الوحدة اليمنية أنجاز أم حالة طارئة؟

 الحلقة الأولي

سامي الأخرس

لا تصاغ النهايات دون الاستناد إلي البدايات أو المقدمات، فالأخيرة هي التي تحدد الملامح الرئيسية للأولي، حيث تستند عليها وفق مؤشرات ودلالات يمكن استنتاجها من خلال عملية المزج بين ثلاث عوامل رئيسية يمكن الاستناد إليها كمرتكزات في عملية ال FEEDBACK  (التغذية الراجعة)، هذا المصطلح الذي يمكن مزجه بالواقع، والارتهان عليه في عملية الاستمتاع الإجمالية للمحلل والقارئ والمتأمل، وخاصة في عالمنا العربي الذي يتجاهل ذلك وفق طبيعة الثقافة المكتسبة التي تَعود أن يتعامل بها مع الإحداثيات العلمية.

 فالتغذية الراجعة أو ما يسمي بالمصطلح اللغوي الانجليزي Feedback يضعك أمام متعة ونشوة عميقة إن استطعت أن تعيد للعقل حيويته ونشاطه، وتجعله يذهب بعيداً في عملية مخاض طبيعي للماضي وإحداثياته، لتقاربه مع الحاضر الذي من خلالهما تبدأ ببناء وتأسيس قواعد المستقبل وفق عملية تنبؤ استقرائية شمولية ممنهجه، لم نطرق أبوابها بعد، أو لم نواكب متغيراتها وإحداثياتها العلمية نتيجة إملاء ثقافي قسري يفرض علينا أن ننحو دوما باتجاهه، والسير وفق مؤشر البوصلة أو الساعة الرملية الزمنية التي لم يتحرك مؤشرها للأمام بعد، يتراوح ويتأرجح بين الماضي وأحيانا ينتابه الحنين للحاضر، ولا زال يحمل جفاء نحو المستقبل، فعواطفه العاصفة تشكل حاجزاً مانعاً للمستقبل، يلقي بالورود الحمراء بعيداً عن حركته المنتظمة، فأتراسها التقليدية لم تؤثر بها عمليات التطور التكنولوجي، ولم تنساق للحركة التاريخية البشرية وفق تسلسل تطورها الطبيعي المتزامن مع عمليات ال feed back.

هذا الجانب الفلسفي في الشق الآخر من حياتنا سيدفع العديد من القراء للقول بملء ألفاه " هات من الأخر" وذلك لأننا لم نتعود على القراءة بعمق وتأمل وغادرنا الصبر منذ فترة طويلة، وعليه فدوما نجد عبارة " هات من الأخر" هي الأسهل والأيسر والأفضل لتستمر وتتواصل مع ثقافتنا التي شرعت لنا تردداتها لاستقبال تذبذباتها في لواقطنا الاعجازية المتكونة في خلايا المخ والدماغ، والتي لا تجيد سوي عملية الالتقاط، والترجمة الجاهزة، رافضة لعمليات التحليل والرصد والتتبع ومن ثم التنبؤ.

 فالحالة ليست فردية شاذة عن القاعدة العامة، وليست عبثية غير متكررة، وإنما هي حالة أخذت شكل الظاهرة، والعمومية في آليات التفكير والعمل، والبناء، ولا أبالغ إن قلت عملية منهجية وديمومة اقتحمت كل مجالات حياتنا، وأصبحت أحد العوامل المًشكلة في النهج الحياتي والتي تصيغ لنا توجهاتنا.

