مصطلحات ثقافية: الإنتلجنسيا

الإنتلجنسيا: Intelligentsia

شبكة النبأ: يقول الدكتور نديم البيطار "الانتلجنسيا" تعطي ولاءها للأفكار والمعرفة، وتمثل الجانب الخلاق في الفكر الاجتماعي السياسي، إنها تراقب، تدرس وتتأمل وتنظر وتحلل وتنشغل نقدياً بالأفكار والقيم والتصورات الأيديولوجية التي تجاوز المشاغل والمقاصد بالأفكار والتحليل الفكري والوقائع يكون منظراً، والذي ينشغل فقط بالأفكار المعيارية والتقويمية يكون أخلاقياً، وهو يصبح جزءاً من الأنتلجنسيا عندما يهتم بالنوعين ويوحدهما في إطار يرفض الأوضاع القائمة عن طريق الفكر المنضبط والمنظم. الانتلجنسيا تتميز إذاً عن المثقفين الآخرين في كونها كما يقولون في بعض الأوساط الفكرية الفرنسية لا تشكل "كلاب حراسة" لهذه الأوضاع، للنظام القائم، لما هو موجود، بل بالأحرى قوة نضالية في خدمة ما يجب أن يكون.

المثقف الذي يرتبط بالوضع الراهن لا يستطيع فصل نفسه عنه وعن قيمه وافتراضاته ومنطلقاته ومؤسساته، وبالتالي لا يستطيع القيام بتحليل موضوعي علمي نقدي حوله، أو ممارسة النقد الجذري له. إنه يكون ملتزماً به بشكل مباشر أو غير مباشر، ويجد عقلنة له في ضوء تبرير فكري يضفي عليه الشرعية الأيديولوجية، وهذا يعني أن يكون مثقفاً دون الوعي الأصيل الذي يميز أو يجب أن يميز المثقف وليس الانتلجنسيا فقط، وذلك لأن هذا الوعي، الوعي غير المزور الذي كان القوة المحركة لتطور الفكر الإنساني نفسه يعني في ذاته فيما يعنيه ما يلي:

قدرة الإنسان على الخروج من الذات والوسط الخارجي ككل أو في بعض جوانبهما الأساسية وكأنه ليس جزءاً منهما لتحليلهما وتقويمهما، ومن ثم رفضهما جزئياً أو كلياً في ضوء جديد، هذا هو عنصر الوعي الأساسي.

قريباً من هذه الرؤية لمكان ومكانة الانتلجنسيا من السلطة يقول الروائي توفيق الحكيم: الحكم الديمقراطي أو الشعبي لا يستطيع في كل الأحوال أن يخفض صوت الفكر الحر قهراً أو غصباً، ولكنه يستطيع أن يلغي وجوده إلغاءً بأن يستدرجه إلى حظيرة السياسة العملية. ومتى دخل رجل الفكر تلك الحظيرة فقد بطل نقده وتفسيره وتوجيهه.

فواجب رجل الفكر إذاً أن يحافظ على كيان الفكر وأن يصون وجوده الذاتي حراً مستقلاً.

والأنتلجنسيا في قاموس علم الاجتماع مصطلح له عدة استخدامات، فهو في المجتمعات الغربية يقصد به صفوة داخلية صغيرة تشمل المؤلفين وذوي الثقافة الراقية، وهي جماعة لها كيانها المستقل وقد يكون لها في أوقات معينة بعض التأثير السياسي والاجتماعي. وعلى الرغم من أن الهيبة التي تحصل عليها هذه الصفوة تتفاوت بين المجتمعات الغربية إلا أنها لا تتمايز عن القطاعات الأخرى من الطبقات التي تتالف أساساً من المهن الفنية العالية، وإذا كانت هذه الصفوة أيضاً تمثل الذين ينقدون الروح العامة التي تشترك فيها مع جماعات الطبقة الوسطى الأخرى، فإن الصفوة المثقفة تنمو مع المجتمع ككل. أما في المجتمعات النامية، فإن الصفوة المثقفة الحديثة لا تنمو بنمو المجتمع ككل. ولا تشترك مع الطبقات الوسطى في أية روح جماعية عامة. والمصطلح يستخدم في هذه المجتمعات للإشارة إلى صفوة ظهرت استجابة لقوى خارجية سواء عن طريق تقليد المجتمع الغربي من أجل اكتساب مهارات خاصة تمكنهم من التنافس مع الغربيين في المجالين الاقتصادي والعسكري، كما هو الأمر بالنسبة لروسيا واليابان، أو من خلال سيطرة الغرب على المجتمع وفرض ثقافته ونظمه التعليمية كالهند. والملاحظ أن الثقافة الحديثة المتميزة التي تتحقق لدى هذه الصفوة تفصلها عن بقية أعضاء المجتمع.

وجدير بالذكر أن هذا المصطلح ظهر في البداية في روسيا واستخدم في منتصف القرن التاسع عشر حينما كانت الطبقة العليا في روسيا منقسمة إلى قسمين هما: البيروقراطية الحاكمة، وصفوة المثقفين التي تتألف أساساً من المتخصصين في العلوم وأصحاب المهن الفنية العليا، وتسيطر عليها أيديولوجيات غربية تقدمية. واتسع نطاق المصطلح بعد ذلك فأصبح يشير إلى المثقفين الذين يتبنون آراء راديكالية تناهض النظم السياسية الأوتوقراطية.

متعلقات

الانتلجنسـيـا العربية والمجتمع المدني

" تعاريج على تمـظهرات الخلـط المفاهيمي والاصطلاحي"(1)

( إن دعاة المجتمع المدني ليسوا خياليين فهم واقعيون، وهذا الكلام ليس نظرياً وعن بعـد بل عن معـرفة عـميـقة وقريبة )

د. محي الدين اللاذقـاني

 ـ منذ تسعينيات القرن المنصرم وموضوعة المجتمع المدني تحتل مساحة لا بأس بها من اهتمام الأدبيات والمؤلفات الفكرية العربية، فلقد حرصت هذه الأخيرة على تناول تلك الموضوعة من مختلف جوانبها وأبعادها المحورية والنسقية وذلك من خلال عدة زوايا ومعطيات دينامية ارتبطت في عمقها المنهجي بتوجهات إيديولوجية ومدارس فكرية متباينة ومتناقضة، أدت إلى أن ترصع أدبيات موضوعة المجتمع المدني بتمظهرات جدلية واستفاهمية تعلقت في صلبها التحليلي بأبجديات السؤال الماهوي للموضوعة.

فمن بين تلك التمظهرات الجدلية والاستفاهمية برز في الآونة الأخيرة النقاش الانتلجنسي الدائر حول معطيات الدلالة اللغوية لمصطلح المجتمع المدني ومدى طبيعة العلاقة التي تجمع بين ذلك المصطلح وبين مصطلحات مقاربة مثل "المجتمع السياسي والمجتمع الأهلي"، فعلى صعيد دلالة المصطلح أبدى البعض تحفظه على دلالته اللغوية واعتبروا أن لفظ مدني يحيل في اللغة العربية إلى المدينة وأنه بشيء من التجاوز فإن عبارة المجتمع المدني تكتسب في اللغة العربية معناها من مقابلها الذي هو "المجتمع البدوي"، تماماً كما فعل ابن خلدون حينما استعمل "الاجتماع الحضري" ومقابله "الاجتماع البدوي" كمفهومين إجرائيين في تحليل المجتمع العربي خلال عهده والعهود السابقة له، وبالتالي نظراً لأن القبيلة هي المكون الرئيسي في البادية العربية فإن المجتمع المدني سيصبح في هذه الحالة المقابل المختلف إلى حد التضاد للمجتمع القبلي، هذا طبعاً مع الأخذ في الاعتبار بأن اللفظ الأجنبي "CIVI" الذي نترجمه بـ "مدني"، في قولنا "مجتمع مدني"، يستبعد في الفكر الأوروبي ثلاثة معان رئيسية هي بمثابة أضداد له وهذه المعان هي " التوحش، والإجرام ـ الانتماء للجيش ـ الانتماء للدين".

وتأسيساً على ما سبق فإن مصطلح المجتمع المدني هو مصطلح تم بناؤه في الفكر الأوروبي على مجتمع متحضر لا سلطة فيه للعسكر والكنيسة الأمر الذي يجعله يتباين من الناحية المفاهيمية مع دلالته في اللغة العربية.(1)

 وبالإضافة للإشكالية الدلالية الآنفة برزت أيضاً على ساحة المناقشات العربية لموضوعة المجتمع المدني قضية أخرى تتعلق بماهية العلاقة التي تربط المجتمع المدني بالمجتمع السياسي وبالأخص إطاره الحزبي. حيث دار الجدل حول ما إذا كانت الأحزاب كأطر سياسية تعد ضمن المكونات المعاصرة للمجتمع المدني أما لا؟.

وللإجابة على هذا التساؤل يرى كاتب هذه السطور إنه من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن الربط ما بين مفهومي المجتمع المدني والمجتمع السياسي هو ربط لا يعد وليداً للأدبيات الفكرية المعاصرة فهو في جذوره التاريخية يمتد إلى الأدبيات اليونانية القديمة وذلك عندما ربط أرسطو بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي.

واعتبر المجتمع المدني كميونة سياسية وليست عقداً أو اتفاقاً وإنها تنتقل بشكل طبيعي من الأسرة إلى القرية إلى دولة المدينة وتحكمها أسس ومرتكزات الدستور والقانون وهذا الربط بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي نجده واضحاً أيضاً في مطابقة أخرى أوردها الفارابي في كتابه " آراء أهل المدينة الفاضلة"(2).

إن الربط الآنف بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي كان له مبرره الذي يجد حيثياته الملمحية في بساطة المكونات التي كانت تقوم عليها كل من منظومة المجتمع المدني والمجتمع السياسي في ذلك الوقت، وبالتالي كان من المنطقي جداً مع تعقد تلك المكونات وبداية ظهور بذور تجلياتها الحديثة أن يتم إعادة النظر في منطلقات النسق الفكري الذي كان يربط بين المجتمع المدني وبين المجتمع السياسي.

فكانت البداية من خلال الأدبيات الماركسية، حيث يقول غرامشي في أحد النصوص المهمة من دفاتر السجن إن "ما نستطيع أن نفعله حتى هذه اللحظة هو تثبيت مستويين فوقيين أساسيين الأول المجتمع السياسي أو الدولة والثاني يمكن أن يدعى المجتمع المدني الذي هو مجموعة من التنظيمات"(3).

ومن خلال الأدبيات الماركسية بدأت تتبلور في الأفق الابستمولجي رؤية تحليلية ناضجة ترمي للتفرقة بين المجتمع المدني وبين الأطر السياسية الحديثة والمعاصرة.

ففي هذا السياق لاحظ عبد الغفار شكر إن "الأحزاب لا تعتبر في أدبيات القطاع غير الحكومي في الغرب من المنظمات غير الحكومية، على أساس إنها يمكن أن تصل إلى الحكم في أي وقت وذلك في إطار مبدأ تداول السلطة"(4).

واعتبر أستاذ التاريخ والعلوم السياسية الأمريكي الدكتور مايكل أسس . جويس أن المجتمع المدني مجالاً مختلف تماماً عن المجال السياسي فهو يضم مختلف المؤسسات التي يعبر الأفراد من خلالها عن مصالحهم وقيمهم خارج مجال عمل الحكومة وبشكل مميز عنها (5).

وبالإضافة لما سبق فإن تماهي سلوكيات العنف المادي والمعنوي بين بعض الأحزاب والأطراف العربية التي تحتكر مركز اتخاذ القرار السياسي وبين تلك التي تعارضها وتقف في خندق المختلف معها، هو تماهي لا يتماشى مع واحد من أهم الأركان المؤسسة للمجتمع المدني ونقصد بذلك ركن التسامح فالمجتمع المدني قائم كما نعلم على ثقافة الاعتراف معه بالآخر والتسامح معه، والالتزام الأخلاقي بالإرادة السلمية للاختلافات (6).

كذلك وفي خضم الخلط المفاهيمي والاصطلاحي المتعلق بتناول الإنتلجنسيا العربية لموضوعة المجتمع المدني تبرز بشكل جلي وواضح ظاهرة استخدام مصطلح المجتمع الأهلي كمرادف لمصطلح المجتمع المدني، وهو خطأ فادح باعتبار إن مصطلح المجتمع الأهلي من وجهة نظر منهاجية دقيقة لا يمكن أن يكون مرادفاً لمصطلح المجتمع المدني وذلك لاعتبارات عدة لعل أهمها أن المصطلح الأول يتضمن في مؤشراته الإجرائية مكونات لا علاقة لها إطلاقاُ بالمكونات المعاصرة للمجتمع المدني، فعبارة المجتمع الأهلي تحيل في اللغة العربية إلى الأهل وأهل الرجل هم اقاربه وعشيرته وقومه أي أهل بلده وإذا استحضرنا كما يقوم الجابري مبدأ بضدها تتميز الأشياء فإننا لن نجد مصطلحاً مضاداً لمصطلح المجتمع الأهلي غير ضده على صعيد اللغة وهو المجتمع الأجنبي، وهذا بالطبع ليس هو المقصود في أدبيات الانتلجنسيا العربية التي تخلط بين مصطلحي المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، إن المجتمع الأهلي بذلك الفهم يحمل في طياته الحاكم والمحكوم والقاهر والمقهور والظالم والمظلوم والمعتدل والمتطرف فهؤلاء جميعاً جزء من الأهل أو من القوم أو البلد وبالتالي ومن خلال استحضار المرتكزات السامية لأطروحة المجتمع المدني فإننا سنستنبط بكل سهولة ويسر مدى عدم دقة ومنطقية ذلك الخلط المفاهيمي والاصطلاحي الذي يرادف المجتمع المدني بالمجتمع الأهلي أو العكس (7).

عموماً يبقى ما ذكرناه آنفاً مجرد بسطة نظرية مختزلة أردنا من خلالها التعريج على جانب من مضامين محورية الخلط المفاهيمي والإصطلاحي المرتبطة بأدبيات التناول الإنتلجنسي العربي لموضوعة المجتمع المدني وهي بسطة نأمل أن تكون مقدمة لفتح ملفات عدة تتعلق بموضوعة المجتمع المدني والتي رغم كل الاهتمام الذي لاقته في الأدبيات والمؤلفات الفكرية العربية فإنها تظل في مسيس الحاجة للمزيد من الدعم الإبستمولجي البناء والهادف والقائم على متصور ذهني يربط ما بين الموضوعة وموضوعة الإصلاح السياسي والذي يرى محمد محفوظ بأنه بات الخيار الذي لابد منه وإنه بقدر ما أنه لا يمثل الحل السحري لكل أزماتنا ومشاكلنا بقدر ما أنه يعد أسلم الخيارات لواقعنا الراهن، طبعاً محفوظ لا يتحدث إطلاقاً عن الإصلاح السياسي المؤمرك أو المدجن فكريا وإيديولوجياً.

بل يتحدث عن إصلاح جذري ينطلق من أرضية البناء السليم للذات وتصحيح مسار الأنا العربية المنتكسة(8). 

الإحــالات :

1. د. محمد عابد الجابري،المجتمع المدني (المعني والمفهوم)، الموقع الإلكتروني لصحيفة الاتحاد الإمارتية، العدد الصادر بتاريخ 1 مارس 2005م.

2. د. فريال حسن خليفة،المجتمع المدني عند توماس هوبز وجون لوك، القاهرة، مكتبة مدبولي، 2005 م، ص 11.

3. مجدي شندي،غياب جزئي للمجتمع المدني في الوطن العربي، موقع صحيفة البيان الإمارتية، العدد 636، 25 يوليو 2003م.

4. عبد الغفار شكر، الدور التنموي والتربوي للجمعيات الأهلية والتعاونية في مصر، مكتبة الأسرة، سلسلة العلوم الإجتماعية، 2005م، ص 9- 10.

5. مايكل أس .جويس، المواطنة في القرن الحادي والعشرين: الحكم الذاتي للفرد، بحث نشر ضمن كتاب "بناء مجتمع من الموطنين ـ المجتمع المدني في القرن الحادي والعشرين". تحرير دون أي. إيبرلي، ترجمة هشام عبد الله، عمان، دار الأهلية، 2003م، ص 60.

6. د. عبدالرازق المضرب، المجتمع المدني ومبادئه وأهمية المنظمات غير الحكومية، الموقع الإلكتروني لصحيفة البيان الإمارتية، العدد الصادر بتاريخ 9 مارس 2005م.

7. د. محمد عابد الجابري، الواقع العربي الراهن، الكتلة التاريخية مرة أخرى، الموقع الإلكتروني للدكتور محمد عابد الجابري.

8. محمد محفوظ، الحرية والإصلاح في العالم العربي، بيروت، الدار العربية للعلوم، 2005 م، ص 152 -153.

المثقفون والثورة: الإنتلجنسيا كظاهرة تاريخية(2)

 يختلف المرء مع نديم البيطار من الصفحة الأولى في مقدمة هذا الكتاب, إذ يشير إلى أنه لم يجد مبرراً لأن يجري أي تعديل على هذا النص المنشور في طبعته الأولى عام 1987 الذي يعاد نشره في بيروت دون إضافة ولا تحرير. موضع الخلاف أن إشكالية المثقفين ودورهم وعلاقتهم بالتغيير السياسي والاجتماعي تظل إحدى الموضوعات الساخنة وذات الجاذبية الخاصة لمزيد من النقاش والبحث والتنظير.  

- اسم الكتاب: المثقفون والثورة: الإنتلجنسيا كظاهرة تاريخية

- المؤلف:

نديم البيطار

-عدد الصفحات: 239

- الطبعة:

الأولى 2001

- الناشر: دار بيسان- بيروت

 ومنذ نشر هذه الدراسة في شكلها الأول منذ أربعة عشر عاماً وحتى الآن فإن المئات من الأبحاث والنظريات والمقاربات قد صدرت وأعادت النظر في هذا المبحث وفق التطورات الثقافية والسياسية والعالمية, وفي ضوء التجارب الإنسانية في العقدين الأخيرين. ليس هذا فحسب, بل إن عدم مراجعة أطروحات الكتاب, المصوغ من وجهة نظر ثورية يسارية, على ضوء فشل التجارب الثورية في العالم, وخاصة انهيار الاتحاد السوفياتي بعد صدور الكتاب في نسخته الأولى يشير إلى نوع من الدوغمائية التي تصر على عدم تضمين تحولات كبرى، مثل اختفاء الكتلة الشرقية وانعكاسها على الفكر العالمي والنظريات التغييرية، ومن ضمنها دور المثقف في "التغيير الثوري" الذي ينشده المؤلف. وهذه النظرة تترسخ عندما يخبرنا المؤلف أن ما تنشغل به هذه الدراسة هو "إدراك دور الإنتلجنسيا العربية في صنع النضال العربي وتحديد مسؤوليتها عن هذا النضال" (ص 5).

وبرغم وجود هذا التقرير في المقدمة بما يوحي أن الفصول اللاحقة سوف تتعرض إلى هذه الإشكالية الكبرى, فإن الغائب الأكبر عن هذه الفصول هو المثقف العربي ودوره, إذ إن معظم النقاش يدور على المستوى النظري البحت.

