صناعة القرار في إيران: الجميع و.. لا أحد

إعداد:علي الطالقاني*

 شبكة النبأ: تلعب السياسة الإيرانية دورا هاما وكبيرا في الشرق الاوسط وهذا بطبيعة الحال جعل الاهتمام  بهذا  البلد أمرا إستراتيجيا مما يستدعي عناية مراكز الدراسات والبحوث في أن تقدم مختلف التحليلات حول الشؤون الداخلية والخارجية لإيران باعتبارها دولة تمتلك قوة كبيرة وأسلحة خطيرة، تهدد أمن العالم، حسب قول المحللين وكبار السياسيين الغربيين الذين يطمحون يوما بعد آخر أن يجدوا حلا يستأصلون من خلاله هذه المخاطر. وتلعب الشؤون الإيرانية الداخلية دورا لا يقل أهمية من حيث استمرار الحكم على نهج متماسك من خلال قادة معينين يصنعون القرار ويضعون الخطوط الخضراء والحُمر.

ألية صنع القرار الإيراني

إن دراسة صنع القرار في إيران عملية معقدة للغاية، بل أن هناك من الصعوبات ما يجعل من دراسة النظام السياسي الإيراني تحدياً حقيقياً، للمتخصص بالنظم السياسية. فالنظام الإيراني شديد الخصوصية، ولكل نظام خصوصيته، ولكن هذه الخصوصية تزداد مساحتها في الحالة الإيرانية بحيث يندر أن تتقارب مع حالة أخرى لدولة نامية أو غير نامية. وهي خصوصية تظهر على مستوى المؤسسات والسياسات والخطاب السياسي كافة.

ويحكم القرار الإيراني الشعور الدائم بالتهديد نتيجة العبء الاستراتيجي الذي يثقل كاهل إيران لأسباب عديدة، كما يمكن القول بان السلطة الإيرانية لا تتردد في استخدام القوة بصورة تصادمية لحل مشاكلها الداخلية والخارجية. وفي ذلك لا تعير المجتمع الدولي أي اعتبار وخير مثال على ذلك الحرب العراقية الإيرانية التي وافق العراق على وقفها منذ العام الأول لنشوبها بينما رفضت إيران، حيث أن لدى صناع القرار الإيرانيين قناعة بقدرتهم على الاحتمال، وثمة من يقول في هذا السياق، بأن النخب الإيرانية السياسية والفكرية والدينية عموما، استطاعت أن تحول تجربتها في الـ 25 سنة الماضية الى شكل من أشكال العمل المؤسسي غير القابل للهدم والتخريب تحت وطأة التحديات الخارجية من جهة، لكنه القادر على افراز بدائل داخلية متنوعة كفيلة بمنع التكلس كما الانفجار من جهة اخرى.

أما كيف يصنع القرار داخل إيران بشكل عام والقرار النووي بشكل خاص فيقول السفير الإيراني إن السياسة الإيرانية تصنع من قبل المسئولين المكلفين وبالتشاور مع المجالس الموجودة، مثل مجلس الشورى الإسلامي والمجلس الأعلى للأمن القومي و القائد الأعلى مرشد الثورة، بحيث تضمن تحقيق المصالح القومية للبلد. ومنذ27 سنة وهذه الآلية ثابتة وموجودة في صناعة القرار منذ حصول الثورة الإسلامية.

و فيما يخص قرار الملف النووي الإيراني فهو ككل القرارات الهامة تطرح في المجلس الأعلى للأمن القومي، ومن ثم في مجلس الشورى الإسلامي، و يصاغ القرار بشكل جماعي.،لكن صاحب القرار الحاسم هو مجلس الشورى.، لكن لو افترضنا أن المجلس الأعلى للأمن القومي قرر شيء ومجلس الشورى قال بشيء آخر، ومصلحة تشخيص النظام قالت شيئاً مختلفاً، حينها يرجع القرار حينئذٍ لمجلس تشخيص مصلحة النظام ويقدم القرار للقائد المرشد الأعلى.

و يضم مجلس الأمن القومي في عضويته عدد كبير من المسئولين الإيرانيين وبعض الوزراء ورئيس الجمهورية وعدد من أصحاب الاختصاص بحسب الموضوع المطروح، ويكون هناك أعضاء بصورة مؤقتة وأعضاء دائمين، ويكون القرار جماعيا. أما فيما يخص الملف النووي ضمن مجلس الأمن القومي فهناك لجنة خاصة بالموضوع من الأخصائيين وبمشاركة الجهات المعنية في الخارجية الإيرانية، ومجلس الأمن القومي ومجلس الشورى.

