قراءة في كتاب: الركض وراء الذئاب

الكتاب:الركض وراء الذئاب

تاليف: علي بدر

الناشر:المؤسسة العربية للدراسات والنشر

عرض: سيلفانا الخوري- بيروت

 

 

 

 

 

 

 

 


شبكة النبأ: "كيف تحوّل الثوار من موقع الثورة الى موقع المقهى؟ كيف تقاعدوا؟". على هذا السؤال المفصلي يبني العراقي علي بدر روايته الاخيرة الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالعنوان الجميل والموحي "الركض وراء الذئاب".

 تشكل هذه الرواية محاولة راديكالية لنسف الفكر الثوري الذي استبد في منتصف القرن الفائت بأجيال كاملة تركت كل شيء وسارت خلف الحلم بتغيير العالم، قبل ان تنتهي بها الحال في المقاهي تجترّ مصطلحات بائدة. يروي بدر الخيبة والمرارة والتهشّم الداخلي، فاضحاً جيلاً كاملاً من الثوار والثوريين، ومحطّماً ليس فقط أسطورة الثوار العراقيين الذين ينطلق بطله بحثاً عنهم في أفريقيا، بل الأسطورة الثورية كاملةً بيوتوبياتها المخذولة. كالذئب ينقضّ على شخصياته، يعرّيهم من أوهامهم، وهماً وهماً، ومن دون أن يترك لهم حتى فرصة الدفاع عن أنفسهم، يفرغ فيهم علي بدر رصاصاته القاتلة على شكل تهكّم ماكر ولئيم.

ينجح علي بدر في صفحات الرواية الـ 169 في تقديم صورة عن تناقضات العالم الراهن وفراغه اليوتوبي، حيث صار "أتباع غيفارا وهوشي منه وتروتسكي في ما مضى، هم أتباع ليو شتراوس ومايكل ليدن ووليم كريستول اليوم"، وحيث "المحافظون الجدد هم ثوار العصر الجديد بعدما تقاعد الثوار وجلسوا في المقاهي"، بتعبير بطله. لوهلة، قد يشعر القارئ انه ازاء كاتبٍ عجول، يبني روايته على بورتريهات وخطوط سردية عريضة ثم "يدلق" في هذا الوعاء أفكاره وآراءه بتنويعاتها المختلفة. أفكار يعرف كيف يقوم بتعليبها وتقديمها على شكل استعارات بليغة تهمّش أحياناً تعقيدات الحقيقة لصالح ابتكارية في الصورة تمنع التنويع من ان يكون اجترارياً. إلا أن ما ينقذ الرواية من ان تتحول إلى مرافعة طويلة ذات نبرة خطابية مرهقة، هو هذا المكر الذي نستطيع ان نشتمّه من بين السطور التي تواري، خلف الخيبة حيناً، والغنائية الكاذبة في حين آخر، تهكماً ساماً ولؤماً هداماً يجعلان إمكان ترميم الدمار الذي يحدثانه عملاً شبه مستحيل.

قد يبدو النص مثل ثور هائج يحطّم كل ما في طريقه في شكل أعمى. لكن شيئاً فشيئاً يتبيّن ان هذا الهيجان نفسه مخطَّط له، ويدرك وجهته جيداً، ويعرف كيف يتحوّل الى ما يشبه نشيداً هجائياً طويلاً يتقنّع بغنائية ماكرة: "الثورة هي الشعور بالتحليق الكامل. الشعور بالاخوّة العالمية والتصالح مع الاشجار والحيوانات. الثورة هي العلم الاحمر وهو يرتفع عالياً على منازل القش في القارة السوداء. ربما تسكر طويلاً وانت تغازل افريقية في عتمة الحانات، لكنك عظيم حتى لو لم تملك فلساً واحداً. العظمة في النساء اللواتي يجادلن حول فائض القيمة. في السود الذين يصنعون الحقيقة ويكشفون الكذبة اللعينة في التاريخ.

