حتى يغيروا (5): أحبب

قراءة في حلقات

نزار حيدر

 ... وهل يمكن ان نبني عراقا جديدا، الا بثقافة جديدة؟.

   هذا ما اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.

   وقلنا بان من الثقافات التي يحتاجها العراق الجديد، هي؛

   اولا: ثقافة الحياة

  ثانيا: ثقافة التعايش

  ثالثا: ثقافة المعرفة

  رابعا: ثقافة الحوار

  خامسا: ثقافة الجرأة 

سادسا: ثقافة الحب

   لقد سئل رسول الله (ص) مرة عن الحب، هل هو من الدين؟  فاجاب {وهل الدين الا الحب}؟.

   لقد لخص الرسول الكريم جوهر الدين بكلمة واحدة، بسيطة النطق عميقة المعنى، انها الحب، فاين الحب في حياتنا؟.

   لقد غاب الحب في حياتنا لعدة اسباب، منها ما هو متعلق بموروثنا من العادات الخاطئة التي تعتبر ان الحب حرام او للمراهقين فقط او انه امر معيب، او لان للحب معنى واحد فقط في اذهاننا، وهو المعنى السلبي والسئ، ومنها ما هو متعلق بطريقة حياتنا التي تراكمت فيها الكثير من الاخطاء، اما بسبب التربية او بسبب النظام السياسي، او بسبب طريقة ونوعية العلاقات  القائمة فيما بيننا، فالغي، بسبب كل ذلك، الحب من قاموس حياتنا، ولم يعد للحب اي معنى، واستعضنا عنه بالحقد والكراهية واللؤم والحسد والبغضاء والتربص بالاخر.

   ان الحب اكسير الحياة والنجاح، فمن لا يحب لا ينجح، ومن يكره او يبغض يفشل في كل شئ، ولذلك فعندما قال رسول الله (ص) {وهل الدين الا الحب} يعني، بكلمة اخرى، ان من لا يحب لا دين له، وان الذي امتلأ قلبه بالبغض والكراهية والحقد، لا يفهم معنى الدين الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين.

   ان قلب المرء لا يخلو من احد خصلتين، فاما الحب واما الكراهية، الاول يصنع المعجزات في حياة الانسان، وهو سبب لحل الكثير من المشاكل التي تنشا بين الناس، والتي غالبا ما يكمن حلها في قليل من الحب، اما الكراهية فتحول الانسان الى حيوان مفترس بعد ان تصبغ قلبه باللون الاسود بسبب امتلائه بالحقد، ولقد راينا كيف ان الكراهية تحولت الى سبب مباشر للارهاب الذي يقتل الطفل والمراة والشيخ الكبير، لا لشئ الا لان صاحب القلب الذي يكره لا يحب الحياة للاخرين، وانه يتلذذ بمنظر الدم، وينتعش وهو يرى ضحيته تعاني من كراهيته لها وللحياة.

   لنقرا واحدة من اروع مواعظ نبي الله تعالى السيد المسيح عليه السلام، والتي يقول فيها {يا عبيد الدنيا، تحلقون رؤوسكم وتقصرون قمصكم وتنكسون رؤوسكم ولا تنزعون الغل من قلوبكم، يا عبيد الدنيا، مثلكم كمثل القبور المشيدة يعجب الناظر ظهرها، وداخلها عظام الموتى مملوة خطايا}.

   فما الذي يجب ان نحبه؟ ولماذا؟.

   ان اول ما يجب ان يغمر حبه قلوبنا هو الله تعالى، ودينه ورسوله وتلك القيم الرسالية والمناقبيات الانسانية التي بعثها الله تعالى لعباده.

   والى جانب هذا الحب، يجب ان نغمر قلوبنا بحب الانسان، كونه انسان بغض النظر عن اي شئ آخر، دينه، قوميته، جنسه، عمره، مذهبه.

   لقد اوصى الامام امير المؤمنين عليه السلام ابنه الامام السبط الحسن المجتبى عليه السلام، بقوله {الناس صنفان، اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق} ما يعني ان الحب قائم لكل الناس وان اختلفت اديانهم او الوانهم او اثنياتهم.

   ثم، ياتي بعد ذلك، حب العمل، او ما تنجزه في هذه الحياة، فاذا كنت طالبا عليك بحب درسك ومدرستك ومعلمك وزملائك في المدرسة وكتبك والقرطاسية التي تتعامل معها يوميا، وادوات وآلات المختبر التي تتعامل معها، واياك ان تتعقد من شئ منها فترسب، واذا كنت عاملا في المصنع، فعليك ان تحب عملك والالة التي تشتغل عليها والشئ الذي تنتجه، واذا كنت طبيبا فعليك بحب المرضى الذين يراجعونك في العيادة او المستشفى، والادوات التي تستخدمها لمعاينتهم، وغرفة العمليات التي تجري فيها العمليات الجراحية لمرضاك.