ومثل أي نظام سياسي لا يعيش النظام الإيراني في فراغ، لكنه يتحرك في إطار بيئة داخلية وأخرى خارجية، تدفع إليه بيئته بشقيها، بمتغيرات تؤثر في مضمون عملية صنع القرار واتجاهاتها الرئيسية، كما تؤثر في أدوار الأطراف الفاعلة، وفي تطور هذه الأدوار من مرحلة إلى أخرى بل من قرار إلى آخر،

نظرية الخميني

ان مشكلة ايران المزمنة تكمن في طبيعة نظامها السياسي الذي احكمت مداخله ومخارجه بدقة منذ ان كان آية الله الخميني مرشدا للجمهورية الاسلامية الايرانية. فانطلاقا من نظرية الخميني الخاصة بولاية الفقيه حصرت الصلاحيات الاساسية بيد المرشد الروحي للجمهورية، وهذا الموقع شغله الخميني سابقا، وخلفه فيه علي خامنئي. من هنا فإن الكلمة الاخيرة في أية قضية تكون موضع خلاف السلطات الايرانية سيكون لخامنئي فيها القول الفصل. ولان المؤسسة الايرانية المتشددة تدعم هذه التوجهات، فان موقع اي رئيس جمهورية اصلاحي سيكون ضعيفا، امام تشدد الزعيم الروحي والجماعات الموالية له وفي مقدمتهم رجال المؤسسة الدينية والقضاء بالاضافة الي البازار الايراني باعتباره المؤسسة التجارية الاكبر نفوذا في ايران.

كما ان وجود مؤسسات دستورية عليا مثل مجلس مراقبة القوانيين ومجلس تشخيص مصلحة النظام يشكل طوقا علي الرئيس الايراني بالتحديد. لان هذه المؤسسات وجدت لمراقبة أداء السلطة التنفيذية بالتحديد التي يرأسها الرئيس الايراني. واذا كان الرئيس الايراني الاسبق ابو الحسن بني صدر كان اول من واجه هذه الصعوبات مما اضطره الي النجاة بنفسه فهرب الي خارج ايران لكونه واجه طوقا حديديا يعيق حركته، فان الرئيس الحالي خاتمي يبدو في وضع اكثر صعوبة وتعقيدا، لان طوق مجلس مصلحة تشخيص النظام الذي تأسس قبل فترة رئاسته الاولي، يعد طوقا مضافا علي رقبته. وعلى الرغم من أن واقع الحال الايراني يبدو اكثر تطورا وانفتاحا عما كان عليه في بدايات قيام الجمهورية الاسلامية الايرانيه، الا ان تحقيق اختراق مهم لمؤسسات التشدد الايرانية يبدو مهمة مستحيلة في المرحلة الراهنة من تاريخ تطور النظام السياسي الايراني. فالرئيس الايراني الحالي محمد خاتمي جاء الي موقعه بارادة مطلقة من عموم الايرانيين، باعتباره اراد تحقيق اصلاحات سياسية كبري، ومع ذلك فقد واجه صعوبات جوهرية حالت دون تحقيق ما اراده من اصلاح خلال فترة رئاسته الاولي. ومع بداية فترة رئاسته الثانية، تحسن وضع الرئيس لكونه حظي بمجلس شوري ذي اغلبية اصلاحية، الامر الذي كان يفترض ان يعجل في تحقيق الاصلاح السياسي في ايران.

السلطة والنفوذ في دوائر القرار

يقول بورزو دزاغاي الكاتب في صحيفة لوس انجليس تايمز، لم يتحدث القائد الاعلى في إيران بنبرة حاسمة مرعدة كرجل يعتبر في بلده ممثلا لله على الارض بل كانت اشبه بنبرة مدير شركة يعبر عن سخطه وهو يؤنب موظفيه.

فبعد ان كان قد طلب من نوابه البدء بخصخصة المؤسسات التي تمتلكها الدولة وهي شركة الهاتف وثلاثة بنوك بالاضافة للعشرات من مشاريع النفط والبيتروكيمائيات الصغيرة، تجاهل هؤلاء ومعهم كبار المسؤولين اوامر علي خامنئي تلك اعتمادا على مراكز القوى ومصادر سلطتهم في الدولة.

نعم، لقد مر الآن اشهر منذ ان كان علي خامنئي قد جمع شخصيات النخبة في بلده لعقد اجتماع استثنائي حضره ايضا الرئيس محمود احمدي نجاد واعضاء حكومته وكبار رجال الدين بالاضافة لرئيس البرلمان وحكام الاقاليم ورئيسي غرفة التجارة والاذاعة الإيرانية.

وابلغ خامنئي الحضور، بينما كانت كاميرات التلفزيون تسجل الحدث، بأن عليهم اصدار بعض القوانين لبيع بعض الشركات والاسراع في ذلك قائلا: ان اولئك الذين يعادون هذه السياسات هم بالتأكيد ممن سيخسرون مصالحهم ويفقدون نفوذهم.