من خلال بطله العراقي الذي يعيش في اميركا منذ 25 عاماً تحت اسم مستعار هو جورج باركر، يقدّم الكاتب نموذج الشخصية الفصامية المعاصرة، المتأرجحة بين ماضٍ يساري وحاضر يحكمه المحافظون الجدد. فلنسمعه يعرّف عن نفسه: "انا رجل قديم، قادم من الشرق الاوسط، اعيش هنا في نيويورك، متزوج من امرأة اميركية، واخونها مع مهاجرة بولونية، ولديَّ اولاد اميركيون طيبون، لا يعرفون شيئاً عن الشرق الاوسط ومشاكله، كنتُ مؤمناً باليسار، وبالحركات الثورية، ومتعاطفاً مع القضية الفلسطينية ومع الاستقلال، واعمل في شركة اميركية يملكها مردوخ، اكبر كارتل صحافي هنا في الغرب. انا يساري من الداخل ولكني مؤمن بالديموقراطية وبحقوق الانسان مثل اكثر الغربيين، يميني في الوكالة ومنفتح مع عائلتي جداً، لم اكن يوماً ضد الحداثة او معادياً للغرب، كنتُ اقول في نفسي لم يكن ليو شتراوس على خطأ قط، لم يكن مخطئاً حين قال ان الديموقراطية يمكن تعميمها على العالم كله بالقوة".

لا تعكس هذه الازدواجية التي نستشفّها من كلام البطل ومن أسلوب عيشه، نفاقاً خبيثاً، بقدر ما هي مآلٌ تراجيدي نتيجة محاولة التوفيق بين التناقضات التي ينبني عليها واقعه. فهو من ناحية لا ينفك يحاول تأكيد انتمائه الاميركي مستخدماً "نحن" كلما اراد الحديث عن الاميركيين، ومكرراً عنوان منزله في "الدرب السادس جنوب هيوستن" مثل لازمة مضنية، كما لو ليرسّخ على الأقلّ لفظياً هذا الانتماء المستعار على غرار اسمه. من ناحية ثانية، نراه غير قادر على التوفيق تماماً بين متطلبات العائلة الاميركية المعاصرة وجذوره "الشرق اوسطية". سريعاً ما سنتبيّن هشاشة وضعه وانتماءاته لتتشكّل صورتان على طرفي نقيض لعالمين وفكرين وثقافتين و"موقعين" يتحقق بينهما فصامه ويتأكّد.

هو فصام سيظل البطل قادراً على "ادارته"، اذا جاز التعبير، بالحد الادنى، الى الوقت الذي سترسله فيه وكالة الاخبار التي يعمل فيها الى أديس أبابا لكتابة تقرير عن الثوار العراقيين الذين غادروا بغداد في السبعينات للالتحاق بالثورة العالمية ضد المصالح الغربية والشركات الكبرى: جبر سالم، الصحافي الثوري المتأثر بريجيس دوبريه، أحمد سعيد الثوري العقائدي وميسون عبد الله رفيقته وحبيبته ذات المسيرة النضالية الذائعة الصيت. ثلاثة اشخاص، او شخصيات بالاحرى، استقرت بهم الحال منذ ثلاثين عاماً في اديس ابابا بعد وصول منغستو الى السلطة.

في بحثه عن هذه الايقونات الثورية الثلاث، سيجد البطل كل افريقيا ما بعد الثورة: خليط متفجر من الفقر والفساد والاحقاد الاثنية وبقايا حداثة غربية، فيما العملاق الغربي مستمر في امتصاص دمائها السوداء. سيلتقي ثواراً متقاعدين، كل شيء فيهم يفضح "الطريقة التي يتعفّن فيها الثوري بعد سقوط الثورة"، ومثقفين تحولت الثورة معهم الى اجترارات لفظية وكليشيهات متعفنة ومصطلحات بائدة. "اين الثورة؟"، سيظل يتساءل طوال رحلته، كأنه يتحدث عن كائن من لحم ودم. لكنه لن يجد لا ثورة ولا ثواراً ولا من يثورون، بل قارة غارقة في ظلام لا مخرج منه، باتت اليوم "مثل امرأة سوداء تحمل شوالاً ضخماً مكتظاً بأحذية من البلاستيك الرخيص، على مقربة منها شحاذ يحتضر.

