بعد مخاض عسير وطويل دام أكثر من تسعة شهور! قسم الله تعالى بولادة
حكومة بلجيكية جديدة يقودها رئيس وزراء جديد أسمه(إيف لوترم). وكان
رئيس الوزراء الجديد قد فشل في محاولات عدّة في تشكيل حكومة بلجيكية
جديدة خلفا لحكومة رئيس وزراء بلجيكا السابق(غي فروهوفستاد) التي أنهت
مهامها بعد الإنتخابات التشريعية العامة التي جرت في العاشر من شهر
حزيران المنصرم. إلآ أن حكومة فروهوفستاد بقيت تدير دفة الحكم بصورة
إنتقالية لفترة طويلة وذلك لتعذر تشكيل حكومة بلجيكية جديدة بسبب وجود
خلافات حادة بين الأطراف السياسية!.
إيف لوترم أب لثلاثة أطفال ويبلغ من العمر 47 عاما، وحائز على
شهادة الليسانس في القانون والسياسة وقد مارس العمل السياسي من خلال
إنتسابه الى الحزب الديمقراطي المسيحي الفلمنكي. في عام 1999م أصبح
عضوا في البرلمان الإتحادي البلجيكي ومن ثم أصبح رئيسا للحزب الذي كان
ينتمي اليه. وتقلد منصب رئيس للمنطقة الفلمنكية ووزيرا للزراعة والصيد
عام 2004م.
كلّفه ملك بلجيكا(البيرالثاني) بتشكيل وزارة بلجيكية جديدة في
الخامس عشر من شهر تموز الماضي وذلك لصدارته في الحصول على نسبة
الأصوات، إذ حصل رئيس وزراء بلجيكا الجديد على (800)الف صوت من أصوات
الناخبين إبان تلك الإنتخابات، مما جعل مسألة تكليفه بتشكيل حكومة
بلجيكية جديدة أمرا مفروضا.
المملكة البلجيكية معقدة في تركيبتها الإجتماعية حيث أنها تتألف من
ثلاث كتل إجتماعية متباينة ومصنفة على أساس اللغة. الفلمنكيون وهم
الذين ينطقون باللغة الفلمنكية وهي لغة تشبه الى حد كبير اللغة
الهولندية ويشكل هؤلاء نسبة تزيد قليلا على الـ (59) في المائة من
المجموع السكاني. والوالونيون الذين يتكلمون اللغة الفرنسية ويشكلون
نسبة تقل قليلا عن الـ (40) في المائة من السكان، والناطقون بالألمانية
ويشكلون نسبة(1) في المائة من المجموع السكاني.
هذا التباين الإجتماعي المبني على أساس أختلاف اللغة قد ولّد الكثير
من الأحداث والأزمات السياسية بين السياسيين منذ نشوء الدولة البلجيكية
عام 1831م والى يومنا هذا. فصراع الكتل السياسية الفلمنكية والوالونية
قائم على قدم وساق وعلى مر الزمن وكل طرف من الأطراف يطمح ويسعى للحصول
على فوائد ومكتسبات من الطرف الآخر وعلى مختلف الأصعدة السياسية
والإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
طبقا لموضة الإنتخابات الأوربية الجديدة فمن يريد أن يكسب الأصوات
الكثيرة في الإنتخابات العامة، ما عليه إلاّ ان يرفع شعارات عنصرية
متطرفة تلهب حماس الشارع وتأخذ لبّه. وقد فهم السياسيون هذه اللعبة
حينما أحرز الزعيم اليميني المتطرف (جان ماري لوبان) النصر في
الإنتخابات الأولية التي جرت في فرنسا عام 2002م، حيث أصبح في المركز
الثاني بعد حزب الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك وتقدم على الحزب
الإشتراكي الفرنسي الذي كان يحكم فرنسا أنذاك.
والأمثلة الأخرى كثيرة تلك التي تشير الى تألق نجم الأحزاب المتطرفة
في الإنتخابات الأوربية الحديثة، فمنها مثلا حصول الزعيم النمساوي
المتطرف (جورج هايدر) على نسبة كبيرة من أصوات الناخبين النمساويين
التي مكنته من الوثوب الى السلطة بعد أن تآلف مع حزب الشعب النمساوي
عام 2000م.
وفاز نيكولا ساركوزي بانتخابات الرئاسة في العام الماضي بعدما وعد
في تنظيم الهجرة ومكافحة مشاكل المهاجرين وتمنطق ببعض الألفاظ الحادة
تجاه بعض المهاجرين. ولولا إغتيال الزعيم الهولندي المتطرف (بيم فورتين
)عام 2002 م لكانت نسبة الأصوات التي حصدها من بين أصوات الهولنديين
كبيرة الى درجة أن توقع المحللون فوزه الساحق.
من هذا المنطلق إنطلق إيف لوترم حيث رفع شعاراته المتمردة وأطلق
صيحاته الإنتخابية الثائرة والهاتفة باسم المجتمع الفلمنكي دون غيره.
فلم تخطا الموضة الإنتخابية من الإتيان بؤكلها حيث فاز لوترم بأكثرية
الأصوات كما فاز من قبله المتشددون الآخرون. لكن شعارات التطرف
والعنصرية المرفوعة من قبل الزعماء المتطرفين في دولهم كانت تنحصر على
الأجانب والغرباء عادة وليس على أبناء جلدتهم. القصة هنا تختلف، لأن
إيف لوترم رفع شعارات ترجيحية للمجتمع الفلمنكي ضد المجتمع الوالوني
وكلاهما مكوّن هام في المجتمع البلجيكي الأصلي.