   فبالحب يبدع الانسان، وان من لم يحب عمله او اختصاصه الذي يدرسه في الجامعة،مثلا، لا يبدع فيه ابدا، وقديما قالت الحكمة (حب ما تعمل، لتعمل ما تحب).

   حتى عندما تريد ان تختار شريكة حياتك، تذكر الحكمة التي تقول (لا تحب الا من تتزوج، ولا تتزوج الا من تحب) واياك ان تقبل بزوجة يفرضها الاهل عليك، او بشريكة حياة تختارها لمصلحة اقتصادية مثلا، او لاي سبب غير الحب.

   ان مشكلة الكثير منا هي انهم يعملون في مهنة يكرهونها او انهم يدرسون ما لا يحبون ان يتخصصوا به، ولذلك فمن المستحيل ان يبدع مثل هؤلاء في عملهم او دراستهم.

   ان من المهم جدا ان يحب المرء كل شئ من حوله ليتفاعل معه وبالتالي ليثمر علاقة حسنة وجيدة، ولا ننسى ان نحب الطبيعة التي من حولنا والتي سخرها الله تعالى لنا ومن اجلنا.

   ان الحب شرط الابداع، سواء في العمل او في الدراسة، او حتى في العلاقات الاجتماعية.

   يلزمنا ان نشيد علاقاتنا الاجتماعية على قاعدة الحب، فيكون الاصل في علاقاتنا مع بعضنا، وهذا يتطلب ان يكون الحب متبادلا بين الجميع، اي ان لا يكون من طرف واحد.

   حتى الحب الذي يتحدث عنه الله عز وجل في القرآن الكريم، انما هو علاقة متبادلة بين العبد وربه، فيقول عز من قائل {يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه، فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين} لان الحب المبتور لا يدوم، وبالتالي لا ينتج علاقات حسنة، لا بين العبد وربه، ولا بين العباد انفسهم.  

   هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان على المرء ان يجعل من نفسه ميزانا في الحب والبغض، فيحب للاخرين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، ليشيع المحبة في الوسط الاجتماعي القريب منه، وليس العكس، فتراه يحب لنفسه شيئا يكرهه لغيره، فتلك هي الانانية بعينها، وهي من الصفات السئية التي اذا ما عمت في الوسط الاجتماعي فستدمره.

   لقد قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام لولده الحسن المجتبى عليه السلام {يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها} وكفى بها مقالا، لو اخذنا به في العراق الجديد، لاستقرت البلاد وانعم اهلها بالامن والاستقرار والعدالة والمساواة والتكافل الاجتماعي ، وهو اهم امر يجب ان نحققه في علاقاتنا الاجتماعية.

   اما السيد المسيح عليه السلام فيقول في احدى مواعظه {يا عبيد السوء، تلومون الناس على الظن ولا تلومون انفسكم على اليقين} وفي موعظة اخرى يتحدث فيها عمن يرى من الاخرين ما لا يراه من نفسه من عمل السوء {يا عبيد السوء، عجبا، كيف ترون القشة في عيون الاخرين ولا ترون الجذع في عيونكم} في اشارة الى من لا يجعل من نفسه ميزانا فيما بينه وبين الاخرين، اما الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فيقول بهذا الصدد {اذا رايتم العبد يتفقد الذنوب من الناس، ناسيا لذنبه، فاعلموا انه قد مكر به} ولقد كان عليه السلام يقول {انفع الاشياء للمرء، سبقه الناس الى عيب نفسه} وقد اوصى عليه السلام احد اصحابه بقوله {لا تفتش الناس عن اديانهم، فتبقى بلا صديق}.

   علينا جميعا ان نعمل من اجل محو كل الاثار الجانبية التي تركها لنا النظام الشمولي البائد، والتي انتجت البغض والكراهية والانانية والحسد فيما بيننا، ونستبدلها بالحب والاحترام والمودة وحب الخير لغيرنا ولانفسنا، ولتكن نفس كل واحد منا ميزانا في علاقاته مع الاخرين، فاذا كان احدنا يحب الغنى لنفسه، فلماذا لا يحبه لغيره؟ واذا احب احدنا العلم وتمنى ان ينال اعلى الشهادات الجامعية، فلماذا لا يتمنى ذلك للاخرين؟ ما الذي سينقص منه اذا ما تمنى الخير لغيره كما يتمناه لنفسه؟ هل يظن ان الدنيا ضيقة لا تتسع لخيرين؟ ام ان الخير قليل لا يتسع له وللاخر؟ ام ان خالق الخير ومالكه لا يقدر على ان يخلق مثله لغيره؟.