إضافة إلى هذا الخلل المنهجي, أي عدم تحديث الكتاب, ثمة خلل أكبر متعلق بتعريف الإنتلجنسيا نفسها. فهنا وفي هذا الكتاب المخصص لبحث دور هذه الطبقة, التي يعتبرها المؤلف "أداة أولى للعمل الثوري" (ص 12), لا نجد انخراطاً مقنعاً لتحديد مفهوم هذه الشريحة وتعريف معقول ومسهب لها. بل إن المؤلف يكتفي بإرجاعنا إلى هامش في أسفل الصفحة (12) يخبرنا فيه أن "المجال لا يتسع هنا لأي تحديد أو تحليل مفصل عام لكلمة الإنتلجنسيا". ويكتفي بالقول بأن الكلمة روسية عنت وصف طبقة من المثقفين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مارست النقد الفكري للأوضاع القائمة، ورفضت النظام القائم آنذاك. كيف يمكن قبول هذا التبرير بأن المجال لا يتسع لتعريف المفردة الأهم في هذا البحث, وأين يمكن أن يتسع المجال إذن لمثل هذا التمرين المطلوب؟.

ولا ندري أيضاً مدى انطباق التعريف الروسي المبتسر على أي "إنتلجنسيا عربية", وما هي مكونات هذه الطبقة من المثقفين؟ وهل يندرج فيها القوميون والإسلاميون والليبراليون الذين ينقدون الأوضاع القائمة ويعارضونها أم أن تلك الإنتلجنسيا محصورة بطبقة اليسار الثوري -إن وجد- والتي يعنيها المؤلف بشكل مباشر أو غير مباشر؟.

وبسبب هذا الغموض الذي وسم الطبقة التي يتحدث عنها الكاتب, مضافاً إليه ندرة الاستشهادات بالكتابات العربية التي أنتجتها "الإنتلجنسيا العربية" فإن القارئ يشعر بأن البحث أقرب إلى التمرين الذهني التجريدي من أن يكون دراسة في السوسيولوجيا السياسية للعالم العربي، وإشكالية التغيير فيه، ودور اللاعبين سواء أكانوا طبقات أم فئات أم حكومات. فلا دراسات محمد عابد الجابري عن "المثقفون في الحضارة العربية", ولا نظيرتها عند غالي شكري حول "المثقفون والسلطة" ولا العدد الذي لا يحصى من المقاربات العربية حول هذا الموضوع يجد له موطئ قدم بالإشارة أو التعليق, مما يزيد من اغتراب الدراسة عن الواقع الذي تريد مناقشته.

إضافة إلى ذلك, فإن إهمال نقد إدوارد سعيد لـ "صور المثقف" أو مراجعات روجيه دوبريه الحديثة لموقع المثقف وعلاقته بالإعلام والسلطة يقلل من القيمة الراهنة لهذه الدراسة. ولا يعفي المؤلف هنا محاولة عقد المقارنات التشابهية بين دور الإنتلجنسيا في روسيا وبلدان الكتلة الشرقية، ودور نظيراتها في البلدان النامية في حقب الخمسينات والستينات. إذ ببساطة لم يعد لمثل هذا التشبيه معنى في القرن الحالي، حيث تتشتت تلك الإنتلجنسيا, بفرض أنها وجدت, وتنطحن مع دولاب الحياة الاجتماعية والسياسية خاصة مع غياب الراعي السوفياتي الأكبر. بل إن دور المثقف في العالم غير الاشتراكي صار موضع تساؤل كبير.

ويشير جون كين -الأكاديمي البريطاني وأحد أهم مؤرخي المفكر الكبير توماس بين الذي يشيد نديم البيطار بثوريته وقطعه مع النمط السائد في التفكير باعتبار أن تلك هي مهمة المثقف- يشير كين إلى تراجع دور المثقف أمام سلطة الإعلام وثورة المعلومات.

يدعو المؤلف إلى أن يتوجه صراع الإنتلجنسيا العربية المركزي ضد التجزئة وتناقضها مع الوحدة, وإن لم تنجح في هذا الصراع فإنها تخون ليس فقط ذاتها ودورها كأنتلجنسيا, بل تخسر إنسانيتها نفسها

ويظل السؤال المركزي الذي لا نجد إجابة عنه في هذا الكتاب هو: ما هي الإمكانية الحقيقية لبروز دور تغييري مركزي للمثقفين العرب في ظل الأوضاع القائمة؟. وهل يستحقون حقا كل هذا النقد الشرس الموجه لهم، وتحميلهم المسؤولية الكبرى في حصول التخلف والتجزئة والتبعية للخارج كما نلمح سواء في مقدمة الكتاب أو خاتمته أو في التمهيد للكتاب القادم للمؤلف حول "سقوط الإنتلجنسيا العربية"؟

 طبعاً تزداد محاولة الإجابة على هذا السؤال صعوبة بسبب عدم تحديد من هم المثقفون الذين يقصدهم المؤلف, خاصة وأنه يضع لهؤلاء المثقفين برنامجاً أيديولوجياً وسياسياً محركه الأساسي الثورة والوحدة, وباعتبار أن أيا من المثققين يحيد عن هذا البرنامج فإنه خارج عن التاريخ والجغرافيا, بل وعن الإنسانية. فالمؤلف يدعو, مثلاً, إلى أن يتوجه "صراع الإنتلجنسيا العربية" المركزي ضد التجزئة وتناقضها مع الوحدة, وإن لم تنجح في هذا الصراع فإنها "تخون ليس فقط ذاتها ودورها كأنتلجنسيا, بل تخسر إنسانيتها نفسها" (ص 231). فهل هذا يعني أن مئات -إن لم يكن آلاف المثقفين العرب الذين يؤيدون "دولة التجزئة" كضرورة تاريخية مرحلية مثلاً, أو لا يؤمنون بمنطق الثورة ويقدمون عليه منطق التغيير التدريجي- هم خارجون عن "الأنتلجنسيا العربية" رغم أنهم ينتقدون الأوضاع التي يعيشونها ويعانون من نقمة الأنظمة ضدهم؟

يتابع المؤلف بعمق فريد في الفصول الأولى من الكتاب تطور طبقة الإنتلجنسيا في التقليد الثوري اليساري, السوفياتي أو الصيني أو الأوروبي الشرقي. وعندما يعالج موضوعات "جدلية التخلف الموضوعي الثوري" و"الإنتلجنسيا كحاملة للوعي" (ص 62) فإن القارئ يبحر معه في رحلة شيقة عبر السجالات الماركسية واللينينية والماوية حول أدوار الطبقات المختلفة في إحداث الوعي الثوري ومن ثم التغير, وكذا في طروحات ألكسيس دو توكفيل حول الثورة الفرنسية وافتراقاتها عن الثورة الأمريكية. لكن الجانب الناقص في هذا الجدل المثير هو الربط مع الواقع العربي وواقع "الإنتلجنسيا العربية" ومدى انطباق السياقات التاريخية الروسية أو الصينية أو حتى الأوروبية الغربية على العربية، وما النتائج التي يمكن الخلوص إليها, عملياً وليس نظرياً وتجريدياً, فيما يخص دور المثقفين العرب في التغيير في حقبة اوائل القرن الواحد والعشرين؟.

ومن حق القارىء أن يتساءل عن الحلقة المفقودة بين هذا النقاش والواقع العربي في ظل تأكيد المؤلف على أنه لا حاجة لتعديل أي شيء في الكتاب، وبالتالي بقاء صلته بالواقع كما كانت عليه, افتراضاً, سنة صدوره الأولى. وهذا التساؤل يأخذ أبعاده عند مقارنة فصول الكتاب المختلفة مع الهدف المعلن في المقدمة. فهناك نقاشات موسعة عن مقومات وأوضاع الأنتلجنسيا بما فيها التصورات المستقبلية (نسبة إلى سنة 1987 طبعاً), وعزلة الإنتلجنسيا عن الممارسة العملية, وظاهرة الاغتراب, وعقدة هاملت, وعقدة الشعور بالظلم, والقمع الفكري. ثم أيضاً هناك المعالجات الموسعة فيما يخص علاقة البروليتاريا بالأنتلجنسيا, متضمنة التجارب الماركسية والفوضوية والأبعاد الاقتصادية.

وكل هذا الجدل يدور في سياق النظريات والتطبيقات السوفياتية, أو الصينية, أو الأوروبية الشرقية، وفي إطار المجتمع (أو المجتمعات) الماركسية في حقبة الحرب الباردة. وبعد ذلك كله, ينحصر النقاش حول "الأنتلجنسيا العربية" في فصل الخاتمة, في بضعة صفحات مبتسرة (ص 229-237) لا توفي النقاش حده الأدنى. وبذلك يبدو البعد العربي, وهو الهدف الأساسي من الكتاب, مقحماً على هذه الدراسة التي هي بالتأكيد شيقة ومفيدة لو اقتصرت على الجدل النظري في إطار النقاش حول دور المثقفين الماركسيين في عملية التغيير في التجربة الاشتراكية.

نقد الأنتلجنسيا السودانية(3)

إن أول مناطات البحث حول الانتلجنسيا السودانية هي محاولة الإجابة عن الأسباب التي أدت إلى عدم انتشار الأدب السوداني كما هو الحال في بقية الآداب الأخرى. ولعل هذا الأمر هو واحد من المعوقات الأساسية في سبيل لقاء الأدب السوداني حظه من الانتشار والنقد والتداول إقليمياً وعالمياً، وإن استثنينا الأديب والروائي العالمي الطيب صالح وشاعر القطرين محمد الفيتوري اللذان هربا من حصار القوقعة المحلية إلى عوالم أرحب، نجد أن بقية الأدباء السودانيين مازالوا محاصرين إن لم نقل مدفونين إما ذاتياً أو لأسباب أخرى يصعب حصرها نظراً للتغيرات المطردة في مناحي الحياة السودانية المختلفة: اجتماعياً وسياسية واقتصادياً وحتى تقنياً إذ أن دُور النشر والتوزيع السودانية تفتقر إلى أهم المقومات التي تجعلها لا تعي دورها الرسالي في حمل الثقافة والأدب على النحو الذي يجب، فتكتفي بدور الناشر والموزع السلبي على أساس ربحي ليس إلا. وتطوير مؤسسات ودور النشر لتقنياتها المهنية والحرفية وكوادرها وأدواتها في التعامل مع النصوص الأدبية هي واحدة من الركائز التي يعتمد عليها الأدب السوداني في عملية اختراق سوق الأدب العالمي. وأنا هنا حين أقول عالمي، لا أحصر العالمية أبداً في القراءات والكتابات غير العربية وإنما أقصد بها ما وراء السودانية عموماً.

إن غياب النقد هو أحد العوامل التي ساعدت على دفن التراث الثقافي السوداني، وما لم يجد الأدباء السودانيون طريقة لوصول أعمالها للنقاد فلن تجدي جميع المحاولات الفردية التي يقومون بها من جلسات استماع وقراءة ونشر في الشبكة العنكبوتية في محاولات متواضعة جداً منهم للوصول إلى المتلقين. فمعظم الأدباء السودانيون يكتفون بنقد المتلقي غير الأكاديمي والمتمثل في ردود أفعالهم سواء عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو حتى موجة التصفيقات التي يتلقها في ندوة أو أمسية أدبية. ليصبح التصفيق أو مجرد الإشادات الفردية هو تيرمومتر النقد الأدبي السوداني. وهذا التواضع في الحقيقة ليس تواضعاً حميداً، بل هو تواضع المغلوب على أمره. وبدون محاولات شخصية أو مؤسسية جادة للوصول إلى حدود أبعد من المتاح فسوف لن يصل الأدب السوداني إلى مرحلة التداول التي تتيح بدورها لفت أنظار النقاد وبالتالي نيلهم الانتشار الذي يستحقونه. وعليه سيظل النقد مجرد أخوانيات تتداول في أروقة الأدب السوداني الضيقة من نقاد سودانيين إلى مبدعين تربط بينهم علاقات.

وبعيداً عن الحركات النقدية الجادة، نجد حركة يُمكن أن أسميها بالاكتشافا ت الفردية كتلك التي قام بها الروائي الفرنسي دو سان بول والأديب الفرنسي خافيير لوفان. وما قام به الشاعر يحيى العبدلي والدكتور سليمان يحيى محمد من تناول نقدي وتشريحي للأدب السوداني بجميع أنواعه، على مر العصور القديمة والمعاصرة. ورغم ما في هذه التجارب من غنى وجدية، إلا أنها تظل قاصرة عن تقديم الأدب السوداني بجميع خصوصيته كما يجب.

واحدة من معوقات انتشار الأدب السوداني، هو إيغال الأدباء أنفسهم في السودنة. ولا أعني بذلك أن الحل في سبيل ذلك هو التخلي عن التنميط المطلوب لكل أدب. ولكن أعني بذلك تلك الرؤية التغزلية التي يتعامل بها الأدباء السودانيون تجاه ثقافة سودانية جغرافية بعينها وهي ثقافة أهل البطانة والجزيرة على وجه التحديد، في محاولة منهم لإيهام القارئ السوداني والعربي أن الثقافة السودانية لم تنتج أنضج من هذه التجربة الثقافية المتفردة في لغتها ومفرداتها. فالمتتبع لنصوص الأدب السوداني وحتى على مستوى المسرح والدراما يجد التشدق والالتصاق الواضحين بهذه الثقافة والتي لا تعدو أن تكون واحدة من روافد الثقافة السودانية واسعة التعددية، وبالتالي لا يصح القول بتمثيلها لها.

والمطلع على الآداب غير السودانية يكاد يلحظ عدم اهتمام من قبل الأدباء بإعطاء قائمة تفصيلية بمحتويات تراث البيئة التي يكتب عنها إلا ما ينفذ منها من خلال وصوفات فنية صرفة، لا سيما في الآداب الأجنبية التي تهتم بالجانب الإنساني السردي على وجه الخصوص دون الدخول إلى تفاصيل تراثية أكثر خصوصية. مع التشديد على خصوصية الأدب المكتوب باللغة العربية المغاير لهذه الآداب حول كون اللغة تراثاً قي حد ذاته، وخصوصية هذه المتنقلة جغرافياً من بيئة إلى أخرى. علينا للخروج من هذا المحك أن ننتقل من حالة الاهتمام بأدوات الثقافة والتراث إلى الاهتمام الكامل بالثقافة والتراث نفسيهما، لأن هذه الأدوات – بما فيها من لغة - متغيرة بشكل دائم ومستمر. وإن كنا سنعول كثيراً على ميكانيكية التغيّر لتنتقل من أدوات التراث إلى التراث نفسه، فإن الحركة التأريخاني ة هي المقصودة في تعريفنا الأزلي للأدب وهو مناط اهتمامه الأوحد.

إن الأدب هو تاريخ الشعب المُصاغ بطريقة فنية – حتى لا أقول أكاديمية – والأدب الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتعرف القارئ من خلاله على تلميحات واضحة وسريعة لمجمل الواقع للبيئة التي يتناولها النص الأدبي: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتاريخياً وعسكرياً وأمنياً وكافة المرجعيات التي قد توضح جوانب البيئة بكل دقة. وعندها يصبح التشبث بأداة متغيرة هو نوع من الدوغمائية التي تعمل على قتل النص الأدبي وبالتالي على قتل المبدع أدبياً فيحول بينه وبين التطور من ناحية وبين الانتشار من ناحية أخرى.

ودون أن نلجأ للخوض عن مركزية الثقافة السودانية وهامشها، فإن ثقافة المركز الفعلية هي إنما خليط متميزة من جميع الثقافات السودانية المتعددة والمتشابكة ، بغض النظر عن أسباب تشكل هذه الثقافة الوسطية من أسباب سياسية واقتصادية مختلفة على مر التاريخ السوداني المعاصر والقديم على حد سواء. ويمكن اعتبار هذه اللغة الهجين صالحة للتصدير دون اللجوء إلى التعريفات الجغرافية والإحالات المعرفية لها على أي حال. متخطين ورطة التشبث بعنصرية اللهجة الجغرافية ومتجاوزين لحدود جذورها التاريخية إلى أفق سوداني أرحب، يكون في العنصر السوداني أشد تعميماً وأكثر وضوحاً. وليس المجال هنا لسرد نماذج من ذلك فالواقع الأدبي السوداني مليء بهذه النماذج المقروءة والمشاهدة والمسموعة

القائمة السودانية المدفونة تطول لتشمل أسماء تجعلنا نصاب بصدمة حقيقية عندما نعلم أن هذه الأسماء الكبيرة ما زالت تجهل طريقها إلى المتلقي العربي والعالمي، ولنا أن نتخيل وضع الثقافة والأدب السوداني إن كان أُتيحت له فرصة الوصول إلى خارج حدود القطر السوداني، لحصول المنافسة التي يستحقها مع نظيراتها من الثقافات والآداب الأخرى: علي المك، بشرى الفاضل، إبراهيم إسحاق إبراهيم، فضيلي جماع، عمر الدوش، مختار عجوبة، عبد العزيز بركة ساكن، محسن خالد، عيسى الحلو، محمود مدني، طارق الطيب، بثينة خضر، أمير تاج السر، محمد أحمد عبد الحي، يوسف عيدابي، محي الدين فارس، مصطفى سند، أبكر آدم إسماعيل، رانيا مأمون، ملكة الفاضل عمر، عاطف خيري، الصادق الرضي، عصام رجب، أنس مصطفى وغيرهم الكثير من الأسماء التي يجهلها حتى السودانيون أنفسهم ناهيك عن النقاد والمتلقين العرب وغيرهم.

وإذا أردنا الخوض في واحدة من هذه المناحي الأدبية في محاولة لتشكيل أنموذج نقدي لها، نجد أن لا أجدى من تناول الرواية السودانية كمثال أكثر خصوصية لحياة التراث والثقافة السودانية، وللوقوف على حركة الوعي والثقافة الكائنة في مجمل الأدب السوداني، لأن بقية الآداب لا تحتمل هذا العبء التاريخي أبداً إلا إذا استثنينا بصفة خاصة: المسرح والدراما والنصوص الملحمية. وعندما نتكلم عن الرواية فلا بد لنا عندها – دون نتعرض لمحاولة تقييم – أن نقف على عدد من أهم الروايات السودانية التي ساعدت كثيراً في التعريف بالبيئة والانتلجنسيا السودانية بشكل أكثر ملائمة لمتطلبات المرحلة الحالية من حالة "الانزواء" الأدبي أو المرحلة الجنينية إن جاز لي التعبير.

وإذا تناولنا رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" أو "عرس الزين" للأديب العالمي الطيب صالح، ورواية "الطريق إلى المدن المستحيلة" للروائي أبكر آدم إسماعيل أو رواية "أخبار البنت مياكايا" للروائي إبراهيم إسحاق سنجد أنه قد تكونت لدينا حصيلة مهمة جداً تساعدنا على فهم الشخصية السودانية من خلال فهم المعطى البيئي الواضح في كل رواية من هذه الروايات. وإذا رجعنا لروايات الطيب صالح التي نالت حظها الوافر من النقد والدراسات النقدية، بحكم عالميته، فإننا نجد أن بقية المنتوجات الأدبية للروائيين السودانيين لم تلق ذات الحظ، رغم أن معظمها لا يقل – من حيث الحبكة الدرامية واللغة ومقومات الرواية المعرفة – عن بقية روايات الطيب صالح. وإذا عرفنا أن المتلقي العربي أو غير السوداني بصفة أدق مستعد تماماً لمعرفة المزيد عن الأدب السوداني نجد أنفسنا أمام إشكالية أخرى تكمن في المبدع السوداني نفسه. الذي آثر الانزواء إلى عوالم الأسفير والأخوانيات، مكتفياً بذلك عن اقتحام حائط العزلة المضروب حوله إلى آفاق أوسع وأرحب.

