مَتاهَةُ الشَعْبِ... فِي ضَجَيْجِ السِّياسَةِ

(قراءآت في مؤتمر المصالحة الوطنية)

(الحلقة الأولى)

محمّد جواد سنبه

تزامنت في العراق يومي 18 و 19 من آذار الجاري مناسبتان مهمتان هما ؛ مناسبة معدّ لها سلفاً، وهي انعقاد المؤتمر الثاني للمصالحة الوطنية، ومناسبة عفويّة تحمل في طياتها كل البساطة، وكل العمق الوطني وبعد النظر السياسي، وهي زيارة دولة رئيس مجلس الوزاء السيّد نوري المالكي، إلى حضرة الإمام ابي حنيفة النعمان، بمناسبة ذكرى ولادة الرسول الأكرم(صلى الله عليه واله وصحبه وسلم). أمّا المناسبة الأولى فالحديث عنها يستغرق كلّ هذا المقال، والمناسبة الثانية وإنْ كانت مدّتها قصيرة، وكان التحضير لها سريعاً جداً، على عكس المناسبة الاولى، إلاّ أنّ أثرها كان كبيراً و وقعها كان عظيماً، بحيث كانت ردودها ووقعها في نفوس الجماهير، أكبر بكثير جداً من وقع وردود المناسبة الأولى، بالرغم من أنّ السيد المالكي هو محور المناسبتين معاً.

 السبب في هذا التأثير أنّ السيد المالكي، بزيارته لمنطقة الأعظميّة، قد كسر طوق العزلة بيّنه وبين الجماهير، وتقرب بصورة عفويّة إلى نفوس الناس، مؤكداً رحابة صدره وسعة أفقه، في استيعاب أزمة لا خاسر فيها إلاّ الشعب العراقي. إن هذه الزيارة قد أزالت الكثير من الشكوك والهواجس، التي كان أعداء العراق يغذّون الشكوك بشكوك موهومة أخرى، ويضاعفون الهواجس بهواجس مفتعلة أخرى. فتلك الزيارة قطعت الطريق على هذه التخرصات، وبيّنت النوايا الحسنة والسجايا الطيبة، التي ينبغي أنْ تعرض للجمهور ويلمسها لمس اليدّ، ليعرف من هو العدو ومن هو الصديق. فكان أثر وتأثير هذه الزيارة، أكبر من أثر وتأثير انعقاد مؤتمر المصالحة الوطنية الثاني لسببين مهمين هما : 

1. إنّ مؤتمر المصالحة الوطنيّة تجري مباحثاته مع شخصيات أساساً، هي في كيان العملية السياسية للدولة العراقية، وهي صاحبة قرار سياسي فيها، وقد كشفت الحقائق أنّ بعض هذه الكيانات، تتملص من إتمام هذه المصالحة، لأسباب غير مخفية على العارفين بالأمور، ومواقف هذه الكتل ورجالها، قدّ سأم الشعب العراقي سماع طروحاتها التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

2. إنّ التجربة العمليّة أثبتت للشعب العراقي، أنْ التوتر والتأزم الحاصل بين أطيافه منشؤه الاحتقان والتشنج، في مواقف بعض هذه الكيانات السياسيّة مع الكيانات الاخرى، والشعب العراقي لا ناقة له فيها ولا جمل.

وعوداً على بدء، فوفق تصوري الخاص، سيبقى العراق لعقد قادم من الزمان أو أكثر، أسيراً لظرفه الحالي، يعاني الكثير من الاطروحات المعقدة والشاذّة والمركبّة، على صعيد الخطاب السياسي أو الثقافي أو الفكري أو السلوكي، وحتى الدّيني منها أيضا، لسبب بسيط قد لا يغيب عن ذهن المتفحص لأوضاع العراق السابقة والحاليّة، هو فقدان معياريّة القيادة الوطنيّة، التي تقود البلاد الى شاطئ السلامة والأمان. هذه المعياريّة هي التي تحمل مواصفات قادة المرحلة، وتكشف عن المعيّتهم السياسيّة، وحنكتهم في معالجة الازمات وتصريف الأمور. فالقائد الوطني المسؤول، الذي يشغل موقعاً وظيفيّاً أو سياسيّاً في جسم الدولة العراقية، سواءاً كان صغيراً أو كبيراً، فإنّه يجب أنْ يتحرك على ضوء ثوابت وطنيّة وإنسانيّة.

