الكأس الأخير

قصة قصيرة

أوزجان يشار

 وضع ضياء نادل البار كأس الويسكي أمام مراد عامر بعد أن حرص على ان يملئة و يهزة بطريقة استعراضية و كأنة مشهد يومي يتقنة ويمارسة بجدارة وهو يقول.. استاذ مراد  هذا آخر كأس لك..  لقد شربت كثيراً هذه الليلة.. و قبل أن يفتح مراد فمه ليحتج.. جاء صوت مدام جورجيت.. هذا الكأس القادم على حسابي يا مراد بيك.. تناول مراد كأسه و غادر كرسي البار المواجه لضياء إلى حيث الطاولة المقابلة للبيانو حيث تعزف جورجيت كل ليلة.. تأمل مراد تلك اليونانية.. بدت و كأنها مازالت في مطلع العقد الثالث رغم تلك التجاعيد التي منحت عيناها قدر رائع من توهج الأنوثة في الأربعينات.. قطع أفكار مراد صوت الكرسي الذي جلست عليه جورجيت لتقابل كرسي مراد.. و كان مراد في آخر العقد الرابع من عمرة و لكن كل من يراه كان يعتقد بأن عمرة اكبر بكثير من ذلك.. بدأ الرجل يتحدث وآهة تصدر من القلب والكلمات تتدفق... لست مختالا ولست معجبا بنفسي.. ربما لم تعد لكلماتي رنين تئن له القلوب.. ضيعت سنين عمري حتى نبتت هذه الشعيرات البيضاء وملأت وجهي وصدري.. آه.. لقد شبت بسرعة ياصديقتي.. و الخطوط التي تزحف فوق معالم وجهي ترسم ملامح رجل جديد لا اعرفه ولم أقابله من قبل.. هل تعرفي ما معنى هذا.. أنه الفناء و الإفلاس.. فأنا لا اعرف كيف أبيع ما تبقى من العمر.. أقول لكي بصدق بأني الكلمة.كيف هربت الدنيا من بين أناملي... كنت دائماً تقولين.. ابحث عن فرصة.. وأقول أني أكره هذه الكلمة.. لست بائعا ولست مشتريا ولكني اشعر اليوم بأنك ربما على حق.. حقك في أن تداومي على نصيحتي و أنا اشرب من آخر كؤوسي... ياللعجب يا جورجيت.. لا أعرف لماذا  أنسى كل ماتقوليه بمجرد  أن افتح عيناي صباحاً.

  يا صديقتي أن الحقوق تضيع تماما مثل العمر و لا يبقى شيء سوى الذكرى.. الكلمات.. الأشياء و الأماكن و الوجوة كلها تتغير.. كلها ليست خالدة.. و الإنسان ليس خالدا إلى الأبد.. وأنا عجوز.. هذه حقيقة وان مت فلن يبقى شيء جميلاً يتذكرني به أحفادي.

قالت جورجيت: إنما العيب فيك أنت يا مراد.. لم تحسن تربية أولادك.. فما بالك بأحفادك.

قال مراد  وقد ارتعشت الشعيرات البيضاء حول فمه و اهتزت لحيته البيضاء: جورجيت.. هل بدأ مسلسل التقريع المهين؟

قالت: لن أعتذر فما كان بينك وبين صغارك سوى العداوة و الجفاء والقيل والقال.. حتى تدخل الغرباء بينك وبين أولادك فلم يتبقى شيء من الحب و لا من المودة.. لقد تفننت في زرع ثمار الفرقة حتى زالت آخر بادرة للحوار.. هنا أقول أنها الإفلاس كما تقول ولكنني يا صديقي العجوز أخشى عليك من هذه النهاية.

قال: تنتهزين فرصة ضعفي وفراق أولادي ثم تعبثين بمشاعري.. لا أريد أن اشرب كأسك هذا..