إن الفهم المغلوط للأدب ولدوره، يُعد واحداً من أهم أسباب تأخرنا في مواكبة الآداب الأخرى ومجاراتها إن لم يكن سبقها، فليس الأدب وسيلة إمتاع ذاتية أو حتى جماهيرية بقدر ما هو حِرفة دبلوماسية في أسمى مقاماتها، وعمل تأريخي في واحدة من أهم خصائصها الداخلية. وربما كان ذلك هو السبب المباشر في نيل الطيب صالح جائزته العالمية، إذ أنه وعى تماماً هذا الدور الريادي للأدب، ونقل بحرفية لغوية تفاصيل الحياة والبيئة السودانية متمثلة في شخوص روايته. وبهذا المفهوم الحيوي للأدب نجد أن رواية كرواية إبراهيم إسحاق "أخبار البنت مياكايا" لا تقل أهمية وروعة عن رواية الأديب العالمي الطيب صالح. إذ يعتمد فيها الراوي على ديناميكية الصراع بين اللغة والأسطورة والتاريخ بجميع متناقضات هذه العناصر الحيّة والفاعلة. وكذلك قصة "عندما يهتز جبل البركل" أو رواية "صالح الجبل" للدكتور مختار ود عجوبة الذي يحتفي فيه بالخرافات متمثلة في شخوص روايته الذين لهم علاقات "سفلية" بعالم الجن والشعوذة كما هي في شخصية "فتح الرحمن" و "ود حبوبة" ولا يختلف اثنان على أن الروايتين لهما طابع استكشافي خطير جداً وهو أقرب إلى مزايا التنقيب في خبايا التراث والتاريخ، وما يجعل رواية الدكتور ود عجوبة رواية قيّمة بالفعل.

إن المهمة التاريخية الجسمية التي تقع على عاتق المبدع السوداني والناقد السوداني هي نقل هذا التراث الأدبي الثر إلى الآخرين، والانتقال من مرحلة إلغاء الآخر إلى اكتشافه، ومن مرحلة انتظار الآخر إلى الذهاب إليه لا سيما وأن الجو ملائم لمثل ذلك ، متى ما توفرت عوامل التفعيل الإيجابية. لأن المزاج الأدبي ليس مزاجاً ذاتياً صرفاً.

إن العلاقة بين المبدع والناقد أو فلنقل بين الكاتب والناقد على اعتبار أن الاثنين مبدعين هي علاقة لصيقة جداً، ولكن ميكانيكية هذه العلاقة ليست واضحة بالنسبة إلينا نحن كسودانيين، على وجه التحديد، وكعرب بشكل عام. الوضع الافتراضي لهذه العلاقة هي أبجدية كون الكاتب كاتباً في المقام الأول، والناقد قارئاً في المقام الأول. وعلى هذا فإن "وظيفة" الكاتب تنتهي بمجرد انتهائه فعل الكتابة والنشر للمتلقين، ويأتي هنا دور الناقد الذي يمارس "وظيفته" كقارئ، وعندما يستفزه نصٌ ما، فإنه يعكف على قراءته بعين احترافية هذه المرة. ومن هنا يتبين لنا أن الكتابة المستفزة "المبدعة" هي التي تجلب النقد، وبالتالي فهي المحرك أو الباعث الأساسي للحركة النقد. تماماً كالرسام الذي يستفزه منظر طبيعي ما، أو حالة شعورية معينة تجعله يشرع بتحليل هذه المشعورات والمرئيات ويترجمها إلى لوحة، ويبقى التحليل محصوراً في نطاق المدرسة التي يتعامل بها الرسام سواءً كانت إنطباعية أو تجريدية أو سريالية أو تكعيبية أو رمزية أو غيرها من مدارس الفن التشكيلي المختلفة. ومن مجمل هذه الدائرة الإبداعية نستطيع أن نوجد حدود الدائرة بالتركيز على تماساتها الكثيرة لنخرج في النهاية إلى حصيلة محددة هي: الفعل وردة الفعل.

مما سبق، نجد أن دور الحركة النقدية في حقيقته لا يقتصر على النقاد فقط، بل يقتصر على الكُتاب كذلك، فهي مسؤولية مشتركة، ومن الصعب أن نحدد هذه المسؤولية في نطاق جغرافي محدد، طالما أننا نتكلم عن "فن" أو "أدب" على اعتباره أحد روافد الفن الأكثر عبقرية. لا أزعم عنصرية أدبية، أو انحيازاً لهذا الجانب من الفن، ولكنه في نظري أكثر الفنون عمقاً ونضوجاً من الناحية الإنسانية. وعليه فلا نستطيع أن نقول أن النقاد المصريين "مثلاً" لا تقع عليهم مسئولية تتبع الحركات الأدبية في السودان "مثلاً" والعكس صحيح تماماً، فأنا لا أتكلم عن جغرافيا بل أتكلم عن قضية إنسانية في المقام الأول. الإبداع بغض النظر عن بيئة هذا الإبداع.

والنقد المقيد بجغرافيا محددة، أعتبره في حقيقته نقداً مقنناً لا يُساعد على التطوير. وعندما أقول "تطوير"، فإنني أعني التطوير الذي يشمل حركة النقد، وحركة الأدب على حدٍ سواء. فالملكات النقدية تحتاج إلى نصوص تشعر الناقد بالتحدي أول الأمر، في محاولة لتفصيص النص الأدبي، لغور أسباره وكشف خباياه، ويظل ذلك مستحيلاً في ظل تكرار النماذج البيئة الموحّدة. وعليه فإنني أرى أن المسؤولية مشتركة بين الكُتاب والنقاد السودانيين من جهة وبينهم وبين النقاد العرب من جهة أخرى.

فيما يختص بتشبث الأنتلجنسيا السودانية بثقافة محددة، فإن الحديث عنها يطول ليأخذنا إلى جدلية المركز والهامش والتي تناولها الدكتور أبكر آدم إسماعيل بإسهاب وعمق شديدين، وتكلم فيها عن إشكالية الهوية كحجر زاوية في هذه القضية. وهذه الإشكالية تتمحور في كوننا عرباً أم أفارقة في المقام الأول. وهذه الإشكالية الموغلة في الإغراق قد تقودنا إلى معرفة عامة عن وضع الانتلجنسي ا السودانية بشكل أكثر منهجية ودقة. وكما يرى الدكتور أبكر آدم إسماعيل – وأنا أتفق معه في ذلك – أن السودان بلد متعدد الثقافات، وأن مفهوم الدولة السودانية، ما هو إلا جزء أصيل من تراثها الإثني والديني والثقافي والتراثي ...إلخ. وهذه التعددية التي خلقت لنا تبايناً واضحاً في العادات والتقاليد والطقوس واللهجات أو حتى اللغات في بعض الأحايين كانت هي سر تغزل الأنتلجنسي ا السودانية في فترة ما، غير أنها كانت هاجساً اكثر تأريقاً لهم فيما بعد. وحتى اليوم فإن المتحدثين باسم الثقافة السودانية مازالوا يتغزلون بهذه التعددية دون أن يكونوا قادرين على حل إشكالية الهوية بشكل قاطع وجذري.

وربما لم تكن مشكلة الهوية، مشكلةً بالبُعد الأدبي لها عندما نتحدث عن تاريخ السوداني القديم، وتحديداً في العهد المسيحي، ولكن دخول الإسلام إلى السودان هو ما أوجد هذه المشكلة "مشكلة الهوية" ومنذ تلك الحقبة التاريخية وهذا الدخيل يمتد في العمق مشكلاً مداً حضارياً يهدف إلى إعادة إنتاج الآخر داخل هوية هجينة "إسلاموعربية" كما يوضح دكتور أبكر. وحتى تلك الحقبة التاريخية لم يخلق هذا المد الحضاري أي إشكالية تذكر، إلا بعد انهيار الحضارة العربية والإسلامية بدأت الإشكالية بالظهور. واختصاراً يمكنني أن أقول أن طفح ثقافات محددة، ومحاولات تشبث الانتلجنسيا السودانية بها، ما هي إلا امتداد طبيعي لهذا المد الحضاري غير المبرر، واستعلائية غير معلنة، أو معلنة في مواطن أخرى. وهذا ما يُفسر التصاق الانتلجنسيا السودانية بها، فالمسألة ليست إشكالية هامش ووسط، بقدر ما هي إشكالية عروبة من عدمها. وارتباط مفهوم العروبة بالإسلام من ناحية، وانتقال اللغة العربية إلى السودان والبدء في تداولها منذ بدايات الفتح الإسلامي لأفريقيا من ناحية أخرى يجعل من هذه الإشكالية إشكالية شديدة الخصوصية والعمق. وفي ظل سيطرة جغرافية لثقافات كان لها دورها التاريخي البارز في تهديد الكتلة السودانية بشكلها التعددي الواسع. أو يمكننا أن نقول أنه استعمار الداخل.

سقوط الانتلجنسيا العربية(4) 

أنا من المعروف عني كمفكر قومي هو أنني أدعو إلى النمط العلمي في تفكيرنا الوحدوي أو بالأحرى في تفكيرنا الثوري الذي لا يمكن إن يكون ثورياً دون إن يكون وحدوياً. الفكر العربي بشكل عام كنمط فكري في أوساط الانتلجنسيا العربية فكر يتميز بالتبشيرية أي فكر ينطلق من رغبات ومشاعر وانفعالات وليس من إدراك موضوعي أو علمي للواقع الموضوعي الذي يتعامل معه أو من إدراك موضوعي أو علمي للظاهرة التي ينشغل بها وهذا يعني خللاً وهذا الخلل الانتلجنسيا بشكل خاص، عندما أذكر الانتلجنسيا بهذا الإطار أعني ثمانون بالمائة. وهذا تقدير انطباعي من تجربتي الخاصة أستطيع إن أقول إن ثمانين بالمائة من الانتلجنسيا العربية تمثل أو تعكس هذا الخلل في تفكيرها ومن حسن الحظ إن هناك أقلية تفكر بشكل علمي أو ينفتح بهذا النمط عندما يراه ويتعامل معه، والأطروحة التي أريد إن أقدمها هي هذا الخلل في النمط الفكري الذي يميز الانتلجنسيا العربية وفي رأيي هذا النمط يعني ممارسات متعاقبة من قبل الانتلجنسيا يعني سقوطها ويجب إن يعلن عن هذا السقوط الفكري كي يمكن استبداله والانتقال منه إلى نمط علمي فالمشكلة الأولى هي الإعلان عن الخلل، عن سقوطه، وبشكل خاص إدراك الخلل والسقوط كي يمكن بعد تحديد المشكلة إن يتم الانتقال، هذا الانتقال طبعاً ليس شيئاً يحدث فجأة أو كتجاوب عقلاني مع تفسيره أو تحليله وإنما يمر بمراحل ويتطلب وقت، ولكن قبل إن أبدأ بتصحيح المسار يجب تحديد المشكلة، وانبه إلى إن أهمية الانتلجنسيا تعود إلى الواقعة التالية التي لا يمكن إن يختلف عليها كثير من الناس وهي إن الانتلجنسيا هي أداة الوعي، يعني مهما كانت المنطلقات الفكرية التي ننطلق منها أو التفاسير التي نرجع إليها في تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية وغيرها وسواءً أكان المنطلق سياسي أو اقتصادي أو بيولوجي أو ثقافي أو سيكولوجي أو …. إلى … إلخ.

 

هذا التفسير يحتاج إلى الوعي كي يعبر عن ذاته ويترجم نفسه إلى الواقع، الوعي له أداة وهو ما ننشغل به. وما ننشغل به أساسياً بشكل مخطط له هو الانتلجنسيا. إذاً هنا في ضوء التجارب السابقة رأيت إن أحدد قبل كل شيء ما أعنيه بالوعي، الوعي يعني قدرة الإنسان على الوقوف على مسافة ما من الواقع الذي ينشغل به أو يعايشه ومن ذاته لا فينظر إلى ذلك الواقع وإلى ذاته وكأنه ليس جزءاً من ذلك الواقع أو من ذاته ثم يحلل ويقيّم ومن ثم بعد الدراسة والتحليل وتقييم ما ينشغل به يرفض أو يقبل إما جزئياً وإما كلياً ثم يفسر لماذا يقبل ما يقبل أو يرفض ما يرفض سوءاً أكان الرفض أو القبول كلياً أو جزئياً.

 

أداة الوعي إذاًَ في الانتلجنسيا التي تجد نفسها أداة هذا الوعي فعندما يختل الوعي يختل تفسير الواقع وعندما يختل تفسير الواقع يختل العمل وخصوصاًً عندما يكون يفترض به إن يكون ثورياً أي عملاً قصده وغايته وشرعيته وتبريره أشياء تكون في إدراكه للواقع إدراكاً صحيحاً كي يمكن إن يسيطر على الواقع لأنه دون إدراك للواقع والجدليته وطبيعته وإمكاناته وسلبياته وإيجابياًًًته في ضوء مقاصد معينة لا يمكن تطويعه، وهذا هو العلم . إدراك الواقع كي يمكن السيادة عليه أو تطويعه.

 الانتلجنسيا العربية كانت تنطلق من منطلقات أخرى " رغباتي ومشاعري هي التي تحدد مواقفي"، وما يجب إن يكون حلّ محل ما يمكن إن يكون أو حل مكان ما هو كائن أو يمكن إن يكون في ضوء ما هو كائن هذا من ناحية نظرية. هذا، أولاً.

 ثانياً، ما أريد إن أقوله هنا لا أحتاج إلى التمثيل على هذا السقوط. في كتاب أعده حالياً " سقوط الانتلجنسيا العربية" أسمي الرحلة من عام 1961 إلى اليوم مرحلة الهزائم والنكبات، نرواح في مكاننا ونتلقى الضربات ضربة ضربة وعندما نمارس معركة ما، ننهزم أو نحيّد.

 بالواقع ما أعنيه هنا من ناحية عامة، وخصوصاًً في لقاء كهذا لا أحتاج إلى التدليل على هذا السقوط، لن هذا السقوط حدث، نعانيه كلنا، نعيشه، نعيش آثاره، المشكلة هي تحديد الخلل، أو السبب، اريد إن أقف في هذا الكتاب عند الانتلجنسيا كسبب مباشر بسبب ما ذكرته لأنها لأداة الوعي، وإن اختل الوعي تختل الممارسة طبعاً في الكتاب أذكر عشرات الأمثلة من تجربتي الخاصة وعلى الصعيد القومي بشكل عام، هنا أريد إن أقف أمام أهم الأمثلة التي تدل على الخلل الذي ذكرته، وهي تنحصر في أهم المعارك التي واجهتنا والتي لا تزال تواجهنا، معركة الوحدة قبل كل شيء وفوق كل شيء، معركة تحرير الأرض المحتلة من الاحتلال الصهيوني-الأمريكي، معركة سياسة الصهيونية، ومع الأسف –وبعد خمسين منه- لا أزال اشعر إن هناك نقص في إدراك أبعاد السياسة الصهيونية، أوكيفية التصدي لها، ومعركة الديمقراطية…

 

هذه هي المعارك الأساسية، طبعاً هناك معارك أخرى عديدة، لكن أنا أعين المعارك الأساسية التي ترتبط بها معارك أخرى يمكن الإشارة إليها، وهنا أريد الإشارة إلى شيء، هذا لقاء وليس حتى محاضرة، فإذاً كل ما يمكنني صنعه هو الإشارة الجديّة الرزينة العابرة إلى هذه الموضوعات، إن أراد أحد الأخوان إن أن يستفهم عن الجزئيات عندي كتبي، تناولت أساسياً أهم جوانب العمل الوحدوي الثوري، لأنه عادة في لقاءت مثل هذه اتبيّن بشكل مستمر إن الأخوان يثيرون مسائل أخرى تتطلب وقفة طويلة وهذه تخرج عن سياق محاضرة أو لقاء فكري كهذا اللقاء.

 هذه المعارك الأساسية التي تدل في رأيي على سقوط الانتلجنسيا العربية أقدمها كدليل على الخلل الذي أشرته وهو عجز هذه الانتلجنسيا عن أي تفكير موضوعي. وأذهب إلى أبعد من ذلك، الواقع الموضوعي غير موجود بالنسبة لهذه الانتلجنسيا ومرة أخرى أقول لدى حوالي ثمانون بالمائة من هذه الانتلجنسيا وفي هذا الصدد أعيد، سوف أذكر في كتاب "سقوط الانتلجنسيا العربية" سأذكر عشرات وعشرات من الأمثلة على ذلك على الصعيد الفكري العام، السياسي العام وعلى صعيد تجربتي الخاصة سوف أذكر بعض الأمثلة.

 أولاً، نأخذ مثلاًً معركة الوحدة، يمكن القول إن النضال الوحدوي بدأ سنة 1875، وبذلك التاريخ ابتدأ التفكير القومي والدعوة إلى الوحدة العربية، في مرحلة النضال ضد الاستعمار كان النضال القومي ينشغل بتحرير الوطن العربي من الاستعمار.

 كان معذور إن لم يدرس علمياً  كيفية الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة، لأن المشكلة الوحدوية بالنسبة لنا جميعاً. يجب إن تكون منطلق لكل شيء، تتقدم على كل شيء، وتقيس كل شيء وتتحكم بكل شيء وتطوّع كل شيء لمصلحتها، لأنه دون دولة الوحدة ليس لنا أي وجود والويل … الويل …. الويل للأجيال العربية القادمة إن بقيت التجزئة كما هي، سيكون المصير شينع مثلاًً، الشعب العربي سوف يبلغ تعداده، حسب إحصاءات الأمم المتحدة عام 2025، أربعمائة مليون.

 أنا لا أدعو إلى دولة الوحدة بعنهجية قومية، أدعو إليها كضرورة تاريخية، لأن الوحدة أداة تعبئة الإمكانات والطاقات والموارد العربية، دون هذه الأداة تبقى هذه الطاقات والموارد مبعثرة، مباحة، كما نراها الآن.

 أكبر جريمة في تاريخنا هي إن أعظم ثروة تتوفر لنا وهي الآن ثروة البترول التي يمكن إن تجدد الوطن العربي ومن فيه إن استخدمت بشكل فعّال، مستباحة.

 في ذلك الوقت كان النضال القومي يتركز على تحرير الوطن العربي وكان يؤمن بأن دولة الوحدة سوف تتحقق عفوياً وتلقائياً عند التحرر من الوجود الاستعماري، وأنا أذكر أيام الاحتلال الفرنسي كانوا يقولون لنا عندما نتحرر من الاحتلال الفرنسي والاحتلال البريطاني سوف تتحقق دولة الوحدة. نظروا إلى دولة الوحدة نظرة ميتافيزيقية، أعطوا الأمة جوهر قومي وأعطوها أيضاً جوهر وحدوي، بما أننا أمة واحدة فإذاً الدولة الواحدة سوف تعكس هذا الجوهر الوحدوي وتتحقق.

 

طبعاً هذا التفسير سيء جداً، ومفهوم مغلوط جداً، لكن في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في نضالهم ضد الاستعمار كانوا معذورين إن لم يدرسوا ظاهرة التوحيد السياسي في التاريخ كطريق إلى تحقيق آلية الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة، لكن بعد الاستقلال ليس هناك أي عذر، وخصوصاًً ابتداء من الأربعينات والخمسينات ابتدأت الانتلجنسيا العربية بقطاعات صغيرة منها تتكلم "علمياً" وباسم العلم والمنهج العلمي وإلى آخره…. بتحديد الطريق إلى دولة الوحدة، ولكن لم يظهر أحد يقول إن أردتم إن تكونوا ذوي منهج علمي، عقل موضوعي، عقل علمي في تحديد طريق الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة يجب إن تدرسوا الظاهرة التي تنشغلون بها وهي ظاهرة التوحيد السياسي. هذه بقيت شيء غريب لم ينشغل بها أحد، لكن كل من تكلم وحدوياً تطوع في تحديد كيفية الانتقال من حالة تجزئة إلى حالة وحدة بهذا الشكل التبشيري.

