إن التطور التاريخي للمجتمعات، الذي قادنا إلى ظهور الدولة
الحديثة، يؤشر لنا إن الخط البياني له يتناغم ويتفاعل طرديا مع إمكانية
ممارسة الحريات وتوفير وسائل ضمانها وصيانتها، ثم ظهرت النظريات
والأفكار المختلفة والتي تتقاطع فيما بينها أحيانا في مفهوم تجاه
الحريات الفردية والاجتماعية، لكنها دائما تؤكد على أن المجتمعات
المتطورة هي التي تتمسك بأهداب القانون.
وهكذا استمر المنوال حتى ظهور مبدأ الفصل بين السلطات وأصبح معيار
تقاس بموجبه البلدان الديمقراطية والمتمدنة وفسر هذا المبدأ على وفق
الآراء والأفكار المختلفة والمتباينة حسب مشرب كل فريق من الفرقاء،
وهذا المبدأ بمجمله يسعى إلى أن تكون السلطات مستقلة بعضها عن الآخر
لضمان عدم ظهور الاستبداد الطبقي او الفردي الذي كان موجود في العصور
السابقة.
وهو مبدأ تأسس على أساس الفصل في الصلاحيات والتعاون في الأداء
المشترك بين السلطات التي قسمها الفقهاء القانون الدستوري إلى تشريعيه
وتنفيذية وقضائية.وكل هذه السلطات وسواها على وفق تصنيفات أخرى تعمل
ضمن منظومة واحدة تسمى الدولة ولا يمكن تصور عمل سلطة دون وجود الأخرى،
فالسلطة التشريعية تتولى مهمة سن القوانين وتشريعها التي تنضم الحياة
بكل سياقاتها ومن ثم تعمل السلطة التنفيذية على إدارة شؤون الدولة على
وفق هذه القوانين، ويكون دور السلطة القضائية في صيانة الحقوق التي
أقرتها هذه القوانين من خلال الأحكام القضائية التي تصدرها حينما تعرض
عليها دعاوى المواطنين الذين يظنون بان حقوقهم التي أقرتها القوانين قد
خرقت سواء كان الخرق من الحكومة او من المواطن على حد سواء.
وهذا يدل على ان دور السلطة القضائية مكمل لعمل السلطة التشريعية،
إذ لولا هذا العمل لما احترمت القوانين التي يسنها مجلس النواب ممثل
السلطة التشريعية الذي سيؤدي حتما إلى انهيار مفهوم الدولة الحديثة
والعودة إلى العصور المظلمة بنواميس وشرائع الغاب. لذلك فان من أهم
مهام مجلس النواب هو العمل والسعي لضمان ودعم استقلال القضاء وهذا
الدعم لا يكون بضمانات وحصانات تقدم للأسرة القضائية فحسب بل انه يمثل
دعم لضمانات المواطن في الحفاظ على وجوده وكينونته وأسرته ومن ثم
الحفاظ على الدولة برمتها.
ودعم استقلال السلطة القضائية يأتي من خلال وسائل عديدة منها
الحماية الدستورية والشعبية والشخصية، فالحماية الدستورية تتوفر في ما
نص عليه الدستور من مبادئ توكد على استقلال القضاء، والحماية الشعبية
هي الأيمان الشعبي والقناعة لدى المواطن بان القضاء مستقل ولا سلطان
عليه إلا القانون، والحماية الشخصية المتمثلة بتقديم كل الدعم للأسرة
القضائية لضمان هيبة القضاء.
أما الحماية الجزائية وهي محور هذا الطرح، او ما تسمى بالحماية
التشريعية فإنها تتمثل بإصدار القوانين التي تتضمن دعم استقلال القضاء،
ولمجلس النواب الدور المتفرد في هذا المساق، لأنه صاحب السلطة
التشريعية في البلد.