 إنّ أزمة العراق، التي تحيط مطبقةً بقبضة حديديّة، على جيْد المواطن العراقي المسكين، لم تأتِ من فراغ، وإنّما أنتجتها مرحلة تاريخيّة سابقة، اتسمت بسحق المعارضة العراقية في داخل العراق، ومكافحتها خارج العراق أيضاً. و بعد أنْ انعتق هذا الشعب المظلوم، من نيْرِ الحكم الشمولي، بعمليّة قيّصريّة مفروضة على الجميع، (لم يكن للشعب العراقي في رسمها أو تحديد معالمها أيّ دور بالمطلق). فالشعب العراقي لم تمكّنه الظروف الجديدة (بعد أحداث 9/4/2003)، من أنْ يضع قدميّه على جادّة المسار الصحيح عملياً، كما كان يتوقع الكثير من أبنائه. ومن المعروف أنّ المسار الصحيح، الذي ينبغي السيّر عليه، على ضوء المتغيّرات السياسيّة الجديدة، ضيّعته قوى الإحتلال باخفاء معالمه، في خضمّ تظافر استراتيجيّتها الدوليّة، ومصالحها القوميّة، اللتين لهما دور مركزي، في اعتبارات الأهميّة القصوى للأسبقيات الأمريكيّة، التي لا يمكن التنازل عنها مطلقاً.

 ومن المزري جداً أنْ أسهمت شخصيّات، كان يظن بها العراقيون خيراً، في تعمية الرأي العام العراقي، في الفترة التي سبقت وتلت احتلال العراق عام 2003. فأثبتت المرحلة الجديدة، بأنّها أكبر من امكانيّاتها، وأبعد عن تصوّراتها، وحتى أنّها لا تقع ضمن سيطرتها بالمرّة. فحصلت انتقالة سياسيّة شوهاء، ومسيرة حزبيّة عرجاء، الرابح الوحيد في هذه المرحلة، المحتلّ، ودول الجوار المعادية لتطلعات الشعب العراقي، في قضية تقرير المصير.

 إنّ عملية التغيير السياسي كانت فوقيّة، فلم تنتجها إرادة الشعب العراقي، ولم تفرزها مرحلة تاريخيّة، كانت زاخرة بالصراعات المريرة والطاحنة، بين الحاكم المستبد والمحكوم الندّ. نعم المرحلة التاريخيّة أفرزت ثورة جماهيرية هي الثورة الشعبانيّة عام 1991، لكن مع الأسف الشديد، أُجهضت ليس لعدم وجود الأنصار، ولكن لعدم وجود قيادة للثوار، في تلك المرحلة، وتلك من أكبر المؤامرات على الشعب العراقي المظلوم، نفذتها دول كان منها دول جوار العراق، وقيادات معارضة كان منها قيادات إسلاميّة. إننا نرى في هذه الأيام على شاشات التلفاز محاكمة الجلاّدين، الذين أوغلوا بقتل الشعب العراقي، ومن لم يشهد تلك الملحمة، يستطيع أنْ يقدّر حجمها من خلال شهادات الشهود. فالظرف الشاذّ المستجد لإحتلال العراق، أفرز شذوذاً جديداً، نُقل بطريقة تلقائيّة إلى رصيد الشذوذ السابق، وأصبح ركام الشذوذ هذه المرّة، مضاعفاً وأكبر كمّاً ونوعاً، مما كان عليه في فترة حكم الاستثناء من القانون، (فترة الحكم السابق). فأصبحت المرحلة الديمقراطيّة الجديدة تجمع في ذاتها، كلّ تداعيات الّلا قانون (سابقاً)، مع إرهاصات الفوضى والفساد(حالياً). فكثر المنظّرون العقائديّون، والسياسيّون، فأصبح العراق أشبه بسفيّنة، تتقاذفها أمواج المصالح الذاتيّة (منها المصطبغة بالقداسة، و منها المصطبغة بالدناسة). فحلّت المواقف قصيرة النظر، الضيّقة الأفق، محل الإستراتيجيّات الوطنيّة بعيدة الأمدّ. الأمر الذي أدّى إلى نتائج كارثيّة، لا يعرف نتائجها غير الله تعالى. و للحديث صلة في الحلقة القادمة بعونه سبحانه.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 24 آذار/2008 - 16/ربيع الاول/1429