 هنا نجد مثلاًً أول على هذا الخلل الذي ذكرته. العلم يدرس وقائع ظاهرة معينة ثم يصنفها ويتحقق منها، يقارن بينها، ثم يستخرج العام من الخاص الذي تمثله الحوادث والظواهر الفردية التي يرجع إليها. هذا الخلل كان معناه سقوط وتعثر العمل الوحدوي، هذا طبعاً ليس السبب الوحيد، أنا أتناول جانب معين. هناك أسباب عديدة أخرى، خارجية وداخلية للسقوط ولكن الوعي هو مسؤول عن تحديد هذه الأسباب والعمل في ضوئها علمياً وعندما يكون وحدوياً يجب إن يحدد طريق الخلاص بشكل معقول يمكن إن يتحقق، وإن أراد هذا المعقول الذي يمكن إن يتحقق يجب إن يكون علمياً، وكونه علمياً يعني دراسة ظاهرة التوحيد السياسي عبر التاريخ، وأنا، هذه الصفات أنشغل بها منذ الستينات، أكتب حولها وكتاب " من التجزئة …إلى الوحدة" و"النظرية الاقتصادية والطريق إلى الوحدة العربية" وكتاب "حدود الهوية  القومية: نقد عام" هي الكتب الأساسية التي وضعت بها هذه النظرية الوحدوية التي وصلت إليها عن طريق دراسة تجارب التوحيد السياسي عبر التاريخ يعني منذ إن بدأت بدراسة الموضوع في أوائل الستينات إلى إن بدأت بإصدار هذه الكتب في أواخر السبعينات استمرت الدراسة حوالي 15-16 سنة وأعمل 12-13 ساعة في النهار الواحد وأعيش في عزلة تامة في مكتبي وأعدّ هذه الكتابات باللغة العربية.

 هناك كتّاب ومفكرون معروفون كانوا ينتقدون النتائج التي وصلت إليها في كتاب "من التجزئة …إلى الوحدة" وصلت إلى نتائج معينة، قوانين، أو ما أسميته قوانين، أنا شخصياً لا أحب كلمة قوانين، أفضّل كلمة انتظامية على كلمة قوانين، قوانين أساسية ثلاثة: إقليم القاعدة-شخصنة السلطة –المخاطر الخارجية وقوانين ثانوية، اعتبرتها ثانوية ليس لأنها ليست مهمة بل لأن طاقتها الوحدوية تحتاج إلى توفر القوانين الأساسية كي تكشف عن ذاتها، حتى اللغة لا يمكن اعتبارها قانون أساسي وانظروا إلى العالم حولكم تكتشفوا ذلك بسهولة المصلحة الاقتصادية أو  العنصر الاقتصادي لا يمكن اعتبارها قانوناً أساسياً. قانون ثانوي له طاقة وحدوية ولكن يجب إن تتوفر له القوانين الأولى وخصوصاًً إقليم –القاعدة…

 مهما كانت النتائج التي وصلت إليها بصرف النظر عن درجة قوتها العلمية، على الأقل عندما ترد عليّ – يجب إن تذكر شيئين: إما إن تقول لي يا نديم البيطار- أنت كذاب منافق لأنك زوّرت وقائع التاريخ الفرنسي والبولندي والروسي… وهلمجرا… أنا مسكت التاريخ من الطور القبائلي.. إلى القرن العشرين، ذكرت عشرات الأمثلة فيه، كيف أنها كلها كانت تكشف عن دور جزء من الأجزاء المدعوة إلى الوحدة أو الكيانات السياسية التي كانت تتحد، كان هناك جزء، كيان معين، يقوم بدور المحور أو المنطلق لعملية التوحيد السياسي وقد فوجئت كعالم اجتماع بتكرار هذا القانون في جميع تجارب التوحيد السياسي، ودرست التجارب التي فشلت أو لم تنجح تبينت أنها كلها كان ينقصها إقليم القاعدة.

 أو إن تبرز تجارب توحيد سياسي أخرى لم تعتمد إقليم قاعدة واستطاعت إن تحقق وحدتها. دون هذين  الأمرين يجب إن تسكت وتحترم نفسك علمياً وتقول أنا لم أدرس هذا الموضوع كي أرد عليه إيجابياًًًً أو سلبياً ولكن لي تساؤلات ولكن بدلاً من ذلك كان المثقفون العرب يقفزون إلى أحكام قاطعة، حازمة، وبعض منهم معروفين تماماً وأنا أقول إن التخلف العربي هو الذي جعل منهم " مفكرين كبار" . بعض منهم لو كانوا عندي طلاب قسم علم اجتماع-سنة ثانية- لا يمكن إن ينجح-غير معقول- إن تكتب عن سوسيولوجيا الثورة ولا تذكر أي ثورة في التاريخ تستشهد بها- تكتب عن الانتحار ولا تذكر أي دراسة عن الانتحار أو أي حادثة انتحار.

 أنا أعتبر إن هذا الخلل يعني تشويه الواقع، غياب العقل  عن الواقع، ولذلك كان الواقع يسبقنا ويفاجئنا. ولا نستطيع تطويعه. في أحسن الحالات كنا نتذيل بذيل الواقع.

 العقل العلمي يستطيع إن يتقدم الواقع على الأقل، بدراسة الظاهرة عبر التاريخ. وهذا بده علمي، لا أحد يجادل بذلك

 ثانياً: معركة تحرير فلسطين، وهنا كيف يمكن لعقل إن يقوم بما قامت به منظمة التحرير ؟ أو تقيم معركة التحرير على استراتيجياً كالاستراتيجيا التي انطلقت منها المنظمة، في ذلك الوقت خضت معهم معركة فكرية على صفحات المجلات، خصوصاًً صفحات " شؤون فلسطينية" و"مواقف" وجريدة "المحرر"وهناك مقال نشر في "شؤون فلسطينية" في حوار مع "المنظمة" و"فتح" و"الجبهة الشعبية". أنا موقفي كان التوحيد هو طريق التحرير والتحرير لا يمكن إن يكون طريق التوحيد، والتحرير القائم في ذاته لا يمكن إن يحرر أي شيء، لا يمكن إن يحرر شبر واحد من فلسطين. طرحوا استراتيجية التحرير على طريقة الصين وفيتنام والجزائر دون إن يأخذوا بعين الاعتبار الأوضاع الجغرافية والطبوغرافية والديمغرافية التي يجب إن تتوفر لأي حرب عصابات ناجحة فعّالة، كأن الواقع الطبوغرافي غير موجود. أنا لا أبالغ عندما أقول إن هذه الانتلجنسيا وكأن الواقع الاجتماعي السياسي ليس له وجود عندها، " أنا أصنع به ما أريد" . القضية قضية  رغبات، القضية قضية أخلاقية. ما يجب إن يكون يحل محل ما هو كائن، وما هو كائن لا علاقة لي به. "دوسوا قدمي لأن رغباتي صادقة" . لا أبالغ، كيف يمكن لعقل  يفكر بأي شكل موضوعي، كيف يمكن لعقل في تراثه ابن خلدون إن يقدم على عمل مثل هذا.

 حرب التحرير الشعبية، تعني ماذا؟ على طريقة فيتنام والصين والجزائر، تعني بالواقع بكلمة هي احتيال على تفوق العدو التكنولوجي والعسكري لأنه-اعتراف بهذا التفوق واحتيال عليه- دون هذا التفوق والاعتراف به لا تكون هناك أي حاجة لحرب عصابات، ألجأ إلى حرب نظامية، أقابله جيش لجيش، لكن لكي تتوفر لي هذه الفرصة أسأل كيف أعمل؟ قبل إن أفاجأ العدو في مكان أعينّه، في وقت أختاره أضربه بكل قوتي-كما يقول ماوتسي تونغ- وأختفي قبل إن يستخدم تفوقه التكنولوجي العسكري، أختفي، لكن لكي أختفي يجب إن تتوفر لي الأوضاع التي يمكن إن أختفي بها وهي الأدغال والأحراج والغابات والمستنقعات والجبال والوديان النائية. والكثافة البشرية التي تسمح لي بأن أختفي فيها كما تختفي السمكة في المحيط. كل هذه الأشياء غير متوفرة. الكثافة السكانية على – جانب فلسطين المحتلة وليست في جانبنا، والنسبة السكانية كانت في الجزائر عشرة إلى واحد بالنسبة للفرنسيين، في فيتنام 35 إلى واحد في الصين مئات إلى واحد، بالنسبة لفلسطين واحد إلى عشرة. وذكرت في مقال نشرته في مجلة شؤون فلسطينية بعنوان " الفكر المقاوم أعلى مرتبه من مراتب الفكر التبشيري" أثنا عشر سبباً موضوعياً من ديمغرافية وطبوغرافية توفرت لتلك الحروب التي يأخذونها كنماذج ولا تتوفر لنا في معركة تحرير فلسطين وبهذا المقال نبهت إلى إن أي استراتيجياً غير فعّالة في الواقع سوف ترتد على أصحابها من الداخل وتمزقهم من الداخل وتمزق قضيتهم معهم، والشعب ينفض عنها سريعاً وهذا ما حدث للمقاومة في بداية السبعينات مثال على ذلك، وأنا فوجئت فيه. سنة 1971 رجعت إلى طرابلس، هناك مجموعة الأخوان الذين انتصروا للمقاومة وقالوا لي -يانديم- منذ سنتين أو ثلاث كان يأتي شخص واحد من المقاومة إلى طرابلس ويجمع تبرعات للمقاومة، مائتي ألف خلال ساعتين والآن إذا جاء أحدهم فإنه لن يجمع مائتا ليرة خلال ساعتين. خاب أملهم. 

هذا الخلل موضوعي، الواقع الموضوعي عند المثقف العربي ليس له قيمة، " أصنع من الواقع الموضوعي ما أريده لأن نواياي صادقة وقضيتي عادلة". طبعاً دفعنا الثمن كما دفعنا الثمن في المثل الأول،تكريس التجزئة. عملنا للوحدة فكرسنا التجزئة. كانت النتيجة عكس ما نريده. لماذا؟. في المثل الثاني: عملنا للتحرير فكرسنا الاحتلال، رغم أنفسنا، رغم إرادتنا، لأن نظرتنا إلى الواقع كانت مختلة، لا يمكن إن تسود الواقع. إذا كان هناك من بده علمي استطاع به الإنسان إن يسود حالياً الواقع هو: أنني أدرس الواقع كي أدرك الواقع وبإدراك الواقع أحاول إن أطوّع الواقع، دون إدراك الواقع لا يمكن لي إن أسود

 الواقع. الواقع ليس له وجود عند المثقف العربي.

 ثالثاً: حول سياسة أميركا الصهيونية، منذ خمسين سنة نكتب حول سياسة أميركا الصهيونية وكأن سياسة أميركا الصهيونية شيء عائم في الفضاء ليس له جذور وليس له علاقة مع أي نظام في هذا العالم. ليس هناك دراسات تربط سياسة أميركا الصهيونية بطبيعة النظام الأميركي. هذه سياسة أميركا الصهيونية، وأميركا لها نظام والنظام هو المسؤول مباشرة-على الأقل- عن هذه السياسة، إذاً أدرس هذا النظام، طبيعة النظام، جدلية النظام، وارتباط هذه السياسة به. في سنة 1965 نشرت مقال في "دراسات عربية" العدد الخامس، ذكرت فيه " أزمة الأعلام العربي في أميركا" وكتبت ما قلته الآن، ثم حللّت طبيعة النظام الأميركي في ذلك الوقت واستشهدت بباحثين أميركيين-يعني أنا لم أتكلم- تركت الباحثين الأميركيين يتكلمون عن طبيعة الكونغرس والكيفية التي يعمل بها الكونغرس والمؤثرات التي تحدد الرأي العام. إذا كان ما يقوله هؤلاء صحيح. هذا ما يقوله هؤلاء بالسياسة الأميركية بسياق عام ولا علاقة لهم بالعرب وإسرائيل والقضية . إذاً لا يمكن الاحتكام إلى أميركا. وكذلك، السلطة التنفيذية والتركيب الإيديولوجي للنظام الأميركي. وطالبت في نهاية المقال المؤلف من 20-25 صفحة بسحب مكاتب الإعلام العربي من أميركا لأنه لا فائدة من وجودها.

 

وقد قضيت في كندا واميركا حوالي الثلاثين سنة لم ألقي كلمة واحدة، محاضرة واحدة حول القضية العربية وأرفض قطعياً وتماماً إن أشرح قضية العرب هناك لأنه لا فائدة في واقع لا يمكن إن ينفتح لأي شيء منها. وكتبت منذ عشر سنوات كتاب " هل يمكن الاحتكام إلى الولايات المتحدة في النزاع العربي- الإسرائيلي؟" وهذا توسيع لتلك المقالة. وفي كل هذا الوقت ماذا كانت تعمل الانتلجنسيا العربية؟ استمرت في تلك الطريقة التبشيرية. ما يجب إن يكون "قضيتنا عادلة". وبتلك القناعة الغريبة بأن الأميركان سوف يقتنعوا، وحتى الآن نستمر في شرح قضيتنا وكلما جاء وزير خارجية جديد أو رئيس جديد وألقى تصريح- محايد إلى حد ما- نفرح ونهلل ونقول إن هناك شيء جديد في السياسة الأميركية، ولازلت أذكر عندما عيّن شولتز وزير خارجية في إدارة ريغان هللوا له وقالوا إن هذا لديه شركات وملياري دولار في الخليج وكان في المحصلة أسوأ من غيره. وأنصح كل واحد إن يقرأ كتاب بول فندلي " من يجرؤ على الكلام"، كان فندلي الصوت الأميركي الوحيد في الكونغرس الذي يدافع عن قضايا العرب، ليس لأنه يحب العرب ويكره الآخرين، بل لأنها قضية عادلة وكان معه ثمانية من أصل عربي في الكونغرس كتلة واحدة وطاردهم اليهود في الانتخابات اللاحقة وأسقطوهم كلهم واحداًً بعد الآخر . فولبرايس رئيس اللجنة الخارجية في الكونغرس طاردوه في ولايته وأسقطوه رغم أنه من أكبر الأعضاء في التاريخ الأميركي.

 رابعاً: معركة الديمقراطية، تتكلم الانتلجنسيا العربية أيضاً بطريقة تبشيرية عن الديمقراطية وكأن الديمقراطية دستور، كان الديمقراطية نوايا حسنة. وقفة قصيرة أمام بلدان العالم الثالث، لماذا أفلست الديمقراطية في هذه البلدان كلها تقريباً ما عدا عدة بلدان صارت حديثاً في أميركا اللاتينية. مشوهة تماماً لماذا؟ هل لأن كلهم سفلة. يتآمرون على الديمقراطية. عندما تكون الديمقراطية مشوهة في الأكثرية الساحقة من بلدان العالم الثالث، إذاً هناك عطل أساسي بالواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، التاريخي لهذه البلدان يمتنع على الديمقراطية الصحيحة. وعلى سبيل المثال قال جيفرسون: "الديمقراطية مستحيلة التحقيق لأنها تحتاج إلى كائنات مثل الآلهة" وجيفرسون هو أب الديمقراطية الحديثة ولكن أراد التحذير بأن الديمقراطية ليست مسألة سهلة، بل لها أوضاع موضوعية وأوضاع اقتصادية وأوضاع اجتماعية وأوضاع ثقافية وأوضاع تاريخية، إن لم تتوفر هذه الأوضاع، لا يمكن إن تتوفر ديمقراطية صحيحة.

 الديمقراطية ليست قضية تبشير أخلاقي، بل قضية أوضاع موضوعية. الديمقراطية ابتدأت في أوروبا في عصر النهضة، وثورة بعد أخرى وثورات سياسية لم تحتاج إلى ثورة علمية فقط وإلى الثورة الصناعية فقط، منذ القرن السابع عشر أي حوالي أربعمائة عام من الثورات المتتالية، والحروب الأهلية.. حتى استقرت الديمقراطية. 

الديمقراطية تعني إنسان عقلاني، يحتكم إلى عقله. الديمقراطية تعني إنسان متزنٍ، إنسان خسر علاقاته العضوية في المجتمع التقليدي ويحتاجها إلى شيء جديد، أي على استعداد إلى إن يتكون، ينتمي إلى شيء جديد … إلخ.

 دلّني على دراسة واحدة، وقفت عند هذا النوع وحللت الأسباب النفسية، الأسباب الاجتماعية، الأسباب الثقافية، الأسباب التاريخية، التي تحتاج إليها الديمقراطية كأوضاع موضوعية كي يمكن إن تكون سليمة.

الانتلجنسيا الكردية(5)

انقسامات قبلية تعيق تحقيق الحلم 

الكتاب: الأكراد وبناء الأمة

الكاتب: مارتن فان بروينسن

الناشر: معهد الدراسات الاستراتيجية 

لا يمكن النظر الى واقع الجماعة الكردية، وظروف حياتها، من دون النظر الى العوامل العديدة المؤثرة التي ساعدت في اندماجها في الدول وأصبحت جزءاً من نسيجها الاجتماعي على الرغم من ان هذا الاندماج لم يلغ احساس هذه الجماعة بوجود هوية مشتركة بينها ولا كثرة الانقسامات الداخلية بين تجمعاتها، وقد ساعدت بعض الحركات والأحزاب السياسية والدينية في تعميق هذه الانقسامات وتكريس الحدود النفسية بينها.

في هذا المبحث، استخدم البروفسور مارتن فان بروينسن، مصطلح "المجتمع الكردي" ومصطلح "الثقافة الكردية". واذ يعتبر ان هذا المجتمع مؤلف من عناصر متغايرة، فانه يضيف الى الكرد، الأقليات المسيحية واليهودية، والعلوية، والكاكائية، والايزيدية، ولكن هذه الاقليات التي لا تعتبر نفسها كردية على وجه العموم، تنزع الى نوع من علاقة متأرجحة، او متضاربة مع الهوية الكردية.

يضاف الى ذلك، لا يمكن النظر الى الاثنية كتعبير موضوعي عن سمات ثقافية، بل هي نتاج تفاعل اجتماعي، وهي عرضة للتغير بفعل النشاط السياسي، خصوصا وان الدول التي تتوزع الاكراد انتهجت جميعا سياسات ترمي الى تغيير الخارطة الاثنية، ولا سيما في تركيا التي عملت على الغاء الاثنية الكردية، في حين انخرط العراق وايران، في مساعي الابادة الاثنية، بدرجات متفاوتة.

في ضوء هذه الظروف برزت حركة "قومية" كردية منذ ستينيات القرن الماضي، كان لها اثر عميق في تحديد "الهوية الذاتية" عند الاكراد، وهو ما فتح الباب امام العصبيات الجهوية الضيقة على حساب الانتماء الى هوية اثنية اوسع مشاركة، ويمكن مشاهدة ذلك في "كردستان العراق"، حيث ادت المنافسة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين (الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني)، الى ترسيخ انقسام المنطقة الى رقعتين متباينتين ايكولوجياً واجتماعياً وثقافياً، منطقتين تشعران بتميزهما الواضح عن بعضهما.

