ولاية الفقيه بين نزاع النظرية وقصور التطبيق

كريم المحروس

 خلص البحث العلمي الجاد بين كبار علماء التشيع إلى تربيع مصادر التشريع على مراحل متعاقبة ومتدرجة تصدّرها كل من الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ ابن إدريس الحلي كفقهاء اجتهاد وإعمال بحث واستقراء في أعلى المراتب العلمية الشيعية. بينما شكل "العقل" المصدر الرابع للتشريع بين هذه المراحل الخطيرة أداة استثارة للأذهان في دائرة الكشف عن الأحكام.

فكان ذلك البحث إيذانا ببدء مرحلة مناظرات حوزوية علمية واسعة جدا، حيث امتد الفقه والاجتهاد إلى أعلى المراتب ودرجات العطاء، متجاوزا بذلك القائلين بالانسداد والوقف الفقهي بحد الولاية العامة. وعلى الأثر فكت الكثير من المساءلات الحرجة والمعقدة جدا بين تحديات الحيرة التي أعقبت وقائع الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) وتحديات الفقه الاجتهادي المنافس والمستقر عند ولاية اتجاه الخلافة.

وكان نشوء أول سلطة شيعية في (334هـ) من بعد الغيبة الكبرى بخمس سنوات رأسها البويهيون في جنوب إيران وغربها التحدي الفقهي الاجتهادي الثاني المحفز على الخوض في النظريات العلمية المتعلقة بولاية الفقيه وفك أواصر العلاقة بمقام السلطنة وحدود صلاحية تدخل الفقيه الجامع للشرائط في أدائه الوظيفي لعناوين "الدولة" أو "الحكومة" فضلا عن تصديه لمقام خطير أوجبت البحوث الفقهية من قبل وقفه على الإمام المعصوم من أهل البيت(عليهم السلام) واستفاضت بحوث شتى في وصف المحتل لهذا المقام بـ"الغاصب" المعتدي والمستخف بما حث الفقهاء على تجنبه والزهد فيه، ومن ثم التمسك بعقيدة الانتظار حتى يأذن الله تعالى للإمام المنتظر المعصوم بالفرج.

ونهض في خضم هذا التحدي الفقهي الخطير الشيخ أحمد النراقي (ت 1245هـ) ببحث استقل فيه بنظرية ولاية الفقيه المطلقة التي تجاوزت صلاحيات الولاية العامة في الحسبة المعمول بها بين فقهاء عصره، فأعطت للولي الفقيه ما كان للمعصوم (عليه السلام)، " فكلما كان للنبي والأئمة الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما). فأجاز بحث الشيخ النراقي التصرف المطلق في أمور الرعية وأنفسهم وما يملكون، مثيرا بذلك موجة عارمة من الجدل والمناظرات والمساجلات، ومعيدا الذاكرة إلى ما خلفته وقائع النزاع الفقهي حول دخول" العقل" كمصدر رابع للتشريع والتشبه فيه بـأداء اجتهاد "الرأي" عند محدثي اتجاه الخلافة وبسط الطريق لتعزيز حدة الانقسام في اتجاه التشيع بين فريقي المحدثين والمجتهدين.

منذ عهد الشيخ النراقي المتميز بعلو شأن البحث الفقهي الأصولي واتجاه التشيع قائم على ثلاثة أقسام اجتهادية بارزة في شأن ولاية الفقيه: الأول: اجتهاد مؤيد موسع من دائرة فعل "العقل" كمشرع لهذه النظرية بين النص ذي الدلالة المتعلقة والمطلِقة لحق السلطنة المضافة حديثا إلى حق الفقيه. وثاني: اجتهاد معارض قاطع بدلالة النص على الحرمة الصريحة، وبذلك خرّج الولاية المطلقة عن دائرة التشيع وحصرها في أوصاف التعدي على مقام الإمام الغائب، واغتصاب حق من حقوقه، والتكلف في مداولة النص المتعلِق وتحميله بما هو فوق دلالته. وثالث: اجتهاد موجِه لحق الفقيه في الولاية المطلقة ومحدد له في صور جزئية تتخطى الحق في الأمور الحسبية ولكنها لا تنال من مبادئ الحرية وحقوق الناس في اعتباري الفقيه المرجع والفقيه السلطان.

وكان الجمود حليف القسم الاجتهادي الأول في دوائر البحث العلمي حتى العقد الثامن من القرن الماضي، بينما ساد الاجتهاد الثالث على الثاني بمؤازرة كبير فقهاء الأصوليين الشيخ مرتضى الأنصاري (ت1281هـ) الذي أخرج نظرية ولاية الفقيه المطلقة عن ساحات الجدل غير المثمر، وأخذ بها إلى شكل وسطي سطر معطياته وأصوله ونتائجه في كتابه (المكاسب) الذي فند فيه مذهب الشيخ النراقي وتفاصيله المذكورة في (عوائد الأيام).