ومن خلال ما تقدم نرى إن التفاعل بين السلطات هو ما يعزز قيام
الدولة الديمقراطية الحديثة المؤمنة بحقوق الإنسان، لكن ما يحصل أحيان
تقاطع بين السلطات من قبل الأفراد الذين يعملون فيها، ومنها أن يمتنع
الموظف الحكومي عن تنفيذ قرار أو حكم صادر من محكمة مختصة قد اكتسب
درجة البتات، وهذا الحكم يعطي حقا لأحد المتخاصمين ويلزم الآخر بأداء
عمل معين لمصلحة الطرف الرابح للدعوى، أو يكون الحكم قد صدر برد دعوى
أقامتها الحكومة إلا أن الموظف يمتنع من تنفيذ هذا الحكم، فان هذا
الامتناع عن تنفيذ الأحكام يكون قد عطل عمل السلطة القضائية، الذي
سينعكس أثرا سلبيا لدى المواطن بان قرارات القضاء لا فائدة منها و
بالتالي سيلجأ إلى وسائل أخرى غير مشروعة تقود إلى الانحراف وانتشار
الجريمة في المجتمع.
وهذا الواقع لم يغفل عنه المشرع العراقي مثل بقية التشريعات العربية
والعالمية، اذ نص في قانون العقوبات على تجريم فعل الامتناع عن تنفيذ
قرارات وأحكام القضاء وفرض عقوبات تصل إلى الحبس لمدة لا تزيد على
سنتين لمن لا ينفذ هذه الأحكام القضائية ومنها ما ورد في نص المادة 329
من قانون العقوبات العراقي في رقم 111 لسنة 1969 المعدل ونصها كما يلي:
(1 – يعاقب بالحبس وبالغرامة او باحدى هاتين العقوبتين كل موظف او
مكلف بخدمة امة استغل وظيفته في وقف او تعطيل تنفيذ الاوامر الصادرة من
الحكومة او احكام القوانين والانظمة او اي حكم او امر صادر من احدى
المحاكم او اية سلطة عامة مختصة او في تأخير تحصيل الاموال او الرسوم
ونحوها المقررة قانونا.
2 – يعاقب بالعقوبة ذاتها كل موظف او مكلف بخدمة عامة امتنع عن
تنفيذ حكم او امر صادر من احدى المحاكم او من اية سلطة عامة مختصة بعد
مضي ثمانية أيام من إنذاره رسميا بالتنفيذ متى كان تنفيذ الحكم أو
الأمر داخلا في اختصاصه.) لكن الملاحظ على هذا النص انه لا يغطي الحاجة
إلى وجود رادع للموظف الممتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية، حيث لم نجد
في التطبيق العملي أي وزارة شددت العقوبة على موظفها الذي يمتنع عن
تنفيذ الأحكام القضائية المكتسبة للدرجة القطعية، وعند النظر إلى ما
موجود في قوانين للبلدان المحيطة بالعراق نجد أن قانون العقوبات المصري
رقم( 58 ) لسنة( 1937 ) المعدل قد حدد عقوبة العزل من الوظيفة
بالإضافة إلى العقوبات الأخرى بحق كل من يمتنع عن تنفيذ الأحكام
القضائية على وفق الآلية التي حددتها نصوص ذلك القانون ومنها ما ورد في
نص المادة (123) عقوبات مصري ونصها ما يلي: ((يعاقب بالحبس والعزل كل
موظف عمومي استعمل سلطه وظيفته في وقف تنفيذ الأوامر الصادرة من
الحكومة أو أحكام القوانين و اللوائح أو تأخير تحصيل الأموال والرسوم
أو وقف تنفيذ حكم أوامر صادر من المحكمة أو من أية جهة مختصة,كذلك
يعاقب بالحبس والعزل كل موظف عمومي امتنع عمدا عن تنفيذ حكم أو أمر مما
ذكر بعد مضى ثمانية أيام من إنذاره على يد محضر إذا كان تنفيذ الحكم أو
الأمر داخلا في اختصاص الموظف)).
لذلك أرى أن يعدل نص قانون العقوبات وان يكون التعديل هو في نص
المادة 96 عقوبات بان تضاف فقرة إليها تنص على ما يلي :-
(كل من حكم بالإدانة على وفق إحكام الفقرة (2) من المادة 329 عقوبات
يتبعه الحكم بالعزل من الوظيفة.) حيث إن العقوبات الأصلية قد حددتها
المادة 85 عقوبات التي وردت على سبيل الحصر لذا فان عقوبة العزل لا
يمكن إيرادها ضمن العقوبات الأصلية التي أشارت إليها المادة 329
عقوبات كما أن العقوبات التبعية المشار إليها في المواد 95-98 لم يرد
فيها ذكر لعقوبة العزل وإنما وردت إشارة إلى حرمان المحكوم بعقوبة
السجن المؤبد او المؤقت يتبعه الحكم بحرمانه من بعض الحقوق والمزايا
ومنها عدم توليه الوظائف والخدمات التي كان يتولاها لكن ضمن فترة قضائه
للعقوبة وتنتهي بإخلاء سبيله من التوقيف على وفق أحكام المادة 96
عقوبات.