الأثنيات

وتتفق الدراسات الحديثة عن الاثنيات والهوية بأن الوحدة او التنوع الثقافيين ليسا، بذاتهما، عاملين حاسمين، ورغم ان جاذبية فكرة التاريخ المشترك والثقافة المشتركة ذات اهمية بالغة في تحريك العاطفة الاثنية او القومية، فان من الواضح هو حضور ذلك الحس المشترك بالهوية وسط القبائل المتنوعة "موضوعياَ" في خصائصها الثقافية والسابق لعصر انبثاق القوميات، الا ن الفوارق الثقافية سرعان ما اخذت تفقد الكثير من اهميتها بسبب الهجرة الواسعة والتمدين، وفي بيئة المدن الكبرى لا يهم ان كان اجداد المرء رحلاً ام فلاحين صغاراً، وهذا الامر ساعد في توسيع الهوة الثقافية الفاصلة بين اكراد تركيا والعراق وايران.

ان انفصال التواريخ خلال السنوات الخمس والسبعين الاخيرة، واختلاف عمليات التشارك الاجتماعي بين الجماعات الكردية وسمت اكراد كل بلد بميسم مختلف عن اكراد الدول المجاورة، ورغم ان القوميين الاكراد يرعون حلم قيام "كردستان موحدة ومستقلة" فقد اخذ مفهوم حق تقرير المصير يهيمن على الخطاب السياسي، حتى غدا، اواخر السبعينات، الهدف الأسمى لكل الاحزاب والمنظمات الكردية في تركيا والعراق وايران.

وكان السوسيولوجي البريطاني انتوني د. سميث قد قام بوضع تمييز واضح بين طريقتين مختلفتين جذرياً الى نشوء الأمم، وينبع هذان الطريقان في اصولهما من نمطين تجريديين من الجماعات، وهما: القوم والاثنية.

ولكن من الملاحظ ان مبحث سميث في هذا المجال لا ينطبق تماماً على حالة الأكراد، على الرغم من انه مفيد لفهم لوضع الكردي. اذ يستخدم سميث الكلمة الفرنسية" اثنية ethnic ليصف جماعات تشترك في اساطير معينة عن اصلها ومنحدرها، كما انها ترتبط برقعة ارض معينة، وتمتاز على الاقل ببعض العناصر الثقافية المشتركة، وبوجود احساس بالتضامن بين (معظم) افرادها. وان هذا الوعي بالانتماء المشترك هو ما يميز الاثنية، عن القوم الذين هم جماعة ذات ثقافة مشتركة واساطير مشتركة عن الاصل، لكنها تفتقر الى التضامن كما تفتقر الى النزوع المقصود للحفاظ على حدودها المميزة.

اندماج

اخذت عمليات اندماج الجماعات في اثنية كردية كبرى تواجه في عقد الثمانينات بروز هويات اثنية اقل ميلاً الى الاندماج. وهنا نستطيع المقارنة مع القومية الكاتالونية في اسبانيا، مع فارق ان الاثنية الكردية هذه المرة وجدت نفسها في وضع شبيه بوضع الاثنية الاسبانية. ان بروز هذه القوى النابذة للمركز (اي المبتعدة عن الاثنية الكردية) يرجع، الى حد معين، الى نجاح الحركة القومية الكردية في تعزيز الوعي القومي وارساء البنية التحتية "للأمة الكردية". وهناك على الاقل شكلان مختلفان لهذا الانبعاث الاثني المتشظي تمكن ملاحظتهما: خصوصية ـ لغوية ـ جهوية (بادينان مقابل سوران) في كردستان العراق، ونزعات انفصالية عند الطوائف الدينية والاقليات اللغوية (الناطقون بالزازائية والعلويون) كما في تركيا.

ان ادراك وجود فوارق اقتصادية وثقافية واسعة بين الجزء الشمالي الناطق بالكرمانجية (بادينان) والجزء الجنوبي الناطق بالسورانية من كردستان العراق، ليس بالامر الجديد. فقد كان ذلك سبباً رئيسياً في الصراعات داخل الحركة الكردية منذ بداية الستينات في اقل تقدير.

ونشب في مطلع الستينات صراع ضار على زعامة الحركة القومية الكردية بين البارزاني وحلفائه القبليين من جهة، والمثقفين الجامعيين، الحضريين، الناطقين بالسورانية من اعضاء المكتب السياسية للحزب الديموقراطي الكردستاني، من جهة أخرى، وكان هذان المعسكران المتخاصمان يمثلان فئات اجتماعية متضاربة، معززة ببعض المصالح الطبقية المتناقضة، وتباين وجهات النظر في الصراع السياسي، كما كانا يمثلان منطقتين رئيسيتين مختلفتين في كردستان العراق. فاز البارزاني في الصراع، عسكرياً اول الامر، ثم سياسياً فيما بعد. وتمكن البارزاني من استعادة بعض خصومه السابقين الى صفوفه، وكسب بعض السياسيين الجنوبيين، فنجح بذلك في توحيد الكرد من مختلف المناطق بزعامته. وبقيت الحركة موحدة توحيداً متيناً رغم الفوارق اللغوية والدينية التي لم تعد تقسمها، فظل الحال على هذا المنوال حتى الانهيار المفاجئ للحركة في آذار (مارس) 1975.

أما الحركة التي عاودت الظهور في السنوات اللاحقة فقد اتسمت بمنافسات ضارية بين زعماء يرتكزون الى قواعد نفوذ محلية؛ ومن ابرز هؤلاء الزعماء جلال الطالباني الذي رسخ نفوذه الأقوى في منطقة السليمانية، ونجلا البارزاني، ادريس ومسعود، اللذان يرتكز نفوذهما، شأن ابيهما، وسط عدد من قبائل بادينان.

ورغم تغير كثرة من الأوضاع منذ عقد الثمانينات، بقي عنصر واحد ثابتا هو الاستقطاب بين الطالبانيين والبارزانيين. والسبب في هذا الثبات يرجع، في رأينا، الى ان هذين الزعيمين يمثلان، اكثر من سواهما، الانقسام بين "سوران" و"بادينان" اي بهدينان، مثلما يمثلان التصورات المسبقة التي تحملها كل منطقة من هاتين المنطقتين عن نفسها وعن المنطقة الأخرى. فلا السياسات القمعية التي انتهجها صدام حسين ضد الاكراد، والتي بلغت ذروتها في حملات الابادة على المواقع الكردية عام 1988، ولا الفرص السخية التي قدمها انشاء الملاذ الآمن عام 1991 بحماية دولية، استطاعت ان تقنع الزعماء الأكراد بوضع مصالحهم المشتركة فوق ما عداها. وتواصلت المنافسات بين الطرفين بل احتدمت وتفاقمت مما ادى هذا الوضع الى حرب اقتتال الاخوة التي اندلعت عام 1994، واستمرت، مع بعض التقطعات، بفضل التدخل الدولي، حتى عام 1998. وعمد "الحزب الديموقراطي الكردستاني" الى طلب الدعم من قوات صدام حسين لاقصاء "الاتحاد الوطني الكردستاني"، المتهم بالتواطؤ مع ايران، عن العاصمة الاقليمية اربيل. ومنذ ذلك الحين نشأت في واقع الامر حكومتان اقليميتان، واحدة في اربيل وأخرى في السليمانية.

وأسفر الصراع بين "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"الحزب الديموقراطي الكردستاني" الى تعميق الهوة بين "سوران" و"بادينان" (رغم ان سيطرة "الديموقراطي الكردستاني" تتجاوز نطاق بادينان وحدها). وتبلور في هاتين الرقعتين ميل لصعود النزعة المحلية، والتحامل السلبي ازاء الآخر، ولكن يصعب سبر مدى استشراء هذه الظاهرة، فلا نعرف ان كانت ضيقة أو واسعة. وهناك ما يشير الى ان الزعماء في منطقة السليمانية حرضوا على مواجهة خطر السيطرة المزعوم من اهل بادينان. كما ان الاستياء السياسي من الطالباني وحزبه في بادينان يتخذ احيانا صيغة موقف سلبي من اهالي السليمانية، او لربما من "سوران" بعامة. 

الثقافة ووظيفة المثقف(6)

هل فقدت الثقافة دورها في التنمية الاجتماعية؟ وهل تراجع دورها نتيجة للتطورات المتلاحقة في مجال ثورة الاتصالات وتقنية الاستنساخ؟ هل اصبحت الثقافة في هامش المتن المعرفي اليوم في ظل كل هذه التطورات للانسان المعاصر؟ وهل لايزال الكلام عن الثقافة ودور المثقف يلقى الصدى نفسه في الخطاب الثقافي المعاصر؟تأتي جملة هذه التساؤلات في سياق الاعلان عن موت المثقف الايديولوجي وانتهاء السرديات الكبرى على رأي ليوتار. من هنا يكتسب الكلام عن الثقافة ودور المثقف اهمية خاصة، سواء كان الكلام عن دور المثقف العضوي على رأي غرامشي او المثقف الملتزم على رأي سارتر، وبالطبع فإن الكلام عن الثقافة ولاسيما في ظل العولمة لا يمكن ان يتجاهل التطورات والتحولات الثقافية والاجتماعية والعلمية في خطاب الثقافة. ولذا ومن هذه المفارقة بات ممجوجا الحديث عن الثقافة ودور المثقف واعتباره داعية ومبشرا ايديولوجيا. يجب استلهام بنية جديدة تخلق علاقات مختلفة عن الثقافة ومفهومها وعن المثقف ودوره والحدود التي يجب ان يتبناها ويتحرك في مجالها، فمن رجيس دوبريه الى ادوار سعيد الى سمير امين وهشام جعيط هناك حالة من التوجس لمستقبل الثقافة وغياب المثقف وتخليه عن دوره المستقل بعيدا عن العلاقات المشبوهة التي يقيمها في اطار وظيفة لا تخلو من التوظيف الايديولوجي والتي تظهر في تحول المثقف الى اداة تحركها ارادة السلطة الايديولوجية والسياسية وما تفرضه عليه من شبكة مصالح تكبله عن اداء مهامه كمشتغل على خطاب المعرفة الانسانية مما يجعله يستقل من وظيفة الثقافة كعلامة على موته الثقافي الحقيقي. وهذا ما عنته بعض الكتابات عن الانتلجنسيا الغربية والمستوى الذي وصلت اليه، فكتاب ماركيوز «الانسان ذو البعد الواحد» واللوحة المخيفة التي قام برسمها عن انسان العصر ودور البنية الامبريالية والتي تظهر فيها بوضوح الانتلجنسيا الغربية كلاعب رئيسي في الاسهام في الحديث عن نموذج الانسان ذي البعد الواحد وثنيه عن قضاياه الحقيقية وتجاهلها لسياق الفكر التعددي في الثقافات الاجتماعية العالمية واطلاق العنان لبنية من التفكير تسود وتتغلغل في مجمل الكتابات والاصدارات التي تكشف عن مدى الادراك الحاد لفئة الانتلجنسيا عن الثقافات الاخرى وعن وظيفة المثقف ودوره في تجسير الفجوة التي تزداد هوتها بين مختلف الثقافات والشعوب في العالم لتصب في الاخير لمصلحة قوة الغطرسة والهيمنة وهذا بفعل ما يبديه المثقف من تحالف وتعاون مع الامبريالية للتأثير على مسار الثقافة كما لاحظ ذلك رجيس دوبريه والتي عكستها اراؤه التي شهدها عقد التسعينيات وخاصة في «نقد العقل السياسي» و«الميديولوجيا علم الاعلام العام 1996م» و«كي لا نستسلم» كما بين وجهة نظرة بوضوح في دور الانتلجنسيا ودورها المتزايد في مد البنية الامبريالية لتشمل كل المناطق متعدية لحدودها الجغرافية والاجتماعية لتتربع على كرسي الثقافة العالمي لتقول وجهة نظرها الحادة وهذا ما يسخر منه نعوم تشومسكي من مجمل هذه القوة وما تمثله من بنية والتي تظهر في خريطة تحريها وتحقيقاتها وتعريفاتها وتقسيماتها وما تنتجه من دراسات وما تعطيه من انطباعات عميقة عن الثقافة وعن دور المثقف وطريقة تفكيره ورسمه لمفاهيمية العلاقات الثقافية والانسانية وبالتالي عبر تواطؤ هذه القوة التي تبحث عن برغماتيتها حتى لو أدى ذلك في قمع ثقافي لثلاثة ارباع البشرية على حد تعبير دوبريه، وهذا ما حاول ادوارد سعيد في سياق رصده لمناطق الفراغ الثقافي او الخواء الثقافي والذي لاحظه في طلبة جامعة جورج تاون وذلك في فقدانهم للقدرة على قراءة الاحداث وما يجري في العالم وغيابهم النسبي عن ملاحظة الآثار التي خلفتها الثقافة الامبريالية على مستقبل الثقافات العالمية وما جرته من مآس فظيعة على الاطراف كما سلخت انسان المركز تماما وجردته من نظرته الانسانية للشعوب المعذبة والتي لا تزال وهي تدخل بدايات القرن الحادي والعشرين تعيش تحت وطأة الاستعمار الثقافي وحتى العسكري كما هو في فلسطين، اين المثقف الغربي من هذا كله؟ الذي بدأت اعداده تمثل شرائح اجماعية كبيرة وقوى ضغط تؤثر في موازين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. وهذا ما يلتقي فيه رجيس دوبريه وسمير امين وجعيط واركون وكل المثقفين الذين يقرأون بتجرد صمت الثقافة الغربية ويشتكون من غياب المثقفين الغربيين بل يتحدثون عن موت شريحة الانتلجنسيا بمفهومها الشامل في الغرب والاستعاضة عنها بنزعة تقاريرية تواصل ميراث الحركة الاستشراقية والتي تظهر في ادراك محرري نيويورك تايمز وواشنطن بوست وفي العديد من الجرائد والمجلات التي تعكس رأيها عن الآخر القابع في الاطراف ولاسيما الانسان العربي والمسلم وتركه يعاني ويلات وتبعات ما وضعه في محيطه من استعمار استيطاني والذي هو ثمرة اسهام المثقفين الغربيين مع بنية السلطة السياسية لبلدانهم والمتمثل في دولة اسرائيل المحتلة والجاثمة اليوم ليس فقط على الشعب الفلسطيني بل على واقع الامة العربية والاسلامية وعلى مستقبلها الحضاري والانساني.

ومما يدعو على الاسى كما اشار اليه ادوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» ان تجد بنية الثقافة الامبريالية رديفا لها في الاطراف وفي مناطق مهمة من العالم كالوطن العربي وان تسري هذه البنية التي لاتزال تمتح من مكتبة الاستشراق الثقافية في مؤسساتنا الجامعية ومن استمرار العقول فيها من تكرار وببلاهة نفس البلاغيات الايديولوجية التي تعلموها على ايدي وعتبات المستشرقين على حد تعبير ادوارد سعيد في سياق رصده لخطاب الثقافة الامبريالي.

من هنا تحتاج الثقافة في ظل عولمة الفكر والعلم الى اعادة تركيبها كبنية مفاهيمية تتخطى المحلي والمناطقي لتستعيد اعتبارها الانساني وتحافظ على سيادتها وسلطتها بعيدا عن ارادة الاختراق والدوافع السياسية التي تستهدف تجنيدها كشرطي ايديولوجي وحارس لمصالح الدول والقوى المتنفذة في العالم، وقد شهد العقد الاخير من القرن العشرين سجالا واسعا لخطاب الثقافة ولوظيفة المثقف وتحديدا في العام 1996م وهذا يعكس حسياسية الدور الذي يضطلع به المثقف سواء كان كحارس للايديولوجيات او كمدافع عن الحريات والديمقراطيات وحقوق الانسان، فهذه المراجعة الفكرية التي اتشحت في كثير من ابعادها بالسجال للبحث عن بديل افضل لما هو موجود او لاستبدال الخطاب الثقافي الحالي بآخر نهضوي، ومن هذه الاصدارات على سبيل الذكر لا الحصر والتي تأتي في اطار نقد بنية الثقافة ودور المثقف ككتاب على حرب «اوهام النخبة او نقد المثقف 1996م» وعلي اومليل «السلطة الثقافية والسلطة السياسية 1996م» ومحمد عابد الجابري «المثقفون في الحضارة العربية 1996م» وادوارد سعيد «صور المثقف 1996م» وفهمي جدعان «الطريق الى المستقبل 1996م» تكشف هذه الاصدارات عن اهمية الثقافة ودور المثقف وفي الوقت نفسه تحاول اعادة فحص وظيفة المثفف على ضوء المعطيات والتطورات العالمية والتحول الذي طرأ على خطاب الثقافة المحلي والعالمي ليواكب المثقف حركة الحاضر وما تتطلبه من جهوزية تكون بمستوى التحديات والتطلعات. فهذه محاولة لتأسيس حفرية جديدة لخطاب الثقافة لكشف البنية التي تتستر وراء الشعارات الايديولوجية وتعرية وظيفة المثقف الذي لا يزال منصباً نفسه كحارس للايديولوجيات وبائع للاوهام وشرطي للافكار. فهذه المراجعة تأتي في سياق متن خطاب يقطع مع الخطاب السائد الذي يعزز علاقات التبعية للاخر ويكرس الصور النمطية عن الثقافة ودور المثقف وفي الوقت نفسه النظر من افق اوسع لدور المثقف نظرة تتجاوز العلاقات المحدودة التي تفرضها عليه انتماءاته الاولية للبيئة والمجتمع وخطاب الثقافة المحلي ولمتنه الايديولوجي لتضع تصوراً بديلاً لوظيفته التقليدية لاخراجه من عزلته الفكرية والثقافية من خلال استهداف تفتيت بنية التفكير المكتسبة في اطار المرحلة الايديولوجية التي خلفتها تلك العلاقات المحملة بالافكار والتصورات التي تركت اثراً بليغاً على طريقة التفكير ونوعية الانتاج الثقافي وبالتالي الفهم الجامد لكينونة الثقافة ولمغزاها الانساني كخطاب عالمي. 

ازمة الأنتلجنسيا العربية(7)

  ربما كان المشهد العربي الراهن اشد تعبيرا عن ازمة الأنتلجنسيا العربية وشقائها مما حولها .. فالتحولات الدراماتيكية التي عصفت وتعصف بالواقع العربي اليوم ابقت فاصلة شاسعة مابين هموم وتطلعات النخب الثقافية ومابين ماهو قائم وفاعل ويشكل وجه الثقافة العربية اليوم .

لقد ورثت هذه الثقافة جملة معطيات وجدت نفسها محكومة بها ولاسبيل امامها الا التسليم بها وقبولها كما هي ، فقد وجدت النخب الثقافية نفسها امام موروث ثقافي متداخل متنوع غزير لكن فيه كثير من التشويش والأضطراب بسبب عدم انتظامه في انساق محدده وعدم وجود المؤسسات التي تسهر على تأويله واعادة اكتشافه ورسمه للجيل .. كما ورثت هذه النخب اوضاعا سياسية واجتماعية هي من مخلفات قرون من الصراعات على مراكز النفوذ في المنطقة العربية اذ كانت اتفاقية سايكس بيكو احد ملامح ذلك الواقع المستلم بجاهزيته وعلى علاته .

ولعل البعد الموضوعي الممثل في هوية الأمة في بعدها الثقافي وما ترزح تحته من واقع لاقبل لها في مجابهته وتشكيله ، كل هذا كان سببا كافيا لتأطير الأزمة ورسم ابعادها القريبة والبعيدة .

ولعله من المهم هنا القول ان اشكالية الأنتلجنسيا العربية تتمثل في تحديد ماصنعته هي لنفسها وماصنعه الآخر ومافرضه عنوة عليها .