الا ان شيئا من ذلك لم يحدث على الرغم من مرور تسعة اشهر على تأنيبه العلني وحوالي سنة ونصف السنة على اصدار اول امر لاقى هذا الصدود.

اذ تشير مجلة «ايكونوميك دايجست» الى ان شركتين فقط من اصل 240 شركة تمتلكها الدولة تم بيعها حتى الآن.

الحقيقة ان المحللين الغربيين يحاولون منذ سنوات فهم اعمال الدائرة الداخلية في القيادة الإيرانية. فبالنسبة للكثيرين هناك حكومة في إيران يسيطر عليها رجال الدين الشيعة، لكن من الواضح ان نفوذ رجال الدين آخذ بالتراجع، فالسلطة موزعة الآن بين النخب المتصارعة داخل نظام دقيق وحساس من التوازنات تحكمه الاعتبارات الدينية، القانون المدني العلاقات الشخصية وايقاع البيروقراطية.

امام هذا، يجاهد المحللون الإيرانيون لمعرفة من هم المسؤولون الذين يتمتعون بالسلطة والنفوذ والى أي مدى.

فمن غير الواضح عندما يُدلي المسؤولون الإيرانيون بتصريحات علنية ما اذا كانوا يعبرون فيها عن سياسة الدولة أم انهم يتحدثون عن اجنحتهم أو انفسهم فقط.

غير ان دوائر النفوذ والسلطة بعد الزعيم الاعلى تتمثل في رجال الدين، المسؤولين الحكوميين والعسكريين واتباعهم بالاضافة لرجال الميليشيات وتجار البازار الذين يرتبطون بعلاقات طيبة مع دوائر القرار. الا ان كل هؤلاء لا يمثلون سوى ما نسبته %15 فقط من سكان إيران البالغ عددهم 70 مليون نسمة.

يقول المحلل السياسي علي افشري، الذي كان سابقا طالبا إيرانيا ناشطا ويعيش الآن في واشنطن: لا يمكن وصف النظام في إيران بالديموقراطي أو الحكم المطلق، وهو ليس نظاما شيوعيا أو ملكيا أو ديكتاتوريا بل مزيج من كل هذه الاشياء.

الشخصيات المهمة

يشير رجال النخبة الحاكمة بإيران الى الشخصية المهمة فعلا باستخدام الكلمة الإيرانية «خودي» التي تعني «واحد منا».

وعلى الـ «خودي» القبول بأن خامنئي له حق الحكم بأمر من الله ولو ظاهريا على الاقل. كما يتبنى الـ «خودي» قيم رجال الدين الكبار ويلتزم بلباسهم التقليدي المؤلف من قميص ابيض ازراره مغلقة حتى الرقبة بالاضافة لبدلة بنية أو سوداء اللون ولحية مشذبة بأناقة. وتلتزم النسوة بلباس واحد هو الشادور الذي يغطي كل اجزاء الجسم ما عدا الوجه واليدين.

بالطبع، يشكل خامنئي واوثق مستشاريه مركز بنية السلطة، ويشرفون بالتالي على القضايا المهمة للدولة مثل برنامج البلاد النووي والسياسة الداخلية.

وفي كل يوم، يبعث مجلس الامن القومي الاعلى بأوامره عن طريق الفاكس الى مسؤولي الحكومة، محطات التلفزيون والصحف كما ينشر رجال الدين تعليماته في البيوت وفي خطب الصلاة يوم الجمعة.

وهناك عدد من اللجان القوية تحيط بالقائد الاعلى وتتألف من العشرات من رجال الدين تعمل لتعزيز دور الدين في السياسة الإيرانية.. كما يختار مجلس الخبراء القائد الاعلى، ويدقق مجلس الاوصياء في القوانين واسماء المرشحين للمناصب العامة في الدولة.

بعد هذا، يأتي قادة الحرس الثوري والقوات المسلحة. ويختار القائد الاعلى مع مجموعة من كبار رجال الدين في مدينة قم المقدسة الرئيس المنتخب، الحكومة، البرلمان وكبار القادة العسكريين ويتعين على حكام ومسؤولي المحافظات والاقاليم الحصول على مصادقة الرئيس.

وهناك ايضا طبقة التجار الذين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع المسؤولين ودوائر التأثير، وهذا عدا عن رجال الميليشيات وملايين المتطوعين في قوات الامن.

كما يتضمن النظام ايضا اشخاصا بأيديولوجيات مختلفة منهم ابناء جيل اولئك المتخرجين في جامعات غربية ممن عمل بعضهم في اجهزة استخبارات الشاه وكان آية الله الخميني قد احتاجهم لمساعدته في اسقاط الشاه في السبعينيات وللدفاع عن ثورته والصمود امام هجوم صدام حسين على إيران في الثمانينيات.