فعملية التغذية الراجعة الfeed back  المقصودة هنا هي عملية الاستمتاع والمتعة التي تفرض علينا أحيانا البحث عنها، والتوقف أمامها لكي نستطيع الترفيه النفسي والثقافي عن أنفسنا التي أصابها الشقاء والكلل من الوجبات الجاهزة والسريعة، والتي لا زالت تضع قدمها عند رأسها، وتبول مكان ما تتناول طعامها، وذلك ليس تجني على هذه الأمة العربية التي يعتبر الانتماء لها شهادة فخر نحملها معنا منذ أن نستقبل أولي نبضات الحياة، وإنما هي من باب الألم والآسي على ما به هذه الأمة من حال، فهناك من يجد في العظماء الذين يستقبلوا الدنيا بالبكاء ومن حولهم يضحك ويبتسم ويفارقوا بالابتسام ومن حولهم يبكي، وهذا قمة الانتصار الذي يمكن أن يحققه المرء في السلم التدريجي لرحلة حياته من صرخة الميلاد حتى ابتسامة الوداع الأخير.

وحتى نقتحم عملية التغذية الراجعة التي نحن بصددها والابتعاد عن الروحانيات (والكهنوت) –إن جاز التعبير – لا بد وأن نصوغ ملامح ومعالم القاعدة التي يجب أن ننطلق منها دوما في كيفية  الترويح والترفيه عن الذات، والتخلي عن التكلس الثقافي الذي طمس معالم الإبداع التي شكلت لدينا معلم حضاري في زمن غابر لا زال ماثلا أمام أعيننا حتى كتابة هذه المقدمة الفلسفية التي يبحث القارئ عن سبب منطقي وواقعي لها، مترقبا بابتسامة غيظ عما يريده الكاتب، ومستعجلا الغيث من الفكرة، وأن يصل للزبد، والطرف الأخر يتنبأ بجملة توقعات للقادم في هذا المقال الذي تورط به وقرأ بداياته أو عنوانه فأخذه الفضول لاستكماله، فوجد نفسه منتقلا من سطر لأخر دون أن يفهم لأين سيصل به نهاية المطاف. ولسان حاله يقول وبعد.

فالتاريخ شيء هام، وفصوله تعتبر وجبه روحانية – ثقافية لا بد وأن يتناولها كل امرئ على وجه الجغرافيا المتكورة أو البيضاوية، فهو الزاد الذي لا يمكن أن نملئ منه أمعائنا والماء الذي لا نرتوي منه أبداً. ولذلك وجدت أن اقتحم أحدي بقاعه الواقعة علي الخريطة العربية، هذه الخريطة التي أعيد صياغتها بألوان مغايره للألوان التي لا زالت تتكرر على مسامعنا في كتب التاريخ التي درسناها في المراحل الدراسية المختلفة والتي حاول واضعوها رسم مستقبل مشيد على قواعد الماضي وإرثه البعيد.

لا أدرك حقيقة ما حدث لي فجأة حيث تغلغلت لأعماقي مشاعر الملل، والضجر، والقنوط، وضيق الخلق، وعصبية المزاج فاتخذت قرار لم أتمني في يوم أو لحظة أن أتخذه، ولو خيروني ألف مرة حتما لم ولن أتخذه، ولكنني قررت أن أسير معه، وفجأة اقتحمت  أحد الأماكن السيئة في نفسي، والتي ينبع سوئها من غلاظه الأفكار التي تسمعها، اخترت أحد مواقع الحوارات العربية ذات الطابع السياسي، وبدأت بتلقائية صوب موقع للشباب اليمني دون أي دوافع مسبقة أو تعمد في الاختيار، فوجدت نفسي أجلس مستمعا بأدب وصمت وهدوء لما يتناوله هذا الشباب من حوار، ومن حسن الحظ أو سوء الحظ لا أعلم كان موضوع الحوار قضية في غاية الأهمية والحيوية، والتي تتعلق ليس بمصير اليمن لوحدة فقط، وإنما بمصير الأمة، بل وهي محور يحدد مستقبل الأمة سواء علي صعيدها القطري اليمني أو القومي العربي، وقبل الخوض والتعمق في جدلية الحوار السياسي الحماسي الذي كان يطغو بوتيرة مشتعلة بين هؤلاء الشباب لا بد من وقفة موجزة أمام لمحة عن منجزات الأمة  العربية وإخفاقاتها في التاريخ الحديث.