لقد طالب بتغيير بعض فقرات الدستور التي يرى فيها إجحافا في الحق
الإنتخابي للفلمنكيين وأقترح إجراء إصلاحات إقتصادية وإجتماعية تؤدي
الى رفع بعض الإلتزامات الفلمنكية تجاه الوالونيين وتقلل من المساعدات
المالية التي يقدمها المجتمع الفلمنكي الى مؤسسات المجتمع الوالوني
المتعثرة إقتصاديّا. هذه الإقتراحات لم تلق ردّا مقبولا من قبل الكتل
السياسية الوالونية مما أوقف عملية تشكيل الوزارة وبقيت الأمور تراوح
في مكانها لفترة طويلة.
شخصية إيف لوترم شخصية غامضة ومدهشة في بعض الأحيان، فقد وصفه
اعداؤه بانه رجل متعجرف عنيد وغير دبلوماسي، بينما وصفه محبوه بأنه
انسان جدّي وحدّي في تصرفه ورؤاه. رغم أنه يتجنب الحوارات الصحفية
وشاشات التلفاز عادة إلاّ أنه وفي القليل من المناسبات قد تحاور مع
الصحفيين وصرح من خلال حديثه بامور أصبحت مثار دهشة وفكاهة وجدل!. ففي
مناسبة العيد الوطني البلجيكي في الحادي والعشرين من شهر تموز المنصرم
سأله أحد مراسلي التلفاز البلجيكي (ار تي بي أف) : ماذا يعني العيد
الوطني البلجيكي؟ لم يستطع لوترم الإجابة! ففكرّ عندها المراسل بسؤاله
الثاني وهو: هل تستطيع أن تنشد لنا النشيد الوطني البلجيكي؟ فأنشد رئيس
الحكومة الجديد النشيد الوطني الفرنسي ظنا منه أنه النشيد الوطني
البلجيكي! عندها بدأ البلجيكيون يتساءلون مع أنفسهم.... !!
ينتقد لوترم الوالونيين الذين يقطنون في المناطق الفلمنكية والذين
لا يتكلمون اللغة الفلمنكية ويصفهم مستهينا بانهم غير قادرين "فكريا"
ان يتعلموا اللغة الفلمنكية! وكان تصريحه هذا من خلال حوار صحفي اجرته
معه صحيفة التحرير الفرنسية! ولما سأله الصحفي عن أواصر الربط بين
البلجيكيين أجاب: الملك...فريق كرة القدم... والبيرة! مما أدهش الناس
وجعلهم يتساءلون ماالذي سيحصل إذن إذا ما مات الملك "لا سمح الله" وخسر
فريق كرة القدم في تصفيات العالم وأستبدلت البيرة البلجيكية ببيرة أحسن
منها ؟ هل ستزول بلجيكا....!؟
من الأمور المدهشة الأخرى في سيرة رئيس الوزراء الجديد أيضا هو أنه
متطرف ومتشدد ومحارب سياسي عنيد من أجل حقوق المجموعة الفلمنكية ضد
المجموعة الوالونية، علما بأنه هجين بين العرقين إذ أن أباه والونيّ
وامه فلمنكيّة! فلماذا ينحاز للفلمنكيين ضد الوالونيين فيقود قوم أمه
ضد قوم أبيه!؟ اليس من الأحرى أن يكون المثال الحي الذي يقتدى به من
حيث الوسطية والإعتدال في التصرف والتوجه والتفكير أمام المصاعب
المحيقة ببلد مركب اساسه مجموعتين متباينتين لغويا ومتداخلتين مع
بعضهما!؟ سيما أنه منتسب عرقيا لكلاهما ويتكلم اللغة الفرنسية كلغة ام
كما يتكلم اللغة الفلمنكيّة. أم أنه يريد الإنتقام من أبيه لصالح أمه؟!
من يتمحص في الأمور مليّا يجد بأن المادة، في الغالب، هي الدافع
الرئيس للصراعات بين السياسيين! إذ أن في كثير من الأحوال يتبرقع
السياسيون في مسيرتهم السياسية بشعارات ثانوية لا تنطلق من واقع الحال
وحقيقته. هذه الشعارات المستخدمة تكون عادة متناغمة مع حس الشارع ونبضه
وتضرب على الأوتار الحساسة فيه فتلهب عواطف المواطنين وتثير النخوة
عندهم. ليس ثمة ما يلهب حماس الشارع في اوربا أو غيرها من مدن العالم
غير الشعارات المنادية باسم العرق أو اللغة أو الطائفة والدين.
النزعة الإنفصالية والعنصرية التي يقودها إيف لوترم لا تمت في
الحقيقة عند هذا الرجل بصلة للعرق أو اللغة. فأنه رجل هجين، فماالذي
يدفعه الى المواقف العرقية المتشنجة لطرف دون آخر غير العامل المادي
إذن؟! الفلمنكيون هم الأغنى وهم الذين يدفعون المساعدات المادية
للوالونيين، وهذا ما أثار حفيظة السياسيين الفلمنكيين ضد السياسيين
الوالونيين. ورغم أن إيف لوترم هو نصف فلمنكي(من أمه) ونصف والوني(من
أبيه) فأنه تحزب ضد نصفه الثاني منحازا لرجاحة ميزان القوى المادية،
فراح ينتصر لقوم أمه ويخذل قوم أبيه....! |