ولكن في المقابل يمكن القول ان اية نظرة فاحصة ستؤكد لنا ان مافرض على النخب الثقافية هو الأوسع والأكثر تأثيرا...وذلك من منطلق السؤال عمن هو اللاعب الرئيس ومن الذي يحدد الأدوار التي تضطلع بها الشرائح الأجتماعية المختلفة ومنها النخب الثقافية التي وجدت نفسها غالبا انها امام مأزق الأشكاليات المتعددة والمركبة التي تفاقمت دون حل .

ومما لاشك فيه ان الأنتلجنسيا العربية كانت دوما هي الأقرب الى الأشكاليات التي تعصف بالواقع وكانت هي المجس الذي من خلاله يمكن تلمس مؤشرات ذلك الواقع ولهذا كانت لها رؤاها المسبقة في كل ماجرى ويجري ولكن الى اي حد ؟

لعل هذا السؤال يقودنا الى امكانية قياس دور الأنتلجنسيا العربية ، ما مداه وما حدوده ، وما مدى آثاره الراهنة والمستقبلية ؟

سؤا ل مركب كهذا كان ومازال من الصعب الأجابة عليه لسبب اساس يتمثل في عدم بلورة ادوار ووظائف الأنتلجنسيا العربية ، فهي جزء من منظومة متكاملة اجتماعية تغلب فيها مراكز القوى والتأثير على كل ماعداها ، هذا من جهة ، ومن الجهة الأخرى وجدت الأنتلجنسيا العربية نفسها في وسط اشكالية مركبة تتعلق بكون الواقع الأجتماعي ذاته ورث تعقيدات وتداعيات شتى اولها عدم انتظام فاعلية الأرتقاء الأجتماعي بمعنى عدم نضج الوسائل والأدوات التي تنتج طبقة النخبة ، ومعنى ذلك عدم توفر المناخات التي تنتج النخب من جهة وتعطيها ادوارها في المساهمة في توجيه الرأي العام وتكون فاعلة ومنتجة من جهة اخرى .

هذا السجال قاد بالنتيجة الى تساؤلات جدية افرزتها طبقة الأنتلجنسيا العربية تتعلق بالذات والهوية واطوار الحداثة ومابعد الحداثة التي انتجها العالم المعاصر .

فهي اذ تتمثل تلك النتائج التي تتخلق كل يوم على صعيد تحولات الفكر والوعي والفلسفة والقيم ، فأنها تحاول (توطين ) تلك القيم او شيء منها او في الحد الأدنى محاولة اعادة قراءتها عربيا .

هذه المهمة الجسيمة للأنتلجنسيا العربية واجهت في ما واجهته زخما واقعيا من المؤثرات المرتبطة بتركيبة المجتمعات العربية والأعراف والثوابت الراسخة فيها كما واجهت مؤسسات غير قابلة في سوادها الأعظم على تبني اطروحات الأنتلجنسيا العربية ...فماذا كانت المحصلة ؟

ان اول عارض يجابه اية انتلجنسيا هو عارض الأغتراب ..وهو احساس بالفجوة القائمة بين عالمين تتحاور معهما الأنتلجنسيا العربية دون انقطاع ..العالم الأول : هو العالم المعاش والذي يحيط بالأنتلجنسيا ، في مجتمعات تعاني من مشكلات اساسية وبنيوية في اسس التنمية المستدامة وفي تهميش النخب الفاعلة ، وقد خلف هذا انزواءا وانكفاءا للنخب الفاعلة وجعلها متهمة دوما بأنها تعيش في ابراج عاجية بعيدا عن الواقع فيما هي مجبرة على ذلك التقوقع ، فهي لاتجد بديلا عن الأنكفاء والتفرغ للذات ومشاريعها لأن اطروحاتها تتحدث بلغة غير اللغة التي يطرب لها الكثيرون من عامة الناس وكان ان ترتب على ذلك نظرة سلبية متفاقمة للنخب في بعض الأحيان والحالات تتمثل في اتهامها بالغرور وعدم الفاعلية وعدم المساهمة في ايجاد الحلول والأكتفاء بالمطالب الكبيرة والأحلام الضخمة ...

اما العالم الآخر الذي يشكل تحديا ثانيا فهو الخارج ..بكل مافيه من تاريخ انساني وعلمي وتكنولوجي وانظمة حكم وانجاز معرفي ..هذا العالم هو عالم مابعد الحداثة الذي يشكل اليوم اكبر معبر عن ازمات الأنسانية في مقابل نجاحاتها ..فالأزمات التي خلفتها انساق مابعد الحداثة على صعيد الفرد الذي تخلص من ثقل العديد من المؤثرات والقوى الفاعلة في وعيه وفي فكره وفي حياته اليومية ، الفرد الذي يعيش ازمة تأكيد الذات في صراعها مع الزمن ومع انساق مابعد الحداثة ذاتها ..انسان تحول عالمه الى تتابع للأصفار والآحاد وتهشمت بين يديه هيبة السلطات والأيديولوجيا ، وافرغت الحياة الأجتماعية من هالتها المقدسة وتحولت الى مجال للمشاركة والمنفعة اكثر من اي شيء آخر وتفاعلت على اكثر من صعيد عقلنة حداثية لكثير من القيم والمفاهيم وتم ابتسار العاطفة الفردية الى ادنى مستوياتها في مقابل المصلحة والمنفعة والبراجماتية بكل تشكلاتها والوانها والتفاعل من الواقع بمايقدمه من متعة الأستهلاك والرفاهية .

هذا الواقع الفصامي هو الذي اطر ومازال يؤطر فكر ووعي الأنتلجنسيا العربية وهي تحاول ان توجد الموازنة مابين هذين العالمين او في الأقل ان تجد لنفسها موقعا في وسط هذه الدوامة المضطربة المتضاربة التي لاقبل للأنتلجنسيا العربية في السيطرة عليها او التأثير فيها .

لقد شهدنا على مر الحقب احساسا متفاقما بالأغتراب على كل صعيد يفتك بالوعي الذاتي ،لكن بالمقابل كان الموروث الأنساني العميق الذي اكتنز عليه الوعي العربي كان له ابلغ الأثر في تأكيد الذات وتثبيت دعائم وعيها وادراكها انها لاتعوم في فراغ ، وانها منتمية الى عالم عميق الجذور في ملامحه ومنجزه الحضاري على كل صعيد فالعبقرية التي انتجت الخطاب الثقافي العربي بكل الوانه وتحولاته هي عبقرية جديرة ان تتعامل معها الأنتلجنسيا العربية بكثير من التركيز والأهتمام وكان من اهم ماأكد هذا الوصف هو ان الأبداع المعاصر لمابعد الحداثة لم يكن مقطوع الجذور عن بيئته ومجتمعه فحتى المدارس المغرقة في الذاتية والتهويم كانت وليدة تحولات مضطردة في الوعي شهدتها اوربا منذ عصر الأنوار وصولا الى المدارس الفكرية والفلسلفية الكبرى التي ظهرت في اعقاب الحرب العالمية الثانية .

من هنا وجدت الأنتلجنسيا العربية نفسها امام مسؤولية اعادة قراءة هذا التراكم الفكري والمعرفي العميق ، اعادة قراءة الوعي والفكر والفلسفة والرؤية ، والأنطلاق منها بوعي تجديدي ليس مغتربا ولا متعاليا عن واقعه ولكنه يرسم للمستقبل آفاقا اخرى.

 بأصواتهم المرتفعة المثقفون العرب عاجزون عن التضحية والفعل(8)

 حفلت وسائل الإعلام العربية، المرئية والمسموعة والمقروءة، خلال الأيام القليلة الماضية بحملة هجاء غير مسبوقة للعرب والحياة العربية. وكأنما نهاية العام هي فعلاً بوابة لحقبة جديدة وعالم جديد ومنعطف مادي محسوس، مارس المثقفون العرب هوايتهم التقليدية في توجيه أسهم النقد اللاذع للحالة العربية وللهوة التي انحدرت إليها. نعي المثقف العلماني ـ الليبرالي غياب الديمقراطية وتخلف العرب عن اللحاق بركب التحول الديمقراطي الذي اكتسح العالم خلال العقدين الماضيين، كما شجب سيطرة القيم الدينية علي الاجتماع والثقافة وخضوع الدولة في العالم العربي لابتزاز المتدينين. أما المثقف القومي فقد صب جام غضبه علي انهيار نظام التضامن العربي وتحول الأنظمة العربية إلي وكالات محلية للمصالح الأجنبية وإلي أدوات للصراعات الداخلية وانهاك الجسم العربي. وقد شارك المثقف الإسلامي بنصيبه هو الآخر في هذه الحملة الهجائية ملقياً الاتهامات يمنة ويسرة: فهو ضد الاستبداد المستشري وضد الارتهان الاقتصادي للخارج وضد تحلل نظام القيم وانخراط الدولة في الحرب علي الموروث الإسلامي.

الانتقادات التي يوجهها المثقف العربي للواقع من حوله هي في عمومها انتقادات صحيحة، وإن اختلفت زوايا النظر والدوافع وراء هذه الانتقادات. بالرغم من الثروات العربية المادية والإنسانية الهائلة، تعاني الحياة العربية بمستوياتها المختلفة من إشكاليات بنيوية كبيرة. وقد تعاظم أثر هذه الإشكاليات خلال السنوات القليلة الماضية بفعل التدهور الفادح في الوضع الإستراتيجي العربي، الذي أدي بدوره إلي تقويض الموقف العربي في معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وإلي الاحتلال الأنجلو ـ أميركي غير المبرر للعراق وعودة النظام الاستعماري التقليدي إلي المنطقة. تحولت المدن العربية في شكل متزايد إلي أسواق هائلة للمنتجات الأجنبية، بينما تنهار آخر قواعد الصناعة في الدول العربية الرئيسية أمام أعين من تبقي علي قيد الحياة من جيل الستينات الذي قدم تضحيات لا تحصي من أجل تحويل المجتمعات العربية إلي مجتمعات صناعية منتجة. لم يحدث في تاريخ العرب الحديث ان توفر لهم هذا العدد من الكوادر المؤهلة علمياً والمطلعة علي الشأن العالمي، ولكن أغلب البلاد العربية تفتقد الرؤية الجادة للمستقبل والتخطيط لتوظيف الموارد المتاحة في مشروع نهضوي. كل هذا صحيح، ولكن السؤال الذي يزداد إلحاحاً في مختلف المدن العربية هو أي دور ذلك الذي يقوم به المثقف العربي للخروج بشعبه وأمته من الأزمة المتفاقمة؟

تعود جذور المثقف العربي إلي النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما أخذت حركة التحديث في تقويض وتهميش مؤسسة العلماء التي حافظت علي لحمة الجماعات العربية ـ الإسلامية، ودافعت عنها ضد بطش الحكام، وحمت كينونتها واستمرارها في مواجهة الغزو الأجنبي لقرون طوال. دخل التعليم الحديث إلي المجتمعات العربية علي نطاق واسع، سواء بفعل جهود دولة التحديث أو المدارس الأجنبية، وأدي الإنقلاب المفاجئ في أنماط الاجتماع ووسائل الاتصال وبنية الدولة إلي ولادة حقول جديدة للعمل. في مكان العالم المسلم التقليدي ودوره في قيادة المجتمع، برز الضابط الحديث، المدرس والأستاذ الجامعي، الصحافي والكاتب، المهندس، المحامي، ورجل البيروقراطية الرسمية، بل والممثل السينمائي والمسرحي. هذه هي الإنتلجنسيا العربية التي كان يفترض أن تقوم بقيادة مجتمعاتها والتحدث باسمها والتعبير عن مصالحها. وباستعارة العرب مؤسسة الحزب السياسي الحديث من الجوار الأوروبي، انخرطت أعداد متزايدة من الإنتلجنسيا العربية في المنظمات الحزبية وأصبح الناشط السياسي (المحترف أحياناً) أحد المتحدثين البارزين باسم الاجتماع العربي الحديث.

لم تولد الإنتلجنسيا العربية من رحم حركة تطور داخلية كما كان عليه الأمر في السياق التاريخي الأوروبي ـ الغربي، بل من حركة التحديث المفاجئة التي قادتها الدولة، وهذا ما جعل بناء ورعاية الإنتلجنسيا العربية عملية باهظة التكاليف. ومنذ بداية نشوئها، كانت الإنتلجنسيا العربية بمهنييها ومثقفيها منقسمة علي ذاتها، لان لحظة ولادتها كانت في جوهرها لحظة انقسام عربي ـ إسلامي علي الذات. انقسمت الانتلجنسيا العربية علي سبل الإصلاح، علي الدولة العثمانية ومصيرها، علي الإسلام وموقعه ودوره في الحياة العربية الحديثة، وعلي العلاقة مع الغرب والقوي الغربية والإدارات الإستعمارية. وما زالت منقسمة علي ذاتها حتي الآن. ولكن هذا الانقسام لم يمنع الإنتلجنسيا العربية، أو بالأحري قطاعاً هاماً منها، من القيام بدورها الاجتماعي وتحمل مسؤولياتها تجاه شعوبها حتي الستينات من القرن العشرين. أخذت أجيال المثقفين والمهنيين العرب الاوائل مهماتها علي محمل الجد، واندفعت إلي مقدم الصفوف في حركة النضال ضد الاستعمار الأجنبي، ضد الأحلاف، في مواجهة الاستبداد الداخلي، ومن أجل حرية الجزائر وفلسطين. لكن شيئاً ما طرأ علي الساحة العربية منذ منتصف السبعينات وأخذ في تقويض فعالية الإنتلجنسيا العربية.

كان ممكناً منذ الحرب الأولي، ومروراً بالأربعينات والخمسينات والستينات، أن تتحرك المظاهرات الشعبية بمبادرة وقيادة مدرسين وأساتذة وطلاب وصحافيين ومهنيين حزبيين، وأن تؤدي الحركات الشعبية إلي إسقاط حكومات وانظمة، أو إلي قيام دول وحدة، أو تغيير سياسات رئيسية. ولم يكن غريباً أن تستضيف السجون، لأيام وشهور وسنوات، مثقفين كباراً أو كوادر حزبية من مختلف الاتجاهات وقطاعات الإنتلجنسيا العربية، الذين علقوا علي مشانق جمال باشا السفاح كانوا من بين أبرز رجال النخبة العربية، والذين قادوا حركة المقاومة المصرية للاحتلال البريطاني كانوا من طلاب وكوادر الجامعة، ومن المهنيين والصحافيين والكتاب، والذين أخذوا قرار الثورة الجزائرية والذين أسسوا حركة فتح والجبهة القومية لتحرير اليمن الجنوبي، كانوا مثلهم تماماً. وقد لعب رجال الفكر وخريجو الجامعات دوراً رئيسياً في تأسيس وقيادة القوي الإسلامية السياسية، سواء تلك التي عبرت عن توجهات الاحتجاج الداخلي أو تلك التي انخرطت في المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي. اليوم، تغيب هذه القوي والفئات في أغلبها عن المشهد العربي كقوي تغيير وفعل. المثقفون العرب بالطبع ما زالوا يكتبون ويتحدثون، يهجون وينتقدون، ولكنهم لا يخرجون إلي الشارع إلا نادراً، ويبدون وكأنهم فقدوا الحافز والاستعداد للتضحية، اللذين حركا أسلافهم من المثقفين والمهنيين. فلماذا وقع هذا التطور؟

أحد الأسباب بالطبع هو التغول غير المسبوق للدولة العربية الحديثة. فبالرغم من ان كل الدول العربية تقريباً قد تخلت عن النظام الإشتراكي الشمولي الذي ساد الساحة السياسية العربية، لا سيما دولها الرئيسة، في الستينات والسبعينات، إلا ان هذه الدول أعادت إنتاج الشمولية بوسائل أخري. بالتقنين وسن التشريعات، بالسيطرة المباشرة وغير المباشرة علي مؤسسات العمل الرسمية وشبه الرسمية، بتغيير أنظمة التعليم والدراسة، بتحويل الطبقة الحاكمة إلي طبقة رأسمالية مالكة أو العكس، باستغلال التقدم في وسائل الإتصال وأنظمة المعلومات، بالتضخم غير المسبوق في أجهزة الأمن، وبسلسلة من التحالفات والمساومات الدولية، وصلت قدرة الدولة العربية الحديثة علي التحكم مستوي لم تصله منذ نشأتها.

بيد ان هذا ليس السبب الوحيد، بل وما كان للدولة ان تنجح في تعزيز قدراتها التحكمية لولا تراجع القوي التي يفترض بها ان تضطلع بدور تحديد نفوذ الدولة وسيطرتها. إن انحطاط فعالية الإنتلجنسيا العربية، بالرغم من الزيادة الهائلة في أعدادها وفي نشاط التجمعات المدنية التي تنتظمها، نجم عن تغيير جوهري في نظام القيم التي يعتنقها المهنيون والمثقفون العرب. كانت الإنتلجنسيا العربية، بغض النظر عن تباين توجهاتها الفكرية، نتاج عملية التحديث ومؤسساتها التعليميـــة ومعاهدهــــا، نتاج لغتها ومنطقها ومفاهيمها. ولما كان مثـــــال عملية التحديث هو المثال الأوروبي الغربي، فإن جذور الإنتلجنسيا العربية هي في جزء كبير منها تمتد في أرض الثقافة والمفاهيم والقيم الغربيـــة. خلال النصف الأول من القرن العشرين، وبفعل بشاعة نظام الاحتلال الأجنبي وفجاجته، غلبت الانتماءات الوطنية والقومية للإنتلجنســــيا العربية علي الروابط الثقافية والقيمية المستبطنة بالغرب. لكن الإدارات الإستعمارية غادرت المنطقة العربية، أو معظمها علي الأقل، منذ عقود طويلة، وأصبح التدافع مع النفوذ الأجنبي أكثر تعقيداً من معركة التحرر الوطني واضحة المعالـــــم. وأصبح من الممكن الجدل بأن أولويات العرب تنحصر في إعادة بناء الذات عوضاً عن استعداء القوي العالمية. بل أصبح من الممكن الجدل بضرورة التحالف مع الخارج واستلهام أنماط اجتماعـــــــه وإدارته والقيم الحاكمة لمؤسساته السياسيـــــة والاقتصادية.

وفي خضم هذه التطورات في بنية الدولة العربية الحديثة والعلاقة مع الخارج، كانت المجتمعات الغربية تزداد رفاهاً وثروة. ولان المثقف العربي هو بطبيعته أول أبناء مجتمعه وعياً بالعالم من حوله، ولان وسائل الاتصال الحديثة باتت تنقل رفاه المثال الغربي إلي الفضاء الثقافي العربي كما لم تفعل من قبل، ولان تفكك البني الاقتصادية العربية أدي إلي تحول المجتمعات العربية إلي مجتمعات استهلاكية، فقد تعاظمت هموم الثروة والرفاه لدي الإنتلجنسيا العربية. كل فئات المجتمعات العربية هي فئات كادحة من أجل المعاش، ولكن وطأة متطلبات الرخاء وصعود السلم الاجتماعي هي الأثقل لدي المهنيين والمثقفين العرب. والدولة الحديثة هي كائن بالغ الذكاء، تتحرك بقوة عوامل إعادة إنتاج ذاتها بإعادة إنتاج وسائل القوة والسيطرة. وهي لذلك أسرعت في التقاط هموم الإنتلجنسيا وطموحاتها والاستجابة لهذه الهموم. ولم تكن الدولة الحديثة تحتاج الدخول إلي مساومة مكشوفة مع الإنتلجنسيا العربية، فقد كانت كل الأطراف تدرك شروط الصفقة الاجتماعية التاريخية.

