اعلنه السيد مقتدى الصدر، نقل العراق
إلى مرحلة جديدة، اصبحت قاب قوسين او أدنى من مرحلة الاستقرار، التي
يتبنى قيادتها السيد المالكي، في حملته الهادفة إلى تفكيك جميع المظاهر
المسلحة، وتطويق جميع الجماعات الخارجة عن القانون، التي تقتات على
الجريمة المنظمة، وتعرقل مسيرة العملية السياسية والامنية والاعمارية
للبلاد.
8. على التيار الصدري بكافة مكوناته، عدم التعالي على المكونات
السياسية الأخرى، بسبب الاعتماد على المساحة الجماهيرية الكبيرة التي
يتميز بها، (لقد سمع الجميع كيف يتحدث البعض من التيار الصدري، امام
القاصي والداني، ان التيار الصدري هو صاحب الفضل بوصول السيد المالكي
إلى رئاسة الوزراء). فالغرور بهذا الاتجاه يوقع التيار، في ازمات
متكررة مع الآخرين، وتكرار هذه الازمات قد تنتج حالة الانشقاقات عن
التيار من نفس التيار، بسبب تباين وجهات نظر بعض قيادات التيار، او بعض
جماهيره إزاء المواقف المختلف عليها، وهذا الموضوع حصل على أرض الواقع،
ولابد من الانتباه إلى ذلك مستقبلاً.
9. لقد كشف اعلان النقاط التسع، أن قيادة التيار الصدري عازمة على
الغاء المظاهر المسلحة، والبراءة ممن يحمل السلاح، والتعاون مع اجهزة
الدولة لتحقيق الأمن، والتأكيد على عدم امتلاك التيار الصدري للاسلحة
الثقيلة، وحث الحكومة على اعادة المهجرين، ومراعاة حقوق الانسان،
وانجاز المشاريع العمرانية في كافة انحاء العراق. فعلى جميع الذين
تواصلوا مع قيادة التيار الصدري، من أجل احتواء هذه الازمة، أن لا
يتركوا جهودهم في مواصلة العمل بجدية، للتواصل مع التيار الصدري بشكل
مستديم، فيعزّ على جميع العراقيين المخلصين الوطنيين الشرفاء، أن يروا
الشعب العراقي ينزلق في بحور مخاصمات جانبية، لا خاسر فيها سوى الشعب
العراقي وحده، والله تعالى من وراء القصد.
* كاتب وباحث عراقي
mj_sunbah@hotmail.com |