   ان من الاخطاء الشائعة بيننا، والتي تحول فيما بيننا وبين حب الخير للاخرين، هي اننا نتصور بان اصابة الخير لغيرنا سيقلل من الخير الذي سيصيبنا، او، اذا نمى الاخر فسيكون نموه على حساب نموي انا، واذا اغتنى الاخر فسافقر انا، وكل هذا النوع من التفكير خطا في خطا، فالخير واسع ووفير يمكن ان يصيب كل الناس في آن واحد وفي مكان واحد، بشرط ان يحب بعضنا البعض الاخر، ولا نتصف بروح الانانية التي لا تحب الخير الا للذات، وفي احيان كثيرة تبذل جهدا من اجل منع الخير على الاخرين.

   قد تكون فرص الخير احيانا قليلة، فليتنافس عليها الناس بالتساوي، فتمنح للاكفا والافضل والاقدر وتلك هي سنة الحياة، واذا لم اكن انا الاكفا والاجدر بها فلتذهب لصاحبها فما الضير في ذلك؟ ولماذا امنعها لغيري ان لم اكن انا اهلا لها؟ على طريقة (ان لم تكن لي، فلا تكن لغيري) ما هذه الانانية القاتلة؟ ولماذا كل هذا اللؤم البغيض؟.

   علينا ان نتعاون من اجل ان تكون فرص الخير لاحدنا، وذلك بالحب والتعاون والتكافل.

   لقد تسببت السياسات البغيضة التي انتهجها النظام الشمولي البائد، في زرع الحقد والبغضاء في نفوس الكثيرين منا، فلم يعودوا يحبون شيئا، لا لهم ولا لغيرهم، فاسودت الدنيا في عيونهم، فلم يعودوا يرون الاشياء في هذه الدنيا الا باللون الاسود، فلا يحبون احدا ولا يثقون باحد ولا يقدرون شيئا ولا يثمنون انجازا، وان كل الامور ينظرون اليها بمنظار سلبي، وكل ذلك خطا يجب تصحيحه في الرؤية، من اجل تعديل المقاسات من جديد، والبدء بحياة جديدة.

   ان البغض والكراهية تقتل صاحبها قبل ان تقتل الاخرين، وهي السبب الحقيقي الذي يقف وراء ارتكاب صاحبه كل هذه الجرائم البشعة التي يشهدها العراق، فالذي يكره الحياة يقدم على ارتكاب جرائم القتل للاخرين، لانه يكره الحياة لغيره كما يكرهها لنفسه، وان من لا يحب العلم والمعرفة والثقافة، يقتل الطالب والعالم والمثقف لانه يكره كل ذلك لغيره كما يكرهه لنفسه، فهو لا يحب ان يرى طالبا يتعلم، او مثقفا يقرا او عالما يعلم، او باحثا يكتب او ينشر.

   وقد يتطور البغض والكراهية الى درجة الحسد، وتلك هي الطامة الكبرى، فاذا اصيب الانسان بهذا المرض، فسياكل حتى دينه، يقول الامام امير المؤمنين عليه السلام، يوصي اصحابه {ولا تحاسدوا، فان الحسد ياكل الايمان، كما تاكل النار الحطب، ولا تباغضوا فانها الحالقة  فانها، اي المباغضة، والحالقة، اي الماحية لكل خير وبركة} وان القاسم المشترك لكل هذه الامراض التي تصيب القلب، هو سوء الظن بالله عز وجل، فعندما يظن المرء سوءا بخالقه يكره الاخرين ولا يحب الخير لهم كما يحبه لنفسه، وتاليا يحسدهم على ما انعم الله عليهم من الخير والنعم، ظنا منه بان سوء حاله سببه انتهاء الخير الذي وزعه الله تعالى على الاخرين فلم يبق له منه شيئا.

   يقول الله عز وجل في محكم كتابه الكريم مصورا هذا الامر{ود كثير من اهل الكتاب لو يردوكم من بعد ايمانكم كفارا، حسدا، من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} وفي آية اخرى يقول تعالى {ام يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}.

   هنالك نوع آخر من الناس، وهو الذي يتمنى الشر للاخرين اذا ما اصيب به، لاي سبب كان، فاذا كان جاهلا يتمنى الجهل للاخرين، واذا كان فقيرا يتمنى الفقر لغيره، واذا كان كافرا يتمنى الكفر للاخرين كذلك، وهكذا، فيما يجب عليه ان يحب الخير للاخرين وان اعدم الخير، فان اصل حب الانسان لنفسه هو الخير وليس الشر، فهو يحب العلم ويحب المال ويحب السعادة، واذا صادف ان حرم من ذلك، لسبب ما، فلا يعني انه راح يحب الجهل والتخلف والفقر والتعاسة لنفسه ابدا، ولذلك عليه ان يحب لغيره ما يحب لنفسه وان حرم منه.

   ويحدثنا القران الكريم عن هذا النوع من الناس بقوله عز وجل {الذين يبخلون ويامرون الناس بالبخل}.

يتبع........

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 30 كانون الاول/2007 - 19/ذو الحجة/1428