أبتدأ يوم الثلاثاء المصادف 11-3-2008 البث الفضائي لقناة إلBBC
العربية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية والتي كانت ومازالت وربما
ستستمر منذ أنطلاقها قبل 60 عام وحتى الآن مثالاً للمهنية والموضوعية
والدقة والمصداقية والأعلام الحر في نظر الكثير _ وأرجو الانتباه لكلمة
الكثير _ من المراقبين والمحللين الأعلاميين فضلاً عن رأي المواطن
العادي الذي مافتئت مجموعة إلBBC تروي عطشه المعلوماتي عن طريق اطلاعه
وبشكل فوري على مايجري في العالم حوله عبر نشرات أخبارها , وتحضّه على
التفكير والنقاش عبر حواراتها التي يُشارك المستمع فيها في الكثير من
الأحيان.
ويبدو من نافلة القول التأكيد على أن ولادة هذه الفضائية قد جاء في
زمن الفوضى الإعلامية والتخبط الذي يعيشه الفضاء الميديائي في العالم
العربي حيث الأعلام وفضائياتها موزعة بين صنفين, الأولى : الفضائيات
الحكومية العلنية مثل جميع الفضائيات الرسمية التابعة للدول العربية ,
الثانية : الفضائيات الحكومية المُقنعة كالجزيرة والعربية والحرة التي
تعود _ تمويلاً وأيديولوجياً _ الى قطر والسعودية وأمريكا على التوالي
, والتي تسعى كل منها الى أحتكار الحقيقة والمعلومة وتسويق أجندتها
المرتبطة بالدولة الممولة , ناهيك عن المهاترات والمناوشات الأعلامية
الفجة التي تحدث_ في بعض الأحايين _ فيما بينها. بل أضحت هذه الفضائيات
بشكل مكشوف وعلني تتلاعب بصياغة وتقديم ونقل الخبر لصالح الطرف الممول
أو الكفيل كما وصفه مأمون فندي في كتابه " الإعلام والسياسة في العالم
العربي" خصوصاً في القضايا المتعلقة بالطرف التي تعمل لديه.
أن ظهور فضائية الBBC العربية في هذا الزمن الرقمي على حد تعبير
ريجيس دوبريه يأتي ليجسد حاجة حقيقية لأعلام واقعي نزيه يتعامل برؤية
تحاول أن تقف على بعد مسافة واحدة من جميع أطراف النزاع والصراع التي
يزخر بها العالم, أعلام جدي يتعامل بشكل محايد وموضوعي مع مادته ويحاول
مسك العصا من الوسط , بعيداً عن الشعارات الرنانة والكليشهات الطنانة
والعبارات الفارغة المضمون والشكل والأبعاد , فلم يرَ المتلقي العربي
المحايد _ في الواقع _ فضائية أقرب الى الحقيقة كما تزعم فضائية
العربية السعودية , ولا أخرى تمثل الرأي والرأي الاخر كما تدعي فضائية
الجزيرة القطرية , ولا ثالثة تحمل أفق جديد كما تسوّق قناة الحرة
الأمريكية ذلك.
أن ألمشاهد والمتلقي العربي لم يرَ في الفضائيات الأعلامية الشهيرة
الا أبواقاً للتطبيل والتزمير بأمجاد وعبقرية وعقلية مموليها بأساليب
مكشوفة وظاهرة وبطرق مباشرة حيناً وغير مباشرة حيناً أخر , فتلميع
سياسة النظام السعودي والقطري يتم عبر الجزيرة والعربية , ولهما في هذا
التلميع مناهج متعددة , حيث قد يكون هذا التلميع عبر تسفيه ونقد
السياسة التي تعارض سياسة مالكي هذه القناة وقد يكون عبر اللقاء مع
معارضي النظام الحاكم لمالكي القناة المضادة والسماح لهم بالنقد والشتم
والسب بحجة حرية ألكلام والرأي الذي لايطبقونه على نفس النظام الذي
يمول هذه القناة والمشاهد العربي أشمئز وضجر من تصدير المعارك بين
السعودية وقطر الذي يتم عبر هاتين القناتين , وكم مرة أبلغني البعض
بقرفهم من طريقة سماع عيوب قطر وعلاقاتها باسرائيل في قناة العربية
ومساوئ وعيوب السعودية ونظامها في فضائية الجزيرة , مع العلم أن هنالك
توقف في الوقت الحاضر في الهجوم والهجوم المضاد لكلا القناتين بسبب
محاولة كلا البلدين أعادة العلاقة بينهما أثر الزيارات المتبادلة
لمسئولي كلا البلدين , وهذا التوقف في الهجوم خصوصاً فيما يتعلق
بالجزيرة يدل بشكل لا ريب فيه على أن شعار الرأي والرأي الأخر هو قضية
مضحكة وأن الحقيقة هي أمر يصدر من شيوخ ال ثاني للهجوم على النظام
الفلاني والتملق للنظام العلّاني...
