رؤية جاك ديريدا

أوزجان يشار

 عندما تحدث الفيلسوف الفرنسي "جاك ديريدا" عن كتابه "اطياف ماركس"   قال: " أنه  يجيء في غير زمانه".

من المعروف أن ديريدا الذي لم يكن ماركسيا في عز توهج الماركسية, و بالتالي من الغير مألوف أن يناظر كاتب و فيلسوف غير ماركسي و ينادي ( بالتمسك بفكر كارل ماركس) هذا ما يحير قارئه للوهلة على الاقل. لكن بعد الانتهاء من قراءة الكتاب ومراجعة السيرة الذاتية لجاك ديريدا و التاريح الشخصي والفكري تزول الحيرة ذلك, حيث أن هذا الفيلسوف ظل طوال الخمسينات ــ حين كان تلميذا, والستينات ــ حين بدأ عمله كأستاذ، في منأى عن الماركسية، بل عارضها في الأوساط الثقافية الفرنسية, ولم يخف نفوره و امتعاضه من النظام الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي السابق ومن أممية الاحزاب الشيوعية وما نتج عنها)  ولم يسلك هذا السلوك الفكري بسبب دوافع رجعية أو محافظة أو بناء على موقف يميني معتدل فكما يقول في كتابه. من هذا الأفق المعرفي ــ يبدو أن الرفض الخاص بديريدا ينحصر في زمن إرهاب الكرملين وطغيان التوتاليتارية وما اسفرا عنه من كوارث اقتصادية و اجتماعية شملت بلدان شرق أوربا.

 وهنا كان ميلاد عمله النظري الشهير الذي عرف فيما بعد بأسم ((التفكيك)) (Deconstwction), و التفكيك كما يعني جاك ديريدا هي طريقة فكرية لإعلان عدم الإذعان ورفض الإالتحاق بالركب ونبذ الخضوع للتقليد. هي أن تطالب بحقك في ممارسة الفكر النقدي، وان تضع على محك الشك المعتقدات الفلسفية والمسلمات والافكار المسبقة. هذه الحرية اراد ديريدا أن ينشرها خارج حدود وطنه، فذهب إلى بلدان أوربا الشرقية، في السبعينات ومطالع الثمانينات يؤازر المنشقين قولاً وفعلاً, و تم القبض عليه في براغ عام 1981 واودع السجن.

ولولا تدخل الحكومة الفرنسية تدخلاً سريعاً و حاسماً لكان قضي عليه. لاجل هذا كله خرج جاك ديريدا من السجن في براغ و هو صاحب موقف ضد الخطاب السائد والمهيمن آنذاك و الذي كان يزف البشارة: (بموت الماركسية للأبد) فبدا وهو يطالب بالرجوع  والوقوف أمام مفهوم الرأسمالية المطلقة، فهو ينادي بأننا لابد و أن نرث شيئاً من ماركس ــ يقول المفكر الفرنسي ــ  (يعني أن نرث أن نختار من بين نصوصه الكثيرة (... ) أن نرث لا يعني أن نحافظ على التركة, لكن أن نؤكد على أننا نملك ذاكرة مفتوحة على المستقبل), أنها دعوة وشهادة للعمل من خلال كل ما تركه ماركس من ميراث, فهناك "فكر النقد الاجتماعي" الذي يشغل اهتمام "جاك ديريدا", فهو ينتقي هذا المنحنى من الفكر الذي يعود بجذوره إلى (عصر التنوير) تاركاً و مهملاً الأفكار الاخرى التي جعلت من تراث كارل ماركس مجرد (عقيدة) بكل مارافقها من مفاهيم حول العمل وشكل الانتاج والطبقة الاجتماعية وصولا إلى الأجهزة الحزبية وديكتاتورية البروليتاريا.

 لماذا يختار ديريدا مفهوم (النقد الاجتماعي)؟  أعتقد بأن جاك ديريدا يختاره فقط للرد على كل الذين يتغنون بمحاسن (النظام العالمي الجديد) وفوائد (السوق الرأسمالي الإستهلاكي) يختاره لأن ديريدا كان له رؤية في وضع مسيرة هذا العالم الذي يسير من سوء إلى أسوء, فالنظام العالمي الجديد لم يأتي سوى بدمار و كوراث إقتصادية و حروب تقودها دولة عظمى وحيدة منفردة تصنف البشر إلى نوعان, أشرار و أحرار, تدعي الديمقراطية جهراً وتمارس الفاشية سراً, دولة تسعى و تلهث وراء نظرية (الفوضى البناءة) لتحويل العالم إلى "مستعمرات ومحميات صغيرة وسوبر ماركيتات" تعيش على هامش التاريخ و الحضارة و الفكر, تنتظر ما تجود به تلك السيدة الإنيقة التي تأخذ منهم أكثر مما تعطيهم  وإذا اعطتهم فأنها تأخذ  منهم "الصاع صاعين" مساكين هؤلاء من ابتلاهم القدر بتلك السيدة الانيقة التي ترميهم بأكياس الطحين نهاراً ثم ترميهم بالقنابل الذكية ليلاً, و لنا أن نستشهد (بهاملت) ولأن البشرية لم تعرف طوال التاريخ هذا الكم الهائل من المقتولين يومياً والجائعين والمعدمين والمطرودين والمنفيين..

 ولأن جاك ديريدا يعتبر جميع هؤلاء حالة من ( أممية جديدة ) إذا انتظمت في (حركة رافضة عامة) يمكنها أن تغير من أقدار (المعذبين في الأرض) ولأن هذا هو دور المثقف, عودة إلى (هاملت) يقول مارشيلوس لهوراشيو عندما يظهر الطيف: ( أنت مثقف، كلمة).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 1 نيسان/2008 - 24/ربيع الاول/1429