خلال العقدين أو الثلاثة الماضية وفرت الدولة العربية للمهنيين والمثقفين العرب كل السبل الممكنة لتحقيق طموحات الرفاه الاجتماعي، سواء ضمن أجهزة الدولة ومؤسساتها، أو بطرق الارتباط بالخارج. والإنتلجنسيا من ناحيتها، حتي وهي تقف في صفوف المعارضة، حرصت علي تجنب خطوط الدولة الحمراء. في أحوال أخري، لم تكن الدولة حتي في حاجة لان تبذل مثل هذا الجهد؛ فقد انتشرت في دوائر الإنتلجنسيا العربية أيديولوجيا النجاح بمعناه الرأسمالي ـ البرجوازي المجرد، وانتقلت الإنتلجنسيا العربية بذلك من موقع الناطق باسم الجماعة والمدافع عنها إلي موقع التصارع علي الموارد المحدودة المتاحة. في النهاية، وفيما عدا حالات قليلة واستثنائية، تحول المثقفون العرب من حيث أرادوا أو لم يريدوا إلي طبقة تلهث وراء طموحاتها المادية والإجتماعية، وإلي ظاهرة سياسية صوتية: لا الشعب يلقي بالاً إلي رطانتهم، ولا الدولة تأخذهم مأخذ الجد. 

الأنتلجنسيا العراقية والدور الوطني المطلوب(9)

 يعيش العراق اليوم مرحلة حرجة ومنعرجا صعبا في تاريخه. ويتمثل هذا في تحديات الحفاظ على اللحمة الوطنية من خلال درء خطر الحرب الأهلية والتوتر الطائفي ومقاومة الإرهاب الوارد من خارجه بمقابل ترشيد وتوجيه مقاومة الاحتلال والتوصل إلى تفاهم يوفق بين وجهات النظر والاجتهادات تجاه ذلك، بالإضافة إلى مواصلة السير في إكمال مسيرة العملية السياسية وإقرار الديموقراطية في البلد وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية لأبنائه تتمثل في المشاركة السياسية وتقاسم الثروات واستغلالها بما يخدم تنميته اجتماعيا وصحيا واقتصاديا وفي باقي المجالات الأخرى. ولتحقيق مثل هذه الأهداف نعتقد جازمين أن النخبة المثقفة المسماة الانتلجنسيا هي اقدر من غيرها على خط المفاهيم التي توحد أبناءه وترشد عصبياتهم المختلفة وعدم تركهم فريسة لايديولوجيات دينية - طائفية - سياسية تستغل جهل العامة وأزماتهم الاقتصادية وصدماتهم الاجتماعية التي تولدت عقب انهيار النظام المفاجئ واحتلال البلد وما ترتب عليها من وقائع تتضاعف يوميا.

في مفهوم الانتلجنسيا

يشير مصطلح الانتلجنسيا (intelligentsia) حسب تعريف معجم أكسفورد لعلم الاجتماع إلى  طبقة المتعلمين بصورة عامة في أيّ من المجتمعات, وإلى المثقفين والمعنيين بشؤون الفكر على وجه التحديد. وقد حصر تاريخيا استخدام هذا المصطلح ونوقشت أصوله أيضا، وظهر استخدامه بصورة مبكرة في القرن التاسع عشر خاصة في روسيا وبولونيا. بينما كطبقة اجتماعية اختلفت في البلدين لأسباب تاريخية جلية. وطبقة الانتلجنسيا هي الفئة المتعلمة الواعية المدركة بالضرورة لمصالح أمتها وبلدها. وهي التي تسعى إلى فرض المشروعات الحضارية والتي يؤطرها إنتاج أو استقدام التكنولوجيا من جهة واقرار الديمقراطية في البلد والتي تكفل العدالة الاجتماعية وتقود إلى تقدمه.وعليه فإنَّ لطبقة الانتلجنسيا بصورة عامة وللمثقف منها بصورة خاصة أدوارا مهمة ومسؤوليات كبيرة تقع على عاتقه في كل الأحوال والظروف. وتتوزع هذه المسؤوليات بحسب انتمائه والتزامه، وعلى وفق مؤهلاته والفرص المتاحة له، سلماَ َ أم حرباَ َ، وسواء كان محكوماَ َ بسلطة دكتاتورية أم يتمتع بحرية مطلقة أو شبه مطلقة للتعبير عن رأيه وممارسة دوره.

سؤال المثقف العراقي

وفي ضوء مثل هكذا توصيف نتساءل: كيف يكون الحال والصورة فيما يخصّ  طبقة الأنتلجنسيا العراقية في هذه المرحلة بعد أن عانت إذلالا وتهميشا كبيرين في ظل السلطة السابقة؟ وما دورها في ظل الظروف الصعبة التي ينهض فيها العراق اليوم من ركام الحروب وحطام الدكتاتورية ليواجه أزمات الانقسامات الطائفية والصراع السياسي غير الناضج وعبء الاحتلال الأجنبي محاولاََ التقاط أنفاس الحرية والديمقراطية التي ينبغي تعلّم ألف باءها ويبحث سبل تطبيقها وترسيخها قيماَ جديدة تنافس القيم القبلية والدينية والقومية وغيرها من المفاهيم والممارسات التقليدية التي يغلب على طابع معظمها النظرة الأحادية وضيق الأفق وإلغاء الآخر؟؟وفي الإجابة عن هذه التساؤلات يمكن هنا تشخيص الدور الحيوي للمثقف العراقي والمسؤولية الكبيرة بوصفه جزءاَ من طبقة الأنتلجنسيا وذلك بالعودة إلى تراث مثقفنا (المسلكي) وأدبياته. والمثقف بحسب صانعي هذا المصطلح المتجدد، ومن أبرزهم غرامشي، الذي يميِّز [لنا] بين نوعين من المثقف هما: المثقف العضوي والمثقف التقليدي. وقد عنى بالمثقف العضوي ذلك المثقف الذي ينتمي انتماء عضوياََ للكتلة السياسية والاجتماعية التي ينتمي إليها وما يبديه من أجل إنجاح مشروعها، وهو غير المثقف التقليدي الذي يوظف أدواته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الكتلة التاريخية السائدة المشكَّلَة من الإقطاع والبرجوازية والفئة العليا الأكليروس مقارناََ هذا بالأول الذي يمثل الفلاحين في الجنوب والعمال في الشمال الإيطالي. والمعني بالدرجة الأولى هنا هو المثقف العراقي العضوي الذي تكون كتلته التاريخية هي المجتمع والوطن العراقي والمشروع الديمقراطي الحضاري الذي واتت فرصته الآن. المثقف العضوي الذي تكون أهدافه ومعطيات إنتاجه الثقافي البحت ومن ثمَّ معيار نجاحه متمثِّلة في العراق والعطاء المقدَّم له. إنَّ المثقف هو الذي يضع أوسع نظرة لتغيير المجتمع وأشملها وهو الذي يعمل لصالح القطاعات العريضة فيه وهو الذي يتميَّز بما لديه من قدرة على النقد الاجتماعي والعلمي. والمثقف كما يرى جان بول سارتر أيضاَ هو إنسان يتدخل ويدس أنفه فيما لا يعنيه.

فهل يتدخل المثقف العراقي ويدس أنفه فيما (يعنيه)؟

يمكننا بهذا الصدد أنْ نتحدث عن خطورة دور المثقف وجوهريته بالاستناد إلى بعض القراءات، إذ نقرأ للفيلسوف غرامشي عن المثقفين الإيطاليين عام 1919 قوله لم يعد بالإمكان أن يتمحور نسق حياة المثقف الجديد حول الفصاحة والإثارة السطحية والآنية للمشاعر والأهواء، بل صار لزاما عليه أن يشارك مباشرة في الحياة العملية كبانِ ِ ومنظم مقنع دائما لأنَّه ليس مجرد فارس منابر. بات لزاما عليه أنْ يتغلب على التفكير الحسابي المجرد، فينتقل من (التقنية – العمل) إلى (التقنية – العلم) وإلى النظرة التاريخية الإنسانية، وألا يبقى اختصاصيا دون أنْ يصبح – قائداَ َ- أي رجل سياسة بالإضافة إلى كونه اختصاصيا وهناك نماذج ماثلة للعيان تشهد لهذا الدور وهذه المسؤولية؛ حيث يذكر المفكر العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم إنه كان للانتلجنسيا دور كبير في إخراج أوربا من العصر الوسيط وذلك من خلال الثورة الفكرية والعلمية التي أظهرت إلى الوجود حسّاَ جديداَ َ من خلال الفن والأدب والفلسفة والعلم، وبدأت الرؤى والتصورات الجديدة تتعارض مع تلك الموروثة، وانحسر نفوذ الكنيسة، وأصبح الاتصال بالماضي اليوناني والروماني محكوماَ َ بعلاقة متحررة من سلطة التقاليد والكنيسة، ثم تفجرت الثورة العلمية التي استبدلت كثيرا من المعتقدات بأخرى جديدة. وفي بولونيا لعبت طبقة الأنتلجنسيا البولونية دورا حيويا ومتفردا في فترات تاريخية متعددة من حياة بلادها إبان فترة التقسيم خلال القرن التاسع عشر. وذلك حينما كانت هذه الطبقة مستودعا رئيسيا للضمير الوطني، واحتواءها لآخر بقايا الطبقة الأرستقراطية التي قادت البلد في ذروة مساعي استقلال الدولة. وقد كانت الأنتلجنسيا هي الأداة الرئيسية التي أدخلت بواسطتها الأفكار الجديدة المتقدمة إلى نسيج المجتمع البولندي المجزأ. أما في العراق الحديث فقد كان لطبقة الأنتلجنسيا دور كبير تمثل في صياغة مفهوم العراق الحديث والوحدة الوطنية وبوساطتها تم إنشاء المؤسسات التعليمية والفكرية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الأخرى. كما إنها كانت تمثل ورقة ضغط على مؤسسات الدولة العراقية الحديثة التي تأسست عام 1921 من أجل إقرار أسس الديمقراطية ورسم معالم طريق تقدم العراق منذ فترة مبكرة في هذه المنطقة. وقد تصدى مفكرون بارزون لإشاعة القيم الإنسانية و المطالبة بحقوق المرأة التي تعدّ أكثر القضايا حساسية في مجتمعاتنا الشرق أوسطية، ومن أوائل الرواد في هذا الإطار الشاعر والفيلسوف جميل صدقي الزهاوي. يقول الدكتور علي الوردي: إنَّ أول من دعا إلى تحرر المرأة في العراق هو الشاعر المعروف جميل صدقي الزهاوي وذلك في عام 1910 م . وأسهب الوردي في ذكر الحادثة التي خلَّدت الزهاوي في تاريخ المنافحين عن حقوق المرأة في عالمنا العربي، حيث كتب الزهاوي مقالاً بعنوان المرأة والدفاع عنها في مجلة – المؤيد- المصرية، وأعادت مجلة - تنوير الأفكار - العراقية نشر المقال على صفحاتها، ما أدى إلى حصول حالة هياج عامة في بغداد، حيث خرجت المظاهرات الصاخبة مطالبة بإنزال العقوبة الرادعة على الكاتب الزنديق بل أن أحد رجال الدين ذهب إلى والي بغداد في ذلك الحين وأوضح له ما يترتب على هذه المقالة المكتوبة- من أحد المارقين عن الدين- من مفاسد مخلة بالشريعة. فلم يكن من الوالي إلا أنْ أصدر أمره بعزل الزهاوي من وظيفة التدريس التي كان يشغلها في مدرسة الحقوق. ونظراً للسخط العارم الذي رافق صدور المقالة، فقد اضطر الزهاوي إلى الاعتزال في بيته خوفاً من اعتداء العامّة عليه، إلا أنَّ اعتكافه في منزله لم يغنه شيئاً، فيروى أن مجموعة من حراس الفضيلة ذهبوا إلى داره ليلاً، وطلبوا منه إخراج زوجته لتذهب معهم إلى المقهى ولما استنكر الزهاوي ذلك منهم، قالوا له: كيف إذن تطلب من بنات الناس أنْ يرفعن الحجاب ويختلطن بالرجال؟! وفي نهاية الأمر تركوا شاعرنا الكبير وشأنه بعد أن أخذوا عليه العهود والمواثيق بأنه لن يعود إلى مثل هذه الكتابة الفاسدة، وهددوه بالقتل في حال عودته إليها.ولعل الولادة الجديدة للعراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري شبيهة بولادة الدولة العراقية بعد خروجها من تسلط الدولة العثمانية والتخلص من السيطرة الاستعمارية البريطانية عام 1921، وإنْ كان هذا الخلاص تدريجيا.

ما الذي تستطيع أن تؤديه الانتلجنسيا العراقية في هذه المرحلة؟

نحاول هنا وضع مجموعة من النقاط بالإمكان عدها آليات لعمل الانتلجنسيا العراقية. ولعلَّ أول هذه الآليات المهمة التي تساعد على تقدم المجتمع هي إشاعة الأمن والأمان الذي أفتقد في  أجزاء كثيرة من بلادنا. ودور الأنتلجنسيا هنا هو في إستمرار ممارسة الضغط على الأطراف المعنية (قوات الاحتلال والحكومة العراقية) من أجل تطوير آليات ذلك وتجسيدها على أرض الواقع. كما ينبغي على هذه الطبقة ممارسة دورها في كشف هؤلاء العابثين بأمن البلاد ومن ورائهم تلك الأطراف التي تدعمهم سواء بالكلمة أو بالمال أو السلاح. كما يُؤمَّل من المثقف العراقي أن يبشر بمستقبل أفضل وأن يسد أبواب التشاؤم والصورة السوداوية التي ترسمها هذه الأطراف. وفي جانب آخر يُنتظر من الأنتلجنسيا العراقية أنْ تمارس دورها في إشاعة المفاهيم الحضارية والديمقراطية التي تفتقر إليها ثقافة الشارع العراقي إلى حد كبير وذلك بسبب الإرث السئ الذي خلفته الديكتاتورية البغيضة طوال الفترة الماضية. وتتوافر قنوات عديدة لهذا الغرض سواء باللقاءات المباشرة عن طريق الندوات التي تنظمها أو تدعمها منظمات المجتمع المدني العراقية التي ينتظر منها الكثير أو عن طريق وسائل الإعلام المتاحة للمواطن العراقي. ويتضمن الوعي الحضاري جوانب كثيرة تتعلق بالصحة العامة مثلا وآداب السلوك وحسن التعامل (الايتيكيت والبروتوكول) التي انحسر مدها نتيجة لسياسة عسكرة المجتمع وتجهيله وعزلته التي مارسها النظام السابق. وأما المفاهيم الحضارية الأخرى فهي التي أشرنا إلى بعضها في السطور السابقة ومنها: قيم التسامح وإحترام المغايرة الثقافية والرأي والرأي الآخر وحقوق المرأة والطفل والرفق بالحيوان وحماية البيئة والحرص عليها والمسؤولية الجماعية وإحترام القانون وغيرها. هذه القيم وغيرها من شانها زيادة اللحمة الوطنية وتغيير فهم المواطن ووعيه للمرحلة الجديدة. بإمكان طبقة المثقفين مساعدة المجتمع بفئاته المتعددة من خلال مساعدتها في تنظيم نفسها لتشكل جماعات ضغط سلمية على الجهات الحكومية لغرض الحصول على حقوقها، وتوجيه عملية الديمقراطية وجهتها الصحيحة. كما ينبغي توعيتها بمسؤولياتها والواجبات التي تقع على عاتقها. يضاف إلى ذلك نقل التقنية بشتى السبل الممكنة والتثقيف بمعطياتها.

مثلا: المعلوماتية من كومبيوتر وإنترنت وما يتعلق بهما. وليحملْ كل مسافر منا إلى العراق جهاز كومبيوتر مثلا. ليهديه إلى قريب أو صديق أو حتى ليبعه هناك فإنه سيفتح السبل لغيره ليتعامل أو يتعلم شيئا جديدا ولنعلم كم حرم حتى صفوة مجتمعنا من هذه النعمة.

ماالدور المؤمَّل من الأنتلجنسيا العراقية

لدعم مسيرة الديموقراطية؟(10)

تتزايد مع الوقت الأهمية الملقاة على عاتق الأنتلجنسيا العراقية بخاصة ـ في الظرف الراهن ـ بوصفهم أصحاب العقل الذي سيُعنى بمعالجة المشكلات المعقدة على صعيد مستقبل الشخصية الوطنية والهوية المخصوصة للأمة العراقية وعلى صعيد وقف مهزلة الاستلاب والمصادرة التي مورست ردحا طويلا من الزمن بذريعة الانتماء القومي للأمة العربية من دون فعل حقيقي يخدم المصالح القومية الصادقة أو الحقيقية ومثلها الدور المنتظر في معالجة مشكلات مسيرة الديموقراطية وقضاياها العقدية الجوهرية..

ويمكن بل يجب للأنتلجنسيا العراقية أنْ تنهض بمهامها وواجباتها تجاه المجتمع ومؤسساته في مختلف الميادين وإلا فهي تقف موقف النكوص والتراجع عن الارتقاء لمستوى المسؤولية الملقاة عليها.. سواء كان ذلك في صياغة الخطاب الحضاري لمجتمعنا أم تجاه تفاصيل مسيرة المجتمع الوليد على أسس جديدة من مبادئ الحرية والديموقراطية...

إنَّ من مهمات الثقافة وخطابها اليوم معالجة مباشرة فورية وسريعة لأوليات الإشكالات التي تجابهنا اليوم .. ولعلَّنا نستطيع ولوج تلك المعالجات عبر منافذ من نمط تكثيف العلاقة مع الجمهور [من قبل الأنتلجنسيا] وتفعيلها بما يدير الخطاب بتواصل من غير انقطاع من جهة التتابع الزمني, بحسب كثافة الفعاليات؛ وعبر لغة موضوعية مناسبة تصل ذهن جمهور الثقافة بل أوسع جمهور ممكن وتؤثر فيه وتثبت في الذهن بتوظيف الآليات المناسبة لتحقيق تلك النتيجة..

وعلينا كذلك التأسيس لمصطلحات الثقافة التي تمد يدها نحو الذهن الإنساني البسيط غير المعقد غير المركب الممتنع على التواصل. وتلك مهمة حيوية ينبغي أنْ يدركها المثقف والمتخصص الأكاديمي ولابد له هنا من تذكر ما للغة التفكير البياني لا البرهاني من سلطة على العقل البشري وعلى وعينا الجمعي في العراق, ما يؤهل لتوظيف الإبداع الأدبي والخطاب الثقافي المجاور في مهمة تعزيز ما نؤسس له من حياة متنورة جديدة وهذه إشارة مخصوصة بخطاب الإبداع الأدبي منه بوجه التحديد من دون إلغاء أو تقليل من شأن خطاب النقد وبقية الخطابات الثقافية المتنوعة الغنية...

وبخلاف ذلك فإنَّ السبق سيكون لخطاب الجهالة والظلامية التي تسطو على الذهن البشري بسرعة كبيرة فتلتهم بنيانه وتلفه بظلام وبطقوسية لا يمكن شفاؤه منها عبر عقود من البناء.. فالتخريب شدَّما يكون سريعا سهلا في آليات أدائه.. فيما البناء تعظم أمور معالجة أركانه وتفاصيله وحاجاته.  بخاصة بناء الروح. فحيثما سادها الظلام والعتمة ضاعت الروح بعيدا في مجاهل مغاور ترجع بالإنسان إلى أعماق تاريخ انقضى زمنا ولكنه عشعش فكرا وآلية وحياة...