ومن الجدير بالذكر أن المشكلة الكبرى في هذه الفضائيات وفي حروبها
العبثية يكمن في غباوتها المتمثلة في أنها تنتقد الأخر بطريقة تصلح
تماماً لنقد نفس الدولة الممولة لها أو بصورة ادق العائلات المالكة
لهذه الدول والقنوات الفضائية والتي أغلبها عائلات فاسدة سياسياً
ولاتعرف أي شيء عن حقوق الأنسان والديمقراطية والحوار وقيم التسامح
والسلام.
أن المجتمعات التي تُعد الساحة الحقيقية التي يكتسب اللأعلام شرعيته
وهويته فيها من خلال الخدمات والمنجزات التي يقدمها ضمن دورة العلاقات
في نفس هذا المجتمع كما يرى البروفيسور الألماني سيغفريد فايشنبيرغ في
نظريته الشهيرة في الوسط الأعلامي المسماة ب(قشرة البصلة) , هذه
المجتمعات العربية قد عرفت زيف اللعبة الاعلامية وأدركت مخبآتها وكشفت
مكنوناتها فعرفت الخبر والمعلومة ,وأدركت كيف سيُصاغ في قناة العربية
وبما يخدم أجندة السعودية , وكيف سيزيف الخبر لخدمة سياسة قطر عبر
فضائية الجزيرة , وأنى يُعدل الخبر في قناة الحرة لمصلحة الولايات
المتحدة الامريكية واستراتيجياتها في الشرق الأوسط , بل اصبح المواطن
العربي يعرف ماذا سيكون الخبر الأول في نشرة أخبار كل فضائية وكيف
ستتعامل معه وماذا ستهمل وعلى أي موضوع سوف تركز, وكيف ستتم فيها
الطبخة !
نعم يعرف المتلقي العربي كيف سيتم طبخ الخبر السياسي على عكس
الطبخات الغذائية التي تقدمها قناة فتافيت التي يقف المتلقي مشدوها
أمامها ومنتظراً عن ماذا سوف تسفر هذه الطبخة !!!... وهكذا أصبحت هذه
الفضائيات عارية أمام هذه المجتمعات التي لم تعد ترى فيها المرآة
العاكسة للأوضاع الجارية في العالم , ولهذا وبعد أن كان المجتمع العربي
يتفاءل عند ظهور فضائية أخبارية جديدة أصبح الأن محبط من كل قناة
فضائية عربية جديدة لعلمه بسياسة التطبيل والتلميع التي سوف تتبعها
لاحقاً حتى لو صرخت ليل ونهار بأنها مستقلة وموضوعية ومحايدة !!!
وسط هذا الجو الإعلامي الغارق في ضبابيته تخرج إلـ BBC من ركام
الأزمات ومن حطام سنين طويلة تحاول أن تسد الفراغات وترمم الخراب
وتلملم أشتات الرؤى الإعلامية المتناثرة , وهي عليها الاستفادة من
ثلاثة أخطاء إعلامية كبرى :
1. أخطاء بعض الفضائيات الغربية وتحيزها للأخر في التعامل مع قضايا
الشرق الاوسط , بل ألأمر اكثر من ذلك حيث يؤكد المفكر الأمريكي نعوم
تشومسكي أن الإستراتيجيات الإعلامية للرأسمالية الغربية تساهم بتكريس
الأصولية واللاعقلانية في مجتمعاتها التي تعمل فيها.