بدت صور الحوزات والمدارس الدينية الأصولية بعد رحيل الشيخ الأنصاري على خلاف المتوقع والظاهر، حيث دب النزاع الفقهي الاجتهادي حول نظرية ولاية الفقيه المقيدة على اجتهاد الأنصاري وتطبيقاتها العملية، وكأن من بين رواد هذا النزاع من شاء أن يتفوق على دور الشيخ ابن إدريس الحلي في معالجة جمود الحركة الفقهية التي أعقبت رحيل الشيخ الطوسي، ورمى إلى إخراج الحوزة العلمية من مرحلة وقف وانسداد إلى مرحلة تفاعلية جديدة،وممهدة السبيل لمعالجة الواقع العملي من خلال نظرية ولاية الفقيه في بعديها العام أو المطلق.

هكذا بدت الماجريات الحوزوية، لكن نزاعا مضمرا آخر بين مراتب المجتهدين في السلم المرجعي بدا كامنا خلف مستويات النقاش والجدل والسجال والبحث العلمي المتباينة في نظرية ولاية الفقيه، ولم تتكشف آثاره وانعكاساته السلبية على الصعيد الاجتماعي إلا من بعد رحيل المرجع الديني السيد محمد حسن الشيرازي زعيم انتفاضة التنباك الشهيرة التي أخرجت نظرية ولاية الفقيه بهيئتها المقيدة في بعد عملي مهم تمثل في التصدي لزعامة انتفاضة (1891م) الداعية إلى شطب الامتيازات الإيرانية المقدمة لشركة التبغ الإنجليزية. وحقق الشيرازي بموازينها مصلحة عامة عليا لم يرم في منتهاها إلى الوقوف على سدة السلطنة التي كانت متاحة له بعد تكشف كل فرص الإمساك بالحكم وطرد الشاه ناصر الدين القاجاري (1848- 1896م) عن عرش طهران.

أخذ النزاع حول مراتب المرجعية يحتدم شيئا فشيئا في دوائر مغلقة جدا، ثم اتخذ بعدا ظاهريا في صور عنيفة جدا بعد تطبيقين عمليين ظاهرين لولاية الفقيه المقيدة أعقبا انتفاضة التنباك على خطى المرجع الأعلى السيد الشيرازي. وقد برز هذان التطبيقان في تجربتين لجيلين مهمين عززا ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري في المستوى النظري لولاية الفقيه. وكان على رأسيهما كل من السيد شبر السترى البحراني والسيد محمد الطباطبائي الإيراني.

السيد الستري كان أحد وجوه فقهاء المدرسة الأصولية التي دُفّعت ثمن التصادم بين نظرية ولاية الفقيه ومجتمع علماء المحدثين حيث بدأ السيد الستري دراسته الدينية وانتمى في مدرسة الشيخ عبد الله ابن الشيخ عباس الستري البحراني، ثم أستكمل دراسته على منهج السيد محمد حسن الشيرازي في سامراء. ويذكر الشيخ علي البحراني (المتوفى 1926م) في كتابه (أنوار البدرين) أن السيد شبر" في آخر عمره أخذته الغيرة الإيمانية على ما جرى على أهل البحرين من الحكام المتغلبين عليها من الظلم والعدوان وغصبهم الأموال، وتشتتهم في كل مكان. وأداه نظره واجتهاده - وان لم يوافقه عليه أكثر علماء زمانه - إلى جمع العساكر من أهل البحرين والقطيف الساكنين هناك لأخذ بلاد البحرين من أيدي أولئك المتغلبين".