هذه الوقفة التي تعبر ضرورية في الموضوع الذي سنطرقه لاحقا.

بدأ القرن الماضي ( العشرين) بانتكاسات وهزائم مؤثرة جدا في التاريخ العربي، لا زلنا نعيش آثارها وتوابعها، وألقت بظلالها علي حاضر ومستقبل أمتنا العربية وعلي مستوي الفكر العربي عامة، هذه الانعكاسات أخذت شكلين :أولهما حالة التقسيم التي فرضت من القوي الاستعمارية وأصبحت واقعا لا بد من الاعتراف به، وتحويل الوطن العربي لأقطار ضعيفة واهنة، لا تمتلك من مقومات البقاء والاستمرار والنهوض سوي الاسم فقط، وثانيهما ضياع فلسطين وتحقيق الحلم اليهودي بإقامة وطنهم المزعوم التي خططت له الحركة الصهيونية العالمية.

هاتين الانتكاستين أذابتا معظم المنجزات التي شهدها القرن العشرين والتي إن تم البحث عنها وسط الهزائم المتتالية فلن نجد سوي " الوحدة اليمنية " المنجز الأهم والحقيقي الذي يمكن رصده وتحليله، كأحد المنجزات التاريخية والذي لا زال قابلا للنجاح والاستمرار.

وإن كان القرن العشرين بدأ بانتكاسات وهزائم فظة فأنها عمليا قادتنا لعملية ميلاد قسرية لنفس البدايات التي حملها القرن الحالي "الواحد والعشرون " وكأنها عملية لا بد وأن نعيشها مع بدايات كل قرن، منتجة لنا أيضا انتكاسات وهزائم تحمل نفس البصمات،  فزادت حدة التقسيم للمقسم والمجزئ، وها نحن نتابع آليات تقسيم السودان لثلاث دول، ولبنان لدولتين، والصومال، والعراق الذي ضاع كما ضاعت فلسطين.

فالملامح لبدايات القرنين واحدة تتمثل في التقسيم الشامل والمخطط والممنهج المتكامل، وضياع فلسطين والعراق.

وعودة علي مجمل الحوار الذي استمعت له من حوارية الشباب اليمني الذي كان حواره عبارة عن معركة شجاعة لم أشهدها بكتب التاريخ التي صورت لنا شجاعة عنترة بن شداد، فهذه الحماسة والشجاعة أنصبت كلها في اتجاه الانفصال، وضرورة وحتمية- مع التأكيد – علي حتمية خوض عملية التحرير من براثن الوحدة. وأي وحدة التي يريدون التحرر منها؟

هذه الحالة التي عشتها خلال ثلاث ساعات من الاستماع والتركيز أكدت أن هناك هجمة وحملة شديدة الضراوة يتم نسجها وشرعنتها من خلال فيروس يصيب عقولنا العربية، وخاصة فئة الشباب المتحمس المندفع خلف الشعارات البراقة الساحرة، عنوانها التلقين وتحويل الآدمي إلي أداة تحقق أطماع مشبوهة، وأن الفكر الاستعماري لا زال يغزو عقول أجيالنا مستغلا الحيز الهامشي الذي خلقته حالة اليأس والإحباط من الواقع الحالي.

في الوقت الذي عاشت به الأمة العربية وهي تناضل من أجل الوحدة الهدف الأسمى لإعادة الكرامة، والخروج من حصار الهزيمة، والنجاة من مخالب الاستعمار، هناك من لا يزال يريد الانفصال وتكريس الانقسام والتبعية والتشرذم، وإحقاقا للحق وحتى لا تتجني علي الشباب اليمني فهذه الهواجس الفكرية منغرسة في عقول جميع العرب وبمختلف جنسياتهم، وبين فئات وقطاعات واسعة من شباب العولمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 24 شباط/2008 - 16/صفر/1429