لكن ومنذ البداية، انهمك زعماء إيران في صراع حول مدى توسيع دوائر السلطة، وما المجالات التي يمكن من خلالها تحدي القيادة، فعلى الرغم من امتلاك المواطن العادي حرية محدودة لانتقاد السلطة، يقول المحللون في طهران ان رؤساء الدوائر الحكومية يبددون نتائج اية عملية استطلاع للآراء اذا كانت سلبية بحق اداء زعمائهم وقادتهم.

ويبدو ان الكثيرين من زعماء إيران يخشون من حدوث انتفاضة شعبية مماثلة لتلك التي اطاحت بالشاه أو بالحكومات الشيوعية في اوروبا الشرقية.

لقد حاول الزعماء الإيرانيون واحداً بعد الآخر على مدى العقود الماضية السيطرة على هذا النظام المعقد وفشلوا كما هو واضح.

مراكز القوى

يقول دبلوماسي غربي يعمل في طهران: لا شك ان هناك الكثير من مراكز القوى في إيران لأن هدف النظام يتمثل في عدم السماح لأي مسؤول بامتلاك سيطرة شاملة. ففي عام 1997 وقف خامنئي يراقب بيأس كيف هزم الاصلاحي محمد خاتمي مرشح القائد الاعلى للرئاسة.

وعلى الرغم من سلطته السياسية، وجد خاتمي نفسه بعد ذلك في مواجهة مع السلطة العسكرية ومع مجموعة النخبة الدينية.

فبعد ان وقعت حكومته عقدا مع تركيا لادارة مطار طهران الجديد، انقض الحرس الثوري على مبنى المطار خلال حفل قص الشريط الحريري ايذانا بافتتاحه، واغلق المبنى وابطل الاتفاق الموقع مع تركيا، وكان ذلك بالطبع ضربة لمحاولات خاتمي فتح البلاد امام الاستثمار الاجنبي.

وفي عام 2005 كان رجل الدين الكبير هاشمي رافسنجاني، الذي كان يرأس مجلس تشخيص مصلحة النظام على وشك ان يحل محل خاتمي لولا المناورات التي جعلته يخسر الانتخابات امام احمدي نجاد.

بل وحتى محمود احمدي نجاد نفسه واجه معارضة لبعض الشخصيات التي رشحها لتولي بعض المناصب الحكومية ومنها منصب المفاوض الرئيسي مع المجتمع الدولي حول برنامج إيران النووي، فقد رفض البرلمان الكثير من اختيارات احمدي نجاد.

وعندما جرى انتخابه رئيسا عام 2005 تم اعفاء رجل الدين حسن روحاني من عمله كمفاوض نووي ثم اختفى ولم يعد يظهر على الساحة السياسية.

لكن بعد ان تخلص من روحاني اضطر احمدي نجاد لتعيين علي لارجاني الذي لا يحبه بديلا له، الا ان روحاني ما لبث بعد ذلك ان عاد على مهل الى الساحة السياسية. ويعلق المحللون على هذا بالقول انه على الرغم من كون روحاني شخصا معتدلا نسبيا، الا انه تمكن على ما يبدو من الوصول الى القائد الاعلى خامنئي من خلال استغلال سمعة احمدي نجاد كرئيس مثير للجماهير يمكن ان يشكل خطرا على سلطة القائد الاعلى.

كما ألقى روحاني خطابا انتقد فيه اسلوب احمدي نجاد السلطوي، وبدأت مقالاته تظهر بانتظام على الصفحات الاولى للجرائد التي تصدرها الدولة، حيث كتب يقول في احدى المقالات: البلد ليس فلكا لأحد، ولا ريب ان المفهوم القائل ان هناك من يمتلك هذا البلد وشعبه هو اكبر مشكلة نواجهها بل هو مرض لا يمكن الشفاء منه.

والملاحظ ان خامنئي ألقى خطابا في نفس الاسبوع الذي كتب فيه روحاني مقالته، وذكر في خطابه ان ما من احد في الحكومة فوق النقد وكان معنى هذا عمليا منع محمود نجاد من مهاجمة روحاني، ومباركة عودة هذا الاخير الى دائرة السلطة الداخلية.

السؤال اذن: من يحكم إيران؟ يقول محام إيراني محنك يعمل في طهران: لو سألتني من يحرك الامور في إيران لقلت لك: الجميع... ولا أحد. 

المركز الوثائقي والمعلوماتي

مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام

www.annabaa.oerg

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 5 كانون الثاني/2008 - 25/ذو الحجة/1428