وبمشيئة إدراك الحقيقة المرة التي واجهها السيد الستري في الجانب التطبيقي لولاية الفقيه ولحركته النضالية التي عاجلته بالكدر والغصة قبل دنو منِيته وبلوغه مُنيته يُعرف مدى تشدد الموقف العلمائي البحراني إزاء الوظيفة العملية المستتبعة لتلك النظرية الوافدة عن مرجعية النجف ذات النزعة الفقهية الأصولية، فنأت الغالبية العلمائية بنفسها عن مد الستري برأي ونظر في مباحثه النظرية التي فروا منها ولم يقبلوا فيها صفة اجتهاد، ثم تصدوا لحركته بكل ما استجمعوه من قوة ونفوذ آنذاك، انطلاقا من إيمانهم بمبدأ الحرمة في شأن أي سلطة تقام قبل تحقق الفرج على يدي الإمام المنتظر (عليه السلام)، ولأنها - بحسب نظرهم- لا تخرج عن كونها سلطة غصبية غير مؤهلة شرعيا للتصرف في الأموال والأنفس، وصنفوا ما جاء به الستري من رؤى في التغيير السياسي تأجيجا للصراع الداخلي ومحاولة غير مشروعة لإحلال سلطة دينية بديلة قد تعرض البلاد والعباد إلى ضرر قبل أن تستحكم، ثم دعوا الناس إلى المقاطعة والانفضاض من حول الستري. فما كان له من ملجأ غير بلاد القاجارية التي كانت حاكمة على جزيرة البحرين قبل الاجتياح الجديد للجزيرة وانتزاعها منهم.

ربما أولى السيد الستري ثقته المطلقة في نصرة علماء وطن طالما عانى من هول ما نكّل به، وتمثلت جزيرة البحرين له في صورة منتزعة عن رؤيا الشيخ حسين عبد الصمد العاملي (ت984هـ) والد الشيخ البهائي التي عكست ملامح جزيرة مؤمنة ستُكب بما عليها يوم المحشر في عرض الجنة بلا حساب. وربما أخذته تلابيب وصية الشيخ العاملي لابنه الشيخ البهائي حين قال فيها: "إذا كنت تريد الدنيا فاذهب إلى الهند وإذا كنت تريد الآخرة فاذهب إلى البحرين..". وربما أهاله العزم الكبير للشيخ العاملي على الرحيل عن بلاد فارس وتفضيل التنعم بالإقامة في جزيرة البحرين الوادعة، مخلفا وراءه صرح المشيخة التي آلت إليه في عهد الصفويين من بعد وفاة الشيخ الكركي خاليا بلا مرجعية دينية مرشدة. ولكن الستري لم يأخذ في الحسبان بيتي الشعر اللذين نطق بهما الشيخ العاملي بعد حوار ومناظرة علمية مع علماء البحرين، وعني بهما " أنه متى أدعى دعوى، طلبوا منه الدليل، ومتى أقام الدليل منعوا" أناس فى أوال قد تصدوا        لمحو العلم واشتغلوا بلِمَ لَمِ ؟؟

فإن باحثتهم لم تلق منهم         سوى حرفين لَم لَم لا نَسلَم.

واما التجربة التطبيقية المثيرة الثانية لولاية الفقيه فكانت بزعامة السيد محمد الطباطبائي، حيث جمع من خلفه عددا من رجال الدين واعتصم بهم في مرقد السيد عبد العظيم الحسني بطهران احتجاجا على الاستبداد الحكومي على عهد الشاه مظفر الدين، ثم أعلنت هيئته العلمائية مطالبها بحاكمية دستور ومجلس منتخب، حتى استوعبت حركته (المشروطة) عامة الناس. ودخلت البلاد في مواجهات مباشرة مع قوات الأمن. فاضطر الشاه على الأثر للاستجابة في (1907م) بعد انضمام الكثير من فقهاء طهران إلى المشروطة. لكن تجربة ولاية الفقيه المقيدة هذه أجهضت مثلما أجهضت تجربة السيد الستري، واعتقل دعاتها وأعدم الكثير منهم بفتاوى بعض علماء الدين الإيرانيين الذين شككوا في شرعية حركة المشروطة ووصفوها بالإلحاد والزندقة والتشبه بالحركة العلمانية التركية.

بعد أحداث الستري في البحرين، وتطور وقائع مشروطة الطباطبائي في إيران؛ انكشف المضمر في النزاع على مراتب المرجعية وحاكمية ولاية الفقيه في النجف، وانقسمت الحوزة إلى قطبين مرجعيين: مثل كل من الشيخ المازندراني والميرزا خليلي وشيخ الشريعة الاصفهاني والسيد الكاشاني والسيد الداماد والشيخ البغدادي والشيخ النائيني والشيخ القشمئي والشيخ النقشواني والشيخ المدرس والميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين - قطبا مؤيدا ومتبنيا لولاية الفقيه على اجتهادي الأنصاري والشيرازي بزعامة الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني (ت1329هـ). واما القطب الآخر المسمى بقطب (المستبدة) الذي أبدى معارضة متشددة لولاية الفقيه فقد تزعمه السيد كاظم اليزدي صاحب المؤلف الشهير (العروة الوثقى).