ضحكت جورجيت: لقد أنهيت آخر قطرة فيه قبل أن احضر إلى طاولتك.. أني صادقة معك.. لقد عبثت أنت بأغلى ما تملك وكان الغرور حليفك و سلاطة اللسان قرينك و أعجبك أن تكون نجم الشباك و لكن في شبابيك الجيران و الأصدقاء و الأقارب.. فلم تنق أبدا بصديق ولا حفظت عهداً لحبيب, وكان الاعتراض وحده دينك قبل أن تسمح لعقلك أن يميز أو يشعر – كنت تعترض لمجرد الاعتراض فقط.. والآن لأنك صرت عجوزا تمزقك الآلام و المحن فأنت تحاول أن تبيع متاعبك و افلاسك. قال مراد وهو يقذف ببقايا كأسة في جوفه: أن حياتي كانت مجرد حالة خاصة جدا لذلك كنت دوماً متحفزاً للركلات و الطعنات.. صدقيني أني كنت اشعر بالالم و انا اعترض و انا اتكرمش داخل ذاتي تاركاً كل شيء يضيق حولي. لقد بنيت يا جورجيت مجد من وهم.. كنت اعتقد بان حياتي تتحرك أمام عيناي خلف سجن من الفولاذ.. لكن ها أنا اكتشف بأني أنا هو من كان خلف الفولاذ.. أنها للحظات حديدية لا أستطيع منها فكاكا لذلك آثرت السلامة ولست متعجلا لشيء الآن..

 أن اللحظات التي اتخذت فيها قراراتي كانت لحظات خاصة ــ لذا رويدك يا صديقتي الجلادة.. قد تقولين أن ما تعرفينه هو حالة عامة وليست خاصة ــ ولكن هذه الشعيرات البيضاء التي غزت رأسي ليست تاجا يتوج رأسي وليست مجرد حالة صوفية أمر بها ولكن هذا النبت الأبيض هو محصلة سنين طويلة قضيتها متأملاً ما ستجود به هذه الحياة العسيرة التي عشتها و الآن لا يعتريني شك باني أعيش لحظات الألم التي انتظرتها طويلاً.. لذلك ياصديقتي ــ أصدقك القول سواء طال العمر أو دنا.. ثمة بريق أمل بان أنجز شيئاً ما تجاه نفسي و تجاه غيري أيضاً.

قالت جورجيت بحدة مصطنعة: ماذا تقصد؟

قال وهو يتحسس الشعيرات البيضاء المتناثرة حول ذقنه وشفتيه: لا اعرف و لكن هناك وميض يشاكسني.. يخبرني بان دوام الحال من المحال.. المشكلة بأني احتاج أن أثق في هذا الوميض و أنا الذي اشك حتى من خيالي.. آنا لا احتاج لمزيد من التقريع و الاتهامات التي تنصب  على رأسي من ذات اليمين وذات اليسار من الصديق قبل العدو.. انظري حولك تجدين الفساد و قد شاع و عاث و من الظلم أن أتحمل وحدي نتاج عصري و زمني... اسمعي يا جورجيت.. قالها مراد متابعاً حديثه.. الكل يسعى للاستيلاء على ما بقى من جسدي ولا يهم قدر هذا المتبقي.. لا يهم.. أن رأسي تطن بتلك العبارات التي تنتمي بكافة الاتهامات فهل هناك وقت للرد أو لاتخاذ القرار؟ كان قراري أن أحول دونهم والجذع الأخضر الوحيد الذي أبقيته نابتا.. من جدول صاف.. الحب.. نعم الحب هو حبي لتلك القطعة من أرضي وأرض أجدادي.. كنت شغف أن المسها و أتوسدها و أقبلها.. أسقيها برماد جسدي وإذا ما جاء موتي.. أريد أن ادفن فييستيقظون احفادي يوما فيقولون.. آه هذه بقايا من تراب الجد الكبير.. لنهب ونصحو من تلك الغفوة الدائمة.. لعل ذرات التراب يسقيها هؤلاء الأحفاد فتنبت نبتا أخضر. لقد خفت أن أوافق وأن أجهر بالموافقة على بيع الارض و لكن إذا ما بعت تلك الارض لن يبقى منهم أحد.. سيحصلوا جميعاً على الفتات ثم يهربوا بعيداً حيث لا لقاء بعد اليوم. ليتهم ما تركوني في مشيبتي اتعذب و اعاني.. هناك عدو جاثم فوق صدري.. لا أستطيع منه فرارا ولا فكاكا.. أنا لست عاجزا برغم الكبر ولكني أريد أن اموت فوق ارضي و ان اختار موقع قبري.. أنها قطعة صغيرة.. أليست أعظم وأروع من الضياع !! تجدينني مشردا.. لا احد يضمني.. لا بيت يأويني.. لا جدار يسترني.. من يضن على بذلك سوى العدو !.