2. أخطاء قناة الحرة التي أطلقتها الولايات المتحدة الامريكية من
اجل تغيير الصورة المتداولة عنها في العالم العربي , حيث يرى البعض في
ال BBC العربية الوجه الأخر لقناة للحرة من منظار أن الاخيرة تمول من
قبل الولايات المتحدة الامريكية بينما ال BBC تمول من قبل بريطانيا
وكلاهما شارك في الحرب على العراق وهي وجهة نظر تستحق التأمل سواء
رفضناها أم قبلنا بها مع العلم أن مشروع إل BBC قد ولد قبل أكثر من 16
سنة أي قبل حرب العراق وإسقاط نظام صدام.
3. أخطاء الفضائيات العربية الرسمية العلنية والمقنعة وخصوصاً
الجزيرة والعربية التي تعالج القضايا التي لا تمس من قريب و لابعيد
مموليها بأستقلالية وحرية في مقابل سكوتها وخرسها المطبق أمام القضايا
ذات الحساسية التي تمس العوائل والرموز السياسية في كل من دولتي قطر
والسعودية.
ولهذا فأن احتمالية نجاح فضائية إلـ BBC العربية تنبع من سببين:
1. سبب ذاتي.
هذا السبب يرتبط بالفضائية نفسها حيث تضم كادر أعلامي متميز ذو خبرة
طويلة في مجال الأعلام , فضلاً عن تمويلها الذي توفر بعد الأستفادة من
تجربة نفس القناة التي افتتحت قبل 16 سنة وأغلقت بسبب تدخل الممول
الشريك السعودي في بعض موادها التحريرية , وأما الأن فلايوجد شريك يؤثر
على صياغة الخبر وتحريره ولاممنوع سياسي يمكن أن يوقف نشر بيان او
أذاعة خبر ,إلا ما يمكن أن يتم منعه لأسباب معينة وحينها قد تفقد
مصداقيتها القناة , كما أن سمعة مجموعة ال BBC يمكن أن تصنع فضاءاً
أيجابياً تستفيد منه فضائية الBBC العربية وبذلك فهي تنطلق من أرض
معبدة نفسياً.
2. سبب موضوعي
يتعلق بالفضاء الأعلامي العربي المتآكل والمتهرئ الذي يرزح تحت وقر
فضائية الجزيرة والعربية والحرة التي تعرّوا لأكثر من مرة عبر برامجهم
وإخبارهم وحواراتهم التي أزاحت أقنعتهم وكشفت عوراتهم وجعلت المواطن
العربي يفقد الثقة في مصداقيتهم ويرى أن قضية استقلالهم وموضوعيتهم هي
أقرب الى الخيال منها الى الحقيقة.
إن الخطاب الإعلامي العربي الحالي الذي تقدمه الفضائيات الكلاسيكية
سواء كانت الحكومية العلنية أو المقنعة يتضمن دلالات ساطعة ومؤشرات
واضحة على أن الإعلام العربي مازال في طور المراهقة والصبيانية أن لم
أقل العبثية مادام يمثل عائلات وقبائل وعشائر وقادة تحكم دولاً
بالوراثة أو بطرق غير ديمقراطية.
ولهذا فالـBBC العربية تتحمل مسؤولية كبيرة وعليها واجبات ضخمة تنوء
بحملها , وأنا واقعاً _ وهذا رأيي الشخصي _ أعتقد بأن هذه الفضائية قد
تدق المسمار الأخير في نعش المهزلة الإعلامية العربية الكبرى أو قد
تمتصها الأخيرة وتذوب فيها وتكون جزءاً لايتجزأ منها وفي حينها سوف
نقرأ الفاتحة على روح الأعلام العربي ونقول على القنوات الفضائية
السلام.
[email protected] |