أما العقوبات التكميلية فإنها وردت في المواد (100-102) إذ ورد في
نص المادة (100) عقوبات منح المحكمة سلطة جوازية عند الحكم بالسجن
المؤبد او المؤقت او الحبس لمدة تزيد على سنة ولها ان تحكم بحرمان
المحكوم من بعض المزايا والحقوق لمدة لا تزيد على سنتين من تاريخ
انتهاء تنفيذ العقوبة ومن قبيل ذلك ما ورد في الفقرة (1) من المادة
(100) عقوبات التي تنص على الحرمان من تولي بعض الوظائف والخدمات
العامة وان يحدد ما هو محرم عليه.
وفي كل العقوبات التي ورد ذكرها لا توجد اشارة إلى عقوبة العزل
النهائي التي هي تنحية الموظف من وظيفته بشكل نهائي على وفق ما عرفته
أحكام الفقرة ثامنا من المادة ثامنا من قانون انضباط موظفي الدولة رقم
14 لسنة 1991 المعدل كما يلي ( العزل : ويكون بتنحية الموظف عن الوظيفة
نهائيا ولا تجوز إعادة توظيفه في دوائر الدولة والقطاع الاشتراكي، وذلك
بقرار مسبب من الوزير في إحدى الحالات الآتية :
ا- اذا ثبت ارتكابه فعلا خطيرا يجعل بقائه في خدمة الدولة مضرا
بالمصلحة العامة.
ب- اذا حكم عليه عن جناية ناشئة عن وظيفته او ارتكبها بصفته
الرسمية.
ج- اذا عوقب بالفصل ثم اعيد توظيفه فارتكب فعلا يستوجب الفصل مرة
اخرى.) وفي هذه الحالة الأمر متروك للوزير وليس للقضاء وان يكون
التعديل هو نص المادة 96 عقوبات بان تضاف فقرة إليها تنص على ما يلي :-
(كل من حكم بالإدانة على وفق إحكام الفقرة (2) من المادة 329 عقوبات
يتبعه الحكم بالعزل من الوظيفة.) كما أرى تعديل الفقرة (2) من المادة
329 عقوبات ورفع العقوبة إلى مدة لا تزيد على سبع سنوات وجعل نصها كما
يلي يعدل نص الفقرة (2) من المادة 329 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة
1969 المعدل وتقرأ على الوجه التالي (2 – يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على
سبع سنوات كل موظف او مكلف بخدمة عامة امتنع عن تنفيذ حكم او امر صادر
من احدى المحاكم او من اية سلطة عامة مختصة بعد مضي ثمانية أيام من
إنذاره رسميا بالتنفيذ متى كان تنفيذ الحكم او الامر داخلا في
اختصاصه)، وذلك لضمان أن تكون عقوبة العزل تتبع حكم صادر من محكمة
جنايات وليس جنحة وكذلك حتى يتاح للمحكوم من الطعن أمام محكمة التمييز
وليس أمام الاستئناف لان عقوبة العزل عقوبة مهمة جداً وقاسية وتحتاج
إلى توفر ضمانات كافية للمتهم.
ومما تقدم فان لمجلس النواب دور كبير في دعم استقلال القضاء لان
السلطة التشريعية هي الشقيق التؤام للسلطة القضائية وعملهم متكامل
بالإضافة إلى سلطته الرقابية على عمل الحكومة او السلطة التنفيذية لكن
هذه الرقابة لا يكمن لها أن تكون فعالة ما لم يكن هناك قضاء مستقل يطبق
القانون بحق الذين يخرقون القانون ومن الذين شخصهم مجلس النواب من خلال
ممارسة السلطة الرقابة.
وفي الختام أدعو مجلس النواب إلى المبادرة لممارسة دوره ودعم
استقلال القضاء من خلال سن التشريعات التي تضمن استقلاله ومبادئه او
تعديل القائم منها. |