قالت: أن عدوك يملك القوة..

قال: أنا أملك الحق والبرهان.

قالت: منذ زمان بعيد و أنت تملك الحق والبرهان , فماذا فعلت؟

قال: ماذا تقصدين؟ حوارك هذا يطعنني اكثر.

قالت: ((الذي لا يرضى بالخوخ.. يرضى بشرابه))..

قال متحفزاً:  تعبثين بشيبي و وقاري.

قالت: لا أقصد و لكني ارى الشيب و لا ارى الوقار..

قال:  هذا يكفي..

قالت:  قد يأتي الفجر بجديد.فلا تيأس..ومن يعلم؟!

قال: انه الغيب إذن؟

قالت: إنه الحلم و ليس الغيب..

قال الرجل: أين المفر إذن؟..

ضحكت وتمادت في الضحك..

قال: مم تخافين؟.

قالت: من الخوف ذاته..

قال ثائرا: تتهميني بالتخاذل و الإفلاس.. وأنت مازلت تخافين الخوف نفسه !!

هزت كتفيها.. ولوت شفتيها.. عضت أصبعها.. سرحت وتساءلت: أي أمل هذا الذي يداعب الرجل العجوز؟.

وشعر بثقل همومها.. ابتسم و قال ماذا لديك يا جورجيت غيري ليكون همك؟

قالت:  لنعد إليك والي همومك..

قال الرجل: أن همومي هي الفرع و ليست الأصل..

قالت: أتريد أن تثقل كتفك بأحمالي.. ما كفاك أحمالك ووهنك !!!

قال: لست نعامة أدفن رأسي في الرمال و اترك مؤخرتي للركل و الرفس و... و لكني مازلت أرى هذا البريق من الأمل.

قالت: وقد اتسعت حدقة العين: أمل.. أتقول ((الأمل))؟ 

قال: و هل هناك شيء ما يستحق الأنظار سوى الأمل.

هنا قالت سميرة نادلة الحانة لضياء وهى تجمع الكؤوس و الزجاجات الفارغة متحدثة بصوت خافت مع ضياء.. إلى متى يستمر هذا الحال.. أني أتعجب كيف يستطيع هذا العجوز أن يجالس كرسي فارغ و يتحدث معه كل مساء هكذا بلا ملل.. أتراها الخمر أو خرف الشيخوخة؟!  لماذا لا يريد أن يفهم بأن جورجيت قد ماتت منذ خمس سنوات وهذا البيانو لم تلمسه أنامل بعد موتها..

رد ضياء بحدة و كأن هذا الحديث قد أهانه شخصياً.. لا عليكي أنت بما يفعل.. فقط اذهبي إليه بفاتورة الحساب و دعينا نذهب إلى بيوتنا لكي ننام.. أنه يرى  و يسمع و يدرك ما لا تستطيعي أنت أن تدركيه أو تفهميه...

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11 آذار/2008 - 3/ربيع الاول/1429