الأهم في خلفية هذا التعدد القطبي المرجعي، أن نزاع المراتب هذا نشأ بعد وفاة الشيخ الأنصاري بين تلامذته، ليكشف أن مرجعية السيد الشيرازي التي ذاع صيتها بعد الأنصاري شرعت في تطبيق ولاية الفقيه في محيطها المحلي والإقليمي من خلال السيدين الستري والطباطبائي. ولكن المرجعية هذه ومتبنياتها النظرية والتطبيقية كانت محل رفض فقهي اجتهادي عند السيد اليزدي. ووصلت الأمور في أمر هذا النزاع إلى حد امتناع اليزدي عن حضور مجالس الفاتحة التي اقيمت على روح السيد الشيرازي بعد وفاته، مخالفا بذلك العرف الحوزوي النجفي الظاهر في التعبير عن عظم شأن ومقام المرجعية المتوفاة، وفضل الاعتكاف في مسجد السهلة بالكوفة، ثم وقف في الضد من مرجعية الآخوند الخراساني التي تلت السيد الشيرازي وناهض ولاية الفقيه في مشروع المشروطة.

كل هذه المعطيات الحوزوية تحيل الأذهان إلى أن التطور الابتدائي الاجتهادي في مرحلتي تربيع مصادر التشريع وما لحق بذلك من انتزاع لنظرية ولاية الفقيه بشقيها المطلق والمقيد لم يكن بالأمر الرتيب والهين على مستوى التحدي الناشئ عن نزاع المراتب العلمية والمرجعية فضلا عن التطبيقات العملية، إنما هنالك الكثير من الحوادث الخطيرة التي كان من شأنها تخطي حدود الحوزات ومدارسها وبحوثها العلمية وشمول وقائعها السلبية للنظام الاجتماعي والسياسي السائد.

 لكن الأمر الذي بدا أكثر اضطرابا بين كل ذلك، أن الانتقال الحوزوي العلمي من مرحلة الثنائية في مصادر التشريع إلى مرحلة التربيع، ثم الانتقال العلمي من مرحلة الولاية العامة إلى الولاية المطلقة أو المقيدة للفقيه إتخذ مسارين مهمين وخطيرين غير متجانسين: المسار النظري، وظل شأنا علميا متداولا بين مراتب المرجعية ومدارسها الفكرية ولم يكن يستتبع ذلك إلا زيادة في التنافس على مستوى التحصيل العلمي للوصول إلى مراتب فقهية علمائية عالية فضلا عن إيجاد مسوغات الاخذ بمبدأ الاجتهاد الذي استتبع القبول بتربيع مصادر التشريع، وايجاد الحلول للقائلين بنفي أصالة الحرية التي شكلت التحدي الأكبر أمام فقه الولاية بكل أشكالها النظرية، خصوصا في مجالات حق الناس في الانتخاب والعزل والرقابة والنصح والانتقاد، وكذلك ايجاد الحلول لكشف الغمة عن معضلة حاكمية ولاية الفقيه المرجع الواحد على فقهاء عصره ومقلديهم.

واما المسار العملي التطبيقي لجهتي الانتقال الى الاجتهاد ومن ثم الى ولاية الفقيه المطلقة فقد استدعى مسعى حضاريا لم تحقق الحوزة كامل مقتضياته حتى الان، لأنه استوجب بناءً منهجيا متكاملا لموقع الزعامة المرجعية في خارج دوائر المفاجآت أو التوازنات السياسية، وضبط مراتبها ومدارسها، والارتفاع بمستوى كفاءة وكالاتها، وتبني الكادر الديني والعلمي المؤهل للتصدي لمشروع تسييس المجتمع وإدارة فعله السياسي الاحتجاجي، لتجنيب الأمة سوءة الخلافات الشخصية والاحتجاجات النفعية وضغوط التحاسد والتباغض والتدابر ومؤثرات السياسة والتعالم الواهم في فضاءاتها.

مازال هذا المنهج التكاملي الحضاري مفقودا حتى الآن في تطبيقات ولاية الفقيه المطلقة، ويعزى السبب في ذلك الى أن الحوزة لم تحقق الكفاية في عدد الفقهاء المجتهدين والمراجع المتخرجين بما يتناسب وحاجات المجتمع الذي بدأ يتلمس مظاهر تدخل مرجعية الولاية المطلقة في تفاصيل حياته على أيدي طلاب علوم دينية لم يكملوا تحصيلهم العلمي أو متخرجين على المنهج العلمي القديم ولم تتحقق في ذواتهم المؤهلات الاجتماعية والكفاءة الاجتهادية والحضارية المناسبة للتعاطي مع متطلبات اقتضتها الولاية المطلقة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13 آذار/2008 - 5/ربيع الاول/1429