في العراق خلال الخمس سنوات الماضية كان هناك تقدم الاجتماعي،
وتقدم ثقافي، وتقدم اقتصادي، وتقدم علمي، بالاضافة الى الانفتاح
والاتصال بالعالم الخارجي، عبر حرية السفر والإفادات والبعثات،
والتجارة الخارجية المفتوحة، كما ان هناك تقدما سياسيا أساسيا متمثل في
استبدال سلطة مستبدة ومتفردة وناقمة بأخرى "ديمقراطية" توافقية متعددة،
وأكثر من ذلك هناك حرية الفكر والرأي والعقيدة. وبالتالي، فلا يمكن بكل
حال من الأحوال أن نقارن عراق ما يسمى بـ"عراق صدام" بالعراق الجديد؛
لان ما يحدث في العراق اليوم هو نقلة تستحق الاحترام والتبني
والمؤازرة.
ولكن، هل تقدم العراق الجديد كان تقدما تصاعديا مرضيا للعراقيين
؟ الجواب كلا. والأسباب إلى قسمين: قسم يتعلق بالتركة السياسة
والاجتماعية والاقتصادية التي خلفها النظام السابق، فنهضة الشعوب تعتمد
على درجة وقوة ومتانة البنية التحتية التي تمتلكها، ومعروف أن العراق
زمن النظام البعثي لا يمتلك البني التحتية التي تؤهله للتقدم والتطور.
والسبب الأخر هو ما يرتبط بالظروف الداخلية والإقليمية والدولية
التي وضع بها العراق، لاسيما التواجد الأجنبي، والتقسيم العرقي
والمذهبي، وقوى الإرهاب، والفساد المالي الكبير الذي يعبث بأمن مؤسسات
الدولة.
وهذا يعني أن نهضة العراق من جديد تعتمد على معالجة هذه الملفات
" المستعصية" ووضع الحلول المناسبة لها وفق جداول زمنية تكون ملزمة
للقوى السياسية الحاكمة، والبحث عن آليات جماهيرية وشعبية ومدنية تمكن
المجتمع العراقي ومؤسساته المدنية من تحديد البدائل المتاحة فيما إذا
فشلت المعالجات التي تقترحها وتقرها الأحزاب الحاكمة.
فمن ناحية التأثير الإقليمي والدولي والتدخلات الأجنبية في
العراق، فان الإسراع في نقل المهام والمسؤوليات من قوات متعددة الجنسية
إلى قوات عراقية مستعدة ومجهزة بالاتفاق على جداول نقل يستعد فيها
الطرفان لتحمل المسؤولية الأمنية وإحلال الاستقرار من جهة، والاتفاق
على تامين مصالح الدول الجارة للعراق أو على الأقل تقليل مخاوفها من
التدخل الأجنبي"الأمريكي" في شؤونها الداخلية وتبديد مخاوفها من جهة
ثانية، من شانه أن يساعد بنسبة عالية على تضييق الخناق على الرافضين
للعملية السياسية برمتها، وعلى الخارجين على القانون، والداعين إلى
مقاومة "الأجنبي" بقتل العراقيين!!.
أما من ناحية التأثير الداخلي على النهضة العراقية الحديثة كمعوق
لها، وما يرتبط به من ملفات تكاد أن تكون معقدة كالطائفية والقومية،
وطرق تقاسم السلطات، والانقلاب على القوانين ولوي عنقها من قبل الأحزاب
السياسية الحاكمة، ومحاولات تثبيت القوى والأطراف والشخصيات المتخندقة
في إدارات الدولة، ومسألة الفساد الإداري المقنن وغير المقنن وغيرها،
فانه يستوجب إحداث طفرة نوعية في أساس تشكيل الرئاسات الثلاثة في
العراق.
لماذا ؟ لان نظرة موضوعية لكل ما يجري في العراق على المستوى
السياسي وإدارة السلطة وما يتفرع عنه من قضايا اجتماعية وإدارية ومالية
فان منبعها ومصبها هي الرئاسات الثلاثة: مجلس النواب، رئاسة الجمهورية،
رئاسة الوزراء!. فمشكلة العراق القديم والجديد في قياداته السياسية
والإدارية وليس في شعبه أو أمواله أو خططه أو علاقاته، بل في المتصرفين
في شؤونه والحاكمين فيه.
هذه الحقيقة يدركها الجميع بما فيهم القيادات ولكن بعض القيادات
لا تحمل نفسها المسؤولية وتحاول أن تلقي بها بأحضان القيادات الأخرى
الشريكة لها في السلطة كما يفعل مجلس النواب العراقي مع رئاسة الوزراء،
فهناك مغالطة سياسية اخترعها مجلس النواب وجاد لعبها بعض أعضائه وهي
تحميل مسؤولية كل المسائل السلبية ومعوقات التقدم والبناء على السلطة
التنفيذية خصوصا الحكومة وبالأخص رئيس الحكومة نفسه. وينأى أعضاء مجلس
النواب بأنفسهم عن تحمل المسؤولية وإلقائها كاملة في رقبة المالكي من
باب "خليه برأس عالم وأطلع منها سالم" وإذا كان هناك مبرر للكتل
البرلمانية التي لم تشترك في الحكومة والتمثيل الوزاري فان العذر يكون
قبيحا وقبيحا جدا لتلك الكتل التي اشتركت في الحكومة خصوصا إذا عرفنا
أن رئيس الوزراء العراقي ملزم بأخذ رأي مجلس الوزراء -يعني الوزراء-
بما فيهم نواب رئيس الوزراء في إقرار وتنفيذ الشؤون السياسية والإدارية
جميعا.
وبالتالي، كان من أنكى ما عرفته السياسية العراقية للأحزاب
البرلمانية أنها تلعب بورقتين: ورقة الحكومة وورقة المعارضة- أي رجل
هنا ورجل هناك بتعبير المالكي نفسه- فهي تمثل الحكومة المتفانية في
مبنى رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، وتحتل دور المعارضة الوطنية في
الإعلام والشارع العراقي في غياب كامل لأي معارضة سلمية من خارج السلطة
إلا لمم.
وهذه المغالطة السياسية المفضوحة لعبتها رئاسة الجمهورية أيضا،
ولكن بدرجة أقل وبنوايا متباينة، ولكن في النهاية ينتهي عمل رئاسة
الجمهورية إلى نفس النتيجة التي ينتهي إليها مجلس النواب وهي كسب
المزيد من التأييد الجماهيري في مقابل حكومة المالكي بل في مقابل
المالكي نفسه!!.
أما الحكومة العراقية التي تتمثل في رئاسة الوزراء فهي الأخرى
مشلولة في الأساس، وشللها لا يتعلق بالأفراد الحاكمين بقدر ما يتعلق
بالأسس السياسية والقانونية التي يتم على وفقها اختيار رئاسة الوزراء
ورئيس الوزراء، فهي أسس تكاد أن تكون ميتة فكيف بالنبت الذي ينبت
عليها؟
إذن نحن، شعب، ومؤسسات مجتمع مدني، وكتل سياسية آمنا بالنظام
السياسي الجديد بحاجة إلى إعادة النظر بالقواعد الدستورية والقانونية
والسياسية والإدارية وحتى الاجتماعية منها، تلك القواعد التي إذا بقيت
على حالها فستظل المحاصصة الطائفية والعنصرية، وتقاسم النفوذ، والفساد
المالي، والإدارات المترهلة، وسوف تبدد كل آمالنا في سلطة "ديمقراطية"
ونظام حكم تعددي وانتخابات حرة نزهة..
* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |