إنقلاب الصحوة أم صحوة الإنقلاب؟

 د.محمد مسلم الحسيني- بروكسل

شكلت العشائر العربية السنية في العراق وبدعم وتشجيع امريكي تنظيمات مسلحة سميّت بـ (مجالس الصحوة الإسلامية) التي باشرت بصراع مرير مع تنظيمات القاعدة المتواجدة في المدن العراقية الغربية والوسطى، وإستهدفت طرد هذا التنظيم عن تلك المدن أو تحجيمه على أقل تقدير.

كما يقدر عدد هذه القوات الآن بما يزيد على الـ (77) الف مقاتل معظمهم ينتمي الى حركات مسلحة مناهضة للوجود الأمريكي سابقا . ويتزايد هذا العدد يوميا حيث يتوقع أن يصل في بغداد وحدها خلال العام الجديد الى أكثر من (45) الف فرد.

 لقد لعبت هذه التشكيلات المسلحة دورا رئيسيا في تقليل شدة العنف المسلح الذي يضرب الشارع العراقي والى نجاح ملحوظ في الخطة الأمنية الأمريكية الأخيرة والمطبقة حاليا في العراق .

يتساءل المتابع للأحداث عن ابعاد هذه التطورات الأخيرة ونتائجها المستقبلية على الساحة العراقية المكتظة بتعقيداتها وملابساتها، وعن الأسباب الحقيقية التي دعت الأمريكيين الى تشجيع تأسيس هكذا تنظيمات مسلحة في بلد يسود فيه حوار البنادق! وعن مصير هذه القوات الجديدة في المستقبل المنظور وعن تأثيراتها على الوضع السياسي المتأزم أصلا وفصلا .

يرى بعض المحللين السياسيين بأن تشجيع الأمريكيين لقيام مثل هذه التنظيمات المسلحة ما هو الاّ ردة فعل منطقية للفشل العسكري الأمريكي في العراق ، حيث لم تستطع أمريكا تحقيق الأمن والسلام في هذا البلد رغم مرور ما يزيد عن أربعة أعوام عجاف منذ زمن الإجتياح.

كما انه يعتبر عملية ترميم اداري لخطأ ستراتيجي ارتكبته الإدارة الأمريكية في العراق حينما حلّت الجيش العراقي وقوى الأمن الأخرى، وهذا ما أدى الى إنخراط الكثير من هذه القوى الى تنظيمات مسلحة مناهضة للوجود الأمريكي الذي سلب عنها مصدر الرزق ووسيلة العيش.

 كما يرى بعض المحللين أن الدافع الأمريكي الأهم في هذا الحدث هو أن تتشكل قوات عربية سنية لها قدرة عسكرية موازية أمام القدرات العسكرية المتواجدة الأخرى ، تستطيع أن تتصدى لأي خلل في توازن القوى على ساحة الصراعات العراقية. إذ أن رجاحة الكفة العسكرية للقوى المسلحة الشيعية الموالية لإيران على الساحة، سوف يمهد الطريق السهل للإيرانيين بالولوج والتغلغل الصريح في شؤون العراق ومستقبله، وهذا ما لا تريده أمريكا وتتجنبه وتمنعه جملة وتفصيلا. كما يأتي هذا الحدث ليكون خطوة إرضاء أولية لبعض الحكومات العربية التي يهمها شأن السنة العرب في العراق والذين أبدوا إمتعاضهم وغضبهم المستمر من عملية التهميش الذي يتعرض لها العرب السنة ومن تلكؤ عملية المصالحة الوطنية بين أطراف اللعبة السياسية في العراق.

حينما أزاح الأمريكيون صدام حسين عن دفة الحكم لم يكن في حساباتهم أن يستبدلوه بأحزاب إسلامية شيعية موالية لإيران ، كحزب الدعوة الإسلامية وحزب المجلس الإسلامي الأعلى أو بالتيار الصدري المناهض قلبا وقالبا للوجود الأمريكي في العراق. إن سفينة العملية الديمقراطية في العراق قد سارت بما لا تشتهيه أمريكا ، حيث تربع الإسلاميون الشيعة على منصة الحكم ولم يستطع الليبراليون تغيير النتيجة بشكل حاسم .

 هذه حقيقة يجب على أمريكا أن تتحملها على مضض وهي ترعى العملية الديمقراطية في العراق وأمام مرأى ومسمع العالم. إلاّ أن تحمل الأمريكان لحكومة في العراق، تهدد مصالحها الإستراتيجية على المدى البعيد، سيكون مؤقتا والى أجل مسمّى وليس الى ما لا نهاية. كما أن القوات الأمريكية لا تستطيع أن تبقى في العراق الى أبد الآبدين ، وأمريكا عاجلا أم آجلا ستسحب الكثير من قواتها ولا تبقي إلاّ قوات رمزية تفي بأغراضها الإستراتيجية في تلك المنطقة.

 وعلى هذا الأساس فلابد لها من تحضير الساحة وترتيبها لكي لا تنجر وتنحدر الى طموحات إيران ورغباتها، فكان لا بد من تطعيم القوى العراقية الضاربة بقوى ذي ثقل عسكري واسع لا تستطيع إيران مغازلتها أو محاباتها.

 يناقش السياسيون العراقيون الآن فيما بينهم ومع أنفسهم مصير هذه القوات المتزايدة بالعدد والعدة بعد إنتهاء مهامها وبعد أن تفي بغرضها المطلوب وهو ملاحقة عصابات القاعدة وترسيخ الأمن في المدن العراقية المضطربة. فهل ستحل هذه القوى وتتلاشى عن الأنظار بعد عودة الأمن والإستقرار الى العراق أم أنها ستبقى كقوى عسكرية موازية لقوات الجيش والشرطة، إذ يطلق عليها تسمية "الجيش الثالث" أم إنها ستدمج بالقوات المسلحة العراقية وتصبح جزءا منها ؟. يبدو أن جميع هذه الحلول غاية في التعقيد والصعوبة وأن أحلاها مر مثل العلقم أمام من يبحث عن أمن وسلم حقيقي في العراق.

حل هذه القوات المتزايدة وسحب البساط من تحت أقدامها أصبح أمرا أشبه ما يكون بالمستحيل في الظروف الراهنة ، حيث يعني هذا إرتكاب نفس الخطأ الإستراتيجي الهام الذي أرتكبته الإدارة الأمريكية في العراق حينما حلّت القوات المسلحة العراقية بعيد الإحتلال. كما يوحي هذا برجوع العنف والإقتتال بشكل أوسع وأشد من السابق حيث أن الكثير من هؤلاء المقاتلين صار يمتلك اليوم الخبرة القتالية والسلاح وسوف لن يسكت عن قطع مصادر لقمة عيشه مهما "تشرعنت" الأسباب.

 أما التسليم في جعل هذه التنظيمات المسلحة كقوة ضاربة موازية للقوات المسلحة الرسمية فهو يعني خلق تهديد مباشر وقاهر لحالة الإستقرار المرجوّة. كما يعني أيضا إهانة صريحة للحكومة والدولة التي ستبقى دائما رهينة ضعيفة بيد هذه القوات التي سوف تفرض إراداتها على هذه الحكومة بحكم القوة، وهذا ما سيولد هشاشة إضافية في لحمة النسيج السياسي العراقي المتمزق أصلا وينذر بحروب أهلية شرسة قد تبدأ ولا يعرف أحد كيف ستنتهي!

تكثر تصريحات المسؤولين العراقيين اليوم حول مصير هذه القوات المتنامية ، فمنهم من يريد دمجها بالجيش والشرطة بإعتبار أن هذه القوات قد أعطت البرهان الواضح على كفاءتها وقدرتها القتالية وإلتزامها بالموازين الوطنية في الدفاع عن الوطن والمواطنين. بينما يرى الآخرون غير ذلك، حيث يعتبرون إدماج هذه التشكيلات المسلحة الواسعة في الجيش والشرطة سيربك نظام المحاصصة الذي أتبع في تسمية المنخرطين في القوات المسلحة العراقية شأنها شأن المحاصصة الطائفية السياسية المتبعة سلفا.

الإندماج يعني في هذه الحالة ترجيح الكفة العسكرية للعرب السنة على غيرهم ، حيث ستصبح هذه القوات أكثرية مطلقة داخل النسيج العسكري العراقي وهذا ما سيلهب مخاوف المجتمع الشيعي الذي يخشى أن يعيد التأريخ نفسه!

لم يكتف الأمريكيون في نشر صحوتهم في المناطق السنية من العراق فحسب، إنما أنتشرت أشعة الصحوة في ربوع المناطق الشيعية أيضا! فأعداء أمريكا والمتطرفين في أفكارهم ليسوا حكرا على السنة فقط بل هم متواجدون بين الشيعة أيضا. التيار الصدري ناهض الوجود الأمريكي في العراق ولا يزال يناهض، وللتخلص منه ومن مقالبه فلابد من "صحوة شيعية" مقابلة تحجم هذا التيار وتخنقه. كما أن جيوش الصحوة الشيعية ستكون مبصومة بالبصمة الأمريكية التي تجعلها بضاعة غير قابلة للإستهلاك من قبل الإيرانيين رغم "شيعيتها"، وهذا ما سيضمن خلق مثابات ميدانية أمريكية تعتمد عليها في الظروف القاهرة!

 رغم حساسية الموقف وخطورته ورغم ضبابية الحالة وغموضها والتي قد تنذر بسيطرة المليشيات المسلحة على زمام الأمور في العراق وتؤول الى دفن جسد الديمقراطية المريض والمكبل الى دون رجعة ، فأن هنالك من السياسيين من إستبشر خيرا وزغرد فرحا لهذه الصحوة المفاجئة بعد نوم عميق! والتي أبدت ومن دون تحفظ الإندفاع السريع بالإتجاه المعاكس لإتجاهها السابق وبدرجة 180 وذلك من أجل حماية مكاسب الإنقلاب على الدكتاتورية والحفاظ على فضائل الديمقراطية!

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3 كانون الثاني/2008 - 23/ذو الحجة/1428