لهؤلاء الذين عصفت بهم ذات يوم افكار الثورة الاممية، يحقق الكاتب حلمهم بأن يكونوا ابطالاً، لكن من على المقلب الآخر للبطولة. يجعل منهم ابطالاً مضادين، عبثيين، مهزومين، واهمين، مجموعة من "السكارى والقوّادين والعاهرات" وأشباه المثقفين الذين ينتمون الى لا مكان ويقبعون خارج الزمن يجترّون خيباتهم. لا يكتفي بهذا المَسخ الذي يمارسه عليهم، بل تصل به الحال الى حد نفيهم وإلغائهم. وقد يكون عدم تمكّن بطل الرواية من العثور على أحمد سعيد وميسون عبد الله رمزاً لهذا الوجود السرابي، وكأن بدر لا يريد ان يمنّ عليهم حتى بحضور مورفولوجي. واذا حضروا، على غرار جبر سالم، تبيّن انهم مسكونون بالخذلان والمرارة وقد اكتشفوا انهم خُدعوا، وانهم وقعوا ضحايا انسحارهم بصور سينمائية وشعرية لثوار ينكشون شعورهم ويلبسون الملابس الكاكية ويقرأون الكتب الحمراء ويحلمون "بالثورة الدائمة، بالفوضى والارباك الذي يمكننا ان نصنعه للامبريالية والكولونيالية والبورجوازية والاقطاع".

أو كانوا على صورة جمال وحيد، الشيوعي السابق الذي خرج من سجون صدام حسين في الثمانينات بعدما وشى برفاقه لأنه لم يحتمل التعذيب، ليصير اليوم صائد ذئاب في أديس أبابا: "هربت من الذئاب وها انا اطارد الذئاب"، يقول عن نفسه، بينما يحاول مداراة فوضاه وحطامه الداخليين خلف مظهر لامع، تعكسه النظافة والترتيب والتقشف في منزله، وادعاؤه العمل مع منظمة اوروبية لمطاردة العصابات التي تلاحق الحيوانات من اجل جلودها.

الا ان إمعان الكاتب في تهشيم شخصياته يبلغ لحظاته القصوى في المشهد المتخيَّل الذي يضمّنه البطل تقريره عن لقائه الذي لم يحصل مع أحمد سعيد وميسون عبد الله. وهو مشهد تراجيدي من فرط كاريكاتوريته، يأتي لينسف الاسطورة بكاملها. اما بطله، فيتركه في الصفحات الاخيرة يحكي ويحكي ويحكي، مفرغاً الخيبة والارباك اللذين عاد بهما من رحلته الافريقية، بحيث يمّحي وجود صديقته البولونية تماماً أمامه لولا بعض العبارات المعترضة التي تنقذ كلامه من شبهة المونولوغ. يتركه ينقض كل شيء، الثورة وما بعد الثورة وما بعدهما معاً، اليساريين والرأسماليين والمحافظين والمتدينين... فلا يبقى في النهاية الا نوع من الفوضوية الكلامية سيظل يحاول ترتيب معطياتها المتناقضة قبل ان ترسو على مشهد صورة سياحية وفولكلورية لا تخلو من بعد داعر: صورة فوتوغرافية عاد بها من افريقيا، تريه واقفاً ومبتسماً وحوله عشرون امرأة وطفلاً من مشوَّهي الحرب الاهلية، قرّرت زوجته تأطيرها وتعليقها على جدار منزلهما الاميركي.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7 شباط/2008 - 29/محرم/1429