فض النزاعات السياسية بالوسائل السلمية

جميل عودة/مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

في المناطق التي يعيش فيها آدميون، ونريد أن نعرف مدى تطور علاقاتهم الإنسانية ومدنيتهم، ورقيهم الاجتماعي، لا يتعين أن نسأل هل إنهم يختلفون ويتنازعون ويتصارعون فيما بينهم أم لا؟ لان الاختلاف والتنازع والتدافع طبيعة المجتمعات الإنسانية أينما تكون؛ ولكن علينا أن نسأل عن أدوات وآليات فض تلك النزاعات التي تنشب بين سكانها.

فإذا توصلنا إلى أن وسائل فض النزاعات في هذا المحيط الاجتماعي أو ذاك هي النظام العام والقانون والقضاء أو تحكيم العقلاء أو التراضي والتصالح، أو غيرها من الأدوات السلمية نقول إن هذه المجموعات البشرية هي مجموعات حضارية متمدنة.

وإذا وجدنا أن هذه المجموعات البشرية تحل خلافاتها بالقوة والقهر، والتعدي على الآخرين باستخدام السلاح والثار والعنف، والعنف المتبادل نقول إن هذه التجمعات هي تجمعات بدائية غير حضارية.

وطرق فض النزاعات تختلف باختلاف طبيعة ونوع النزاع وسلوك المتنازعين وأهدافهم، فهناك النزاعات الدولية التي تحدث  بين الدول وتعكر صفوة علاقاتها الخارجية، فيكون حلها بالرجوع إلى القوانين الدولية والمعاهدات والاتفاقيات، فالدولة التي تحترم هذه المواثيق وتلتزم بها تكون قد التزمت بالسلم العالمي، والدولة التي لا تتقيد بها تكون قد خرقت قواعد السلم والأمن الدوليين.

وهناك النزاعات القبلية التي كثيرا ما تحصل في البلدان التي تسيطر عليها القبائل والعشائر، وتكون طرق الحل السلمية باللجوء إلى الأنظمة والعادات والتقاليد التي تحكم علاقات تلك القبائل، فمن يلتزم بالعادات والتقاليد يكون قد التزم بالوسائل السلمية المعتمدة ومن تجاوز عليها عد خارجا عن الأعراف والتقاليد الحاكمة.

وقد تكون النزاعات دينية أو مذهبية وهي النزاعات التي تظهر في المجتمعات المتدينة أو الآخذة بالدين أو المحكومة بالدين، ويتم حل النزاعات الدينية عن طريق الاحتكام إلى تعاليم الدين كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخوة الدينية كأساس أخلاقي للمجتمع والقيادات الدينية والمحاكم الشرعية، وبالتالي فمن التزم بقواعد الدين ونصيحة العلماء يكون قد التزم بالدين ومن خالفها خالف الدين وعد عاصيا.

   وهناك النزاعات السياسية وهي النزاعات الأكثر شيوعا في العالم، والأكثر تأثيرا في المجتمعات الإنسانية، والتي تتمظهر بمظاهر دينية ومذهبية، وقبلية وعشائرية، وفكرية وثقافية، واقتصادية وتجارية، وقد تمتد لتخل بالعلاقات الدولية والسلم الدولي عن طريق ما يعرف "بتصدير الأزمات الداخلية" كاتهام دولة مجاورة بدعم مجموع سياسية على حساب أخرى، والنزاعات السياسية دائما تتسم بالحراك والتنوع والتجدد مادامت المجتمعات الإنسانية بحاجة إلى سلطة ونظام حكم يدير شؤونها ويدبر أمرها.

    وأطراف النزاعات السياسية هم الأحزاب والتنظيمات السياسية والشخصيات القيادية التي تارة تكون في سلم السلطة فينازعها أحزاب ومنظمات وشخصيات سياسية معارضة، وأخرى تكون معارضة تنازع أحزاب السلطة وشخصياتها، وربما أطراف سياسية في السلطة تتنازع مع شركائها، وقد تكون أطرافها دولتان أو دول عندما تنشأ الصراعات السياسية بين دولة ضد دولة أخرى.

     وبالتالي، فإذا لجأت الأحزاب السياسية المتنازعة على الحكم أو المختلفة في إدارته إلى القواعد السياسية التي أقرتها كمبادئ وقيم تحكم علاقاتها سياسية كالقواعد الدستورية وإجراءات تداول السلطة وقانون الأحزاب والهيئات السياسية نقول عنها إنها أحزاب شرعية لها أفاق حضارية، وإذا ضربت تلك الأطراف السياسية بهذه المفاهيم عرض الحائط، وأرادت أن تكون في السلطة وتحقق أهدافها ومكاسبها على حساب النظام العام وقوانين التداول السلمي للسلطة، ولجأت إلى استخدام القوة العسكرية أو العنف أو التهديد بهما معا؛ فأنها أحزاب غير مدنية وليس لها أفاق حضارية.

     ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن الدول التي تتحكم فيها إرادة واحدة، مثل عائلة مالكة أو شخص مستبد أو حزب مستفرد ، لان حل النزاعات السياسية التي تنشأ في مثل هذه الدول يعتمد في أكثر الأحيان على مبادئ القوة والفرض؛ فان استطاعت الجهات الحاكمة من فرض إرادتها على معارضيها استتبت الأوضاع فيها، وإن تمكنت الأطراف المعارضة من السلطة أفنت الحكام وشرعت قوانين تضمن شرعيتها. وبالتالي يظل حل نزاعات الجهات السياسية التي تعيش في هذه الدول رهن الوجود السياسي الأقوى وهي مرجعية بدائية تفتقد إلى الكثير من قواعد الحل المدني السلمي.

    ولكن الحديث إنما هو عن النزاعات السياسية التي تحصل في الدول المدنية أو الصاعدة باتجاه المدنية وهي تلك الدول التي ارتضت في مواثيقها الدستورية والقانونية والسياسية أن تلجأ إلى الوسائل السلمية في وصولها إلى السلطة أو بقائها فيها أو في حل خلافاتها الناتجة عن اختلاف وجهات نظرها مثل العراق.

   فهل يجور للأحزاب السياسية أو الشخصيات السياسية في العراق أن تلجأ إلى استخدام السلاح أو التهديد به، سواء كانت تمارس دور الحاكم أو الشريك أو المعارض؟      

  من المفترض أن تلتزم القوى السياسية في العراق بعد سنوات الاستبداد والدكتاتورية، وبعد إقرار جملة من المفاهيم الدستورية والقانونية التي تؤكد اللجوء إلى الحلول السلمية والركون إلى مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء وبعد عمليات الانتخابات الحرة التي شهدها العراق بالطرق والوسائل السلمية في حل نزاعاتها وخلافاتها، وان لا تلجأ هذه القوى السياسية في الحكم كانت أو خارجه إلى أي نوع من أنواع  استخدام العنف ضد الآخر؛ لان الاحتكام إلى هذه الوسائل يعني نسف لكل المبادئ والقيم والمضامين الإنسانية السامية التي نص عليها الدستور العراقي وصوت عليه الشعب بالأغلبية، ويعني هذا السلوك غير المسئول العودة –ضمنا- إلى الأنظمة الديكتاتورية وهو أمر أصبح مثار رفض العراقيين جميعا.

   إن وقوع الظلم والحيف على فصيل سياسي ما، مهما كانت طبيعته وحجمه لا يعني بكل حال من الأحوال الركون إلى القوة واستخدام السلاح وتغليب العنف، بل هناك الكثير من الوسائل والأدوات السلمية المتاحة للقوى السياسية التي تشعر بالامتعاض من سياسات الأحزاب الحاكمة والتي يمكن اللجوء إليها واستخدامها لتحقيق المطالب المشروعة.

    كما أنه ليس من حق الحاكمين أيضا أن يلجوا إلى استخدم القوة العسكرية بحق المتظاهرين أو المعتصمين أو المطالبين بحقوقهم، وليس من حقهم اعتبار العصيان السلمي تهديدا للسلم والأمن الوطني مادام هناك التزام بقواعد العمل السياسي التي تضمن للمعارضين أو شركاء السلطة حقهم في الدفاع عن مصالحهم المشروعة، بل ليس من حقهم أيضا استخدام القوى المفرطة بحق ما تسميهم بـ"الخارجين على القانون" لأنه استخدام غير مشروع للسلطة.

    إن اللجوء إلى العنف بين الأحزاب الحاكمة والمشاركة في الحكم في العراق يكون قبيحا جدا إذا ما أدركنا أن هذه الأحزاب هي أحزاب ذات صبغة دينية! حيث أن "للأديان دور كبير ومؤثر في نشر ثقافة السلام والتعايش السلمي ودرء النزاعات، فقد أنزل الله سبحانه وتعالى الأديان لتزكية النفس البشرية وتطهير القلوب وإقرار الخير على الأرض، حيث تشترك الرسالات السماوية كلها في جوهر واحد هو إخراج البشرية من الظلمات إلى النور والسمو بها إلى فهم حكمة اكتساب القيم الفاضلة والدعوة للمحبة والتراحم والتسامح ونبذ الشقاق والفرقة وإصلاح ذات البين والأمر بالمعروف وإتباع الشورى والحوار والجنوح للسلم ، والبعد عن سطوة الطغيان والاستبداد".

    لذا يرى الإمام السيد محمد الشيرازي "إن الإسلام كدين ونظام كوني ومنهج حياتي يقف من العنف والعدوان والتعسف والإرهاب موقف المضاد، فكرة وسلوكاً، فقد كان الرسول "ص" يدعو الناس إلى الإيمان بالإسلام بأسلوب المسالمة واللاعنف، يقول سبحانه وتعالى: (وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لاَمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) سورة يونس: 99.. وقال تعالى: "فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ " لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ" سورة الغاشية: 21-22.

وعلى هذا الأساس نصرح كمسلمين نعمل من اجل إحلال السلم والسلام أن ظاهرة العنف والإرهاب محرمة شرعاً، ومن أمثلته:

1: زرع الرعب والخوف في نفوس الناس، بالقيام بأعمال العنف من القتل والخطف والتفجير وما أشبه.

2: زعزعة الحكم والقائمين به عبر أعمال العنف.

3: نشر عقيدة خاصة يراد تطبيقها بالعنف، ويكون منه القمع الطائفي وما أشبه".

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 1 نيسان/2008 - 24/ربيع الاول/1429