ويمكن أنْ أضرب مثلا في لجوء شبيبتنا وحيرتهم بين طريقين: الفراغ الروحي والضياع في عتمة أخلاقيات الموضة وصرعات مرضية من المجتمعات الغربية وأخذ القشور والسطحي التافه من الأمور من أزياء وأغاني وما إليهما.. وبين الضياع في المغالاة والتطرف وولوج عوالم العنف المبرر بذرائع دينية أو طائفية أو ما شابه والدين ومذاهبه وغيرهما من الفكر الإنساني النيِّر براء تماما..

إنَّ مهمة خطيرة تتحملها مشروعات الخطاب الثقافي ومفرداته وبرامجه في بلادنا اليوم؛ فهلا توجه اتحاد الأدباء وروابطه واتحاد الصحفيين والفنانين والمسرحيين والأكاديميين وكل أطراف الخطاب المقصود, هلا توجهوا لمعالجة جدية فاعلة اليوم قبل الغد؟!  

وفي ظل الأوضاع الاستثنائية, تقف أمام ثقافتنا مهمات كبيرة.. وعليه فإنَّ مثقفينا يتحملون مسؤولية تاريخية بمواجهة مثل هكذا قضايا معقدة شائكة. ذلك أنَّ الأمر لن يقف عند مسألة إصدار بيانات شجب واستنكار للجرائم المرتكبة. إنَّ مهماتنا تكمن في البدء بتركيز الجهود التي تنادت هنا وهناك. وتطوير الأنشطة الفردية إلى فعاليات جمعية والتحول النوعي بها وذلك عبر توحيد جدي وحقيقي يصبّ في حملة دولية متكاملة محدَّدة المسار والخطوات ويتقاسم مثقفونا وتجمّعاتهم النوعية الأدوار المتعاضدة المتكافلة .. وفي هذا الإطار يمكن أنْ نقرأ مهام أخرى بوصفها من أولويات عملنا الحالي:ــ  

ونحن نستذكر جريمة حرق المكتبات ودور التوثيق الوطنية ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني ونهبها الأمر الذي ينبغي أنْ يقوم مثقفونا للرد عليه بمخاطبة مبرمجة وبحملة منظمة وذلك عبر عقد الصلات مع المكتبات العالمية المعروفة وكذلك أية مساهمة كانت بالتبرع لمكتبات العراق الأساسية ومكتبات الجامعات والكليات وبالاتصال بالدوريات العلمية في الجامعات التي نحن على صلة بها لكي تنظّم دعما عينيا وماليا سنويا على أقل تقدير على مدى السنتين القادمتين.. وينبغي تعبئة الرأي العام العراقي بإقامة الصلات الوثقى بينه وبين المؤسسات المنهوبة بغية توفير أرضية جدية مناسبة وقاعدة للدفاع الوطني عن تراثنا بتوضيح أهمية هذا الفعل الخطير وعلاقته بحايتنا المعاصرو وبمستقبلنا..  

  دعم النتاجات المسرحية والسينمائية والتشكيلية والأدبية وكل الأعمال الإبداعية حسب برنامج عمل يُتفَق عليه ويتم تنفيذه بالتعاون مع المؤسسات الدولية المعنية بمثل هكذا مهمات.. على سبيل المثال أنْ تقيم بعض المؤسسات الدولية والأجنبية مهرجاناتها أو عروضها في بغداد ومدن العراق الأخرى وفي الإطار تقدّم الدعم الممكن لنشاط عراقي مماثل, ويمكن للجمعيات والمنتديات الثقافية العراقية في الخارج تأدية مثل هذا الدور..

  القيام بمهرجانات الثقافة العراقية في مختلف المدن والقصبات وتوسيع أرضية المشاركة الجكاهيرية والتفاعل بين الإنسلان البسيط والآخر المنتنمي للنخبة الوطنية المثقفة ومثل ذلك إقامتها على مستوى بلدان المهجر ومدنه مع دعوة فرق أو جماعات الثقافة من الداخل لتقديم العروض أو للمشاركة في المهرجانات الدولية وذلك عبر عقد الصلات المناسبة لتنفيذ هذا النشاط الذي يحظى بأهمية للتفاعل والتلاقح بين الثقافات..

  ومن البدهي أنْ نرى أهمية الثقافة في صياغة مشروعنا العراقي الوطني الحضاري وخطورة تأثيره على كل الخطابات الوطنية بخاصة منها السياسية التي بدت اليوم أكثر ارتباكا أمام مشهد التغييرات الجذرية المزلزلة للكيان بمكوناته كافة بمعنى العمل الفاعل من أجل صياغة الهوية الوطنية لأمة عراقية تتشكل بعد مخاض طويل وولادة  متعسرة مخصوصة في مشكلاتها وعنف ما أصابت به مجتمعنا بسبب تلك الظروف الصعبة والمعقدة التي أحاطت بتلك التغييرات..  

كما إنَّ إزالة آثار الماضوية المرضية الخطيرة التي ما زالت فيروساتها تفعل فعلها من جهة الظهور والتخفي وراء أقنعة مزيفة من النفاق والرياء ما يساعدها على افتراش مساحة من الميدان الجديد لحياتنا الوطنية وهو أمر مثير للقلق ولقطع مسيرة الاستقرار التي نحتاجها وعلينا اليوم مهمات مضاعفة المسؤولية من جهة دور الخطاب الثقافي لمحو تلك الآثار البائسة ومنع تأثيراتها السلبية المعرقلة بل المدمرة...

المثقف والسلطة(11)

في تحديد مفهوم المثقف

تبلور مفهوم المثقف في القرن 19 مع “الأنتلجنسيا”، والأنلتجنسيا هي كلمة بولندية الأصل، نزحت إلى روسيا بمناسبة الوضع التاريخي الذي كان أكثر من أي وضع تاريخي آخر،

لإفراز تلك الإوالية التي تفسح المجال لظهور ذلك المثقف الذي يقف على مسافة بعيدة من نظام قائم. ويكون أكمل تعبير عن الأنتلجنسيا بالأخص الدعوة إلى تصورات مستقبلية تبشر بنظام جديد يحل محل النظام القديم1.  

وبيان المثقفين في قضية “ألفريد دريفوس”، الضابط اليهودي الذي اعتقلته فرنسا في غويانا سنة 1894 بتهمة تجسسه لألمانيا، فظهر المثقف الذي يعني سواء من حيث المعنى اللغوي أو الاستعمالي “الشخص المهتم أو المتابع في مجال بعينه أو في مجالات متقاربة، وقد يكون متابعا ومعلقا في الأدب والسينما ، المسرح أو الرسم التشكيلي، والحدود هنا واضحة بين المثقفين والمفكرين والمبدعين. أما في الثقافة العربية، فإن الحدود غير واضحة بين المثقف الذي هو قارئ ومتتبع بالأساس، وبين المفكر أو المبدع، وغالبا ما يتم إدماج الجميع داخل صيغة واحدة هي صيغة المثقفين، كما يتميز المثقف العربي بطابعه الموسوعي وتعدد اهتماماته وبنزعة تربوية، بل أبوية أحيانا اتجاه مجتمعه، والمثقف أمام شعوره بواجبه “التربوي” إزاء المجتمع، يحاول أن ينقل إليه كل الضروب المعرفية الممكنة، حتى ولو أدى ذلك إلى نوع من الإسفاف، كما ينغمس في العمل السياسي لأنه يعتبر نفسه ضميرا للشعب، ويرى أن مكانته داخل المجتمع توفر له نوعا من الحماية، وأنه يستطيع أن يصير إحدى القنوات التي يمكن أن يمرر من خلالها الخطاب السياسي في غياب المؤسسات الإجتماعية والسياسية التي يفترض أن يمر هذا الخطاب عبرها2. في حين أن المثقف “الأنتلجنسيا” يملك قدرا من الثقافة التي تؤهله من النظرة الشمولية، وقدرا من الإلتزام الفكري والسياسي، وهذا التعريف يضعنا أمام إشكال أن “الأنتلجنسيا” لم تتكون في وطننا العربي، كما تكونت في روسيا وأوربا. فلم يحدث عندنا عصر التنوير، ولا عصر ثورة علمية، ولا ثورة بورجوازية تحررية على الإقطاع والكنيسة، وكل ما حدث عندنا منذ الحملة الفرنسية 1789 لا يعدو أن يكون اتجاها إصلاحيا توفيقيا، استند إلى التراث حينا، وإلى الثقافة الأوربية حينا، وإلى الاثنين معا في بعض الأحيان، وانعكس هذا في الثقافة ضعيفا مهزوزا وولد مدارس فكرية وسياسية مقلدة، وعليه فنحن هنا أمام مفهوم للأنتلجنسيا لا ينسجم تماما مع المفهوم الأوربي المعروف، ويترتب على ذلك أن يتسع تحديد المثقف ليشمل متعلمين لا يمتلكون ثقافة “الأنتلجنسيا” ولا عمق التزامها، ولكنهم على الرغم من ذلك، على قدر من ثقافة الالتزام بالنسبة لمجتمعهم المتخلف. هذا لأن المثقف العربي يخضع للشروط السياسية والإجتماعية التي تخضع لها الأمة، لأنه يعيش في مجتمع متخلف تقوم فيه أنظمة رجعية قمعية متخلفة تحارب الثقافة، وتطارد الوعي. فالمثقف أمام افتقار الظروف الملائمة لتطور الثقافة والوعي لأن التخلف يخضع الثقافة، والقمع يعمل على أن يكون المثقف خادما للسلطان ولا يسمح بغير ذلك3. إذن ما هو دور المثقف في المجتمع ؟ 

المثقــف العربي ودوره في المجتمـــع

لقد تغير موقع المثقف اليوم عما كان عليه في الماضي، فالمثقف اليوم ليس ذلك الذي «يفك» الحرف في مجتمع تغلب عليه الأمية، وليس ذلك الذي يقرزم الشعر في المناسبات، وليس ذاك الصوفي المعزول في برج عاجي، مهمته أن يتأمل ويستنبط من أجل الوصول إلى «الحقيقة» المطلقة فيخرج بها على لناس بعد طول غياب، المثقف اليوم هو الذي يعي روح العصر، ويندمج في تياره ويساهم عن طريق الكلمة والفكر من أجل زيادة معارف الناس وصقل وجدانهم وجعلهم أكثر إنسانية1 لكونه يشكل شريحة متميزة داخل المجتمع بسلوكه وأفكاره وذوقه، يسعى باستمرار إلى تعديل القيم الثابتة وإلى العمل أحيانا كجماعة ضغط معنوي من أجل مبدأ أو قضية ما2.

يتموضع المثقف ضمن ثقافة معنية هي نتاج التبادل الإجتماعي في مرحلة تاريخية محددة، ويساهم في هذه الثقافة بالإنتاج والتطوير أو الإستعمال، أي أنه لا يكف عن المحافظة على قيم هذه الثقافة، والعمل على توصيلها وإعادة إنتاجها. وإنما يضع باستمرار أساسيات هذه الثقافة موضع سؤال وبحث ونقد، فهو محافظ على ما هو مألوف وناقده، وهذا النقد عمل شاق والإختلاف عما هو مألوف يقتضي قرارا استراتيجيا يقول بالتجاوز، ويعمل على صياغة خطاب يعاند ويتغاير مع السائد، لكنه خطاب بدون إنجاز، تعوزه الشروط الموضوعية التي تسعفه على التحقيق، على اعتبار أن القرار العملي ليس في متناوله كالقرار النظري3 لذا فنجاح دور المثقفين يقتضي استقلاليتهم في الرأي والفكر، وعدم تبعيتهم لسياسة السلطة التي تتعارض مع الثوابت التي يتمسكون بها: أي وجوب عدم تبعية الثقافة للسياسة، مع ضرورة تعزيز العلاقات بين المثقفين والسياسيين وعلى المثقفين العرب العمل على توحيد جهودهم الفكرية  والثقافية من خلال النقابات والمهن التي ينتمون إليها والإتفاق على نقاط محددة تبين بوضوح مجال نشاطهم الثقافي والسياسي. والتخلف والأمية عاملان يزيدان من أهمية دور «الأنتلجنسيا». 

فهي مطالبة ببث الوعي وعليها -أي الأنتلجنسيا- بحكم وظيفتها أن تنصرف إلى نشر الوعي في المجتمع، وتكون باعثة للفكر الصحيح، وحامية له، هذه الرؤية لم تتكون بعد عند الأنتلجنسيا أو رجال الفكر في الوطن العربي، أو لم تتكون إلى الحد الذي يجعلهم فاعلين مبدعين في مجتمعهم أو حتى في اختصاصهم، فالقيادة العربية، أو القيادة السياسية العربية في معظمها ليست قيادة تعي دورها التاريخي، بل هي قيادة جاءت نتيجة ظروف طارئة معينة في كثير من الأحوال، فالوعي التاريخي وعي إرادة أمة ووعي نهوضها. كما أن هذه القيادات لا تحترم الثقافة إلا باعتبارها مظاهر، وبالتالي فهي تخرج المثقفين من المعركة وتحولهم إلى هوامش في تكتيكها السياسي. 

والقيادة الثقافية أيضا لا ترى دورا رئيسا في النضال ضمن الحركة الشعبية، ومادامت كذلك فهي لا تستطيع أن تساهم في المشروع الحضاري العربي الكبير. وأولى إشكالية تحول دون ممارسة المثقف العربي لدوره هي نخبوية الثقافة والمثقفين، هذه النخبوية التي تعبر عن وجودها بشكل قطيعة بين المثقف والناس العاديين الذين يفترض أن المثقف يتكلم باسمهم، أما الإشكالية الثانية التي تواجه المثقفين العرب وتقلل فاعليتهم، فهي عدم تحديد الأولويات، وإلقاء نظرة عامة على النتاج الثقافي العربي منذ عصر النهضة يبين أن المسألة الوطنية وفحواها في تحقيق الكيان القومي وبناء الوحدة العربية، قد شاطر المسألة الإجتماعية الإهتمام الأكبر. 

فالفكر يرتبط بالواقع في عملية تأثير وتأثر متبادل تعني جهدها الدائم، هذا الإرتباط هو الأساس في كل معرفة، والمعبر عن وحدة النظر والعمل، وانطلاقا من المبدإ في نظرية المعرفة يكون النظر غير منفصل عن إبداعه لواقع جديد. هذا الجانب العملي من النظرية ملازم لجانبها التاريخي حيث أن موضوعية العالم وصيرورته لا تدركهما المعرفة الإنسانية إلا عبر الممارسة التاريخية التي لا تنفصل عنهما.  

فرؤية الواقع كما هو هي المقدمة الأولى لفهمه وإدراك أبعاده، يمثل هذا الفهم بدوره شرط التغيير وأحد مقوماته4. وإذا كان الكاتب الفرنسي يدعو إلى أن يكون للكاتب موقف من القضايا العامة وأن يعمل على توجيه الرأي العام والتأثير على السلطة في اتجاه أسلافه من أجل إرساء الممهدات التي مكنت من الإعتراف بسلطته ككاتب فقد واجه أسلافه الإستبداد كنظام وأيديولوجية تبرره، وأرسوا مبادئ التعاقد والحرية والمصلحة العامة، والإقتراع العام وخاضوا معركة طويلة ضد الرقابة من أجل الحق في الرأي. وكانت هذه ممهدات لابد منها لتأسيس سلطة الكاتب المعنوي في المجتمعات الديمقراطية. 

لابد لكتابنا من النضال الثقافي لتعبيد الأرضية الديمقراطية حتى يكون لهم معنى الحديث  عن رسالة الكاتب ودوره في عملية التغيير، هذالأن كتابنا القدماء لم يكن هناك شيء اسمه الرأي العام، فلم يكن أمام كتابنا القدماء ما كانوا يسمونهم بـ «العامة» ولم يكونوا يعولون عليهم ليجدوا فيهم سندا لما يكتبون، وحده الفقيه هو الذي كان له نفوذ لدى العامة، نظرا لحاجة هؤلاء إلى عمله الديني، وكاتبنا يريد أن يكون كاتبا بالمفهوم الحديث لا وارثا لسلطة الفقيه الدينية. وقد كان قديما داخلا في علاقة ثلاثية العالم -الحاكم- العامة. العالم يسعى إلى أن تكون له سلطة عن طريق عمله والحاكم لا شريك له في سلطته ويسعى إلى أن يستتبع السلطة العلمية وأصحابها. والعامة هم موضوع الرهان بين الحاكم والعالم، يدعي الفقيه أن له الرقابة على المجتمع ليكون مسلما وعلى الحاكم لتقوم شرعية نظامه على تطبيق الشريعة الإسلامية، فلابد أن يوجد له فقهاؤه الذين يشهدون له بذلك، وعليه أن يضمن شهادتهم له باللجوء إلى الترغيب أو الترهيب، لذا على كاتبنا أن  يناضل من أجل تأسيس سلطته الفكرية التي يفترض أنها موجودة قبل أن ينتظر من الآخرين التسليم له بها. 

إن عليه اكتسابها استحقاقا بنضال ثقافي عسير. وينبغي على نضاله أن يكون نضالا من أجل الديمقراطية، لأنها هي الكفيلة بتحقيق الشرط الأساسي لوجود واستقلال المثقف5.اذن ماهي علاقة المثقف بالسلطة ؟ 

المثقف والسلطة

تنشأ علاقة المثقف بالسلطة عن ضرورة إنتاج كل مجتمع لنظام ما، قد يكون قيميا أو تشريعيا أو رمزيا أو سياسيا، يتكون هذا النظام بهدف ضبط مفاصل تشكيلية اجتماعية معينة، واحتواء ما يستجد داخلها. ولكي يكون هذا النظام ناجحا ويقوم بدوره لابد أن يقوم على معرفة، فوراء كل نظام مهما كانت طبيعته ومقوماته معرفة ما. والسلطة من هذا الباب هي أيضا نظام يتطلب كي يصبح سلطة تحوز قبول الآخرين ورضاهم معرفة تزوده بوسائل الضبط والرقابة كما بأدوات الإقناع والهيمنة هناك ثالوث عضوي متماسك يتكون من النظام والمعرفة والسلطة.

والمعرفة عامة هي بعد من أبعاد السلطة، مما يجعل القول بالشكل الضدي والاستبعادي أو حتى التوفيقي تغيبا لحقيقة العلاقة بين الطرفين، حيث إنه لا سلطة بغير ثقافة ولا ثقافة إلا وتنتسب إلى سلطة ما سائدة وتسعى إلى أن تسود، بهذا نكون أمام لوحة غنية تمثل علاقة المثقفين بالسلطة، تبدأ بحد اللامبالاة، مرورا بأشكال أخرى مثل علاقة الوصايا والإضطهاد كما وعلاقة المشاركة الحرة، وصولا إلى التحالف العضوي بينهما4.

فالمثقف كيفما كان مجال اختصاصه، هو الذي يزود النظام بوسائل الضبط بواسطة المعرفة التي ينتجها، فكل نظام يستدعي معرفة تقوم بالعمل على صياغة الحقيقة، وهو يمتلك حقيقته الخاصة به التي عملت المعرفة المنتجة من طرف المثقف على تأطيرها داخل نظام من القول وقنوات التبادل والميكانيزمات التي تعلم التفريق بين الحقيقي والمغلوط.  

النظام لا يمكنه أن يحيا بدون وضع سياسة عامة للحقيقة التي بها يضفي الشرعية على خطابه وتحركاته وأجهزته ووعوده وممارسته.  

والمثقف يمتلك إمكانية إنتاج نوع من أنواع الخطاب، وهو بذلك يلعب بسلطة لا حدود لها هي سلطة الرمز والكلام، ومن يملك الكلام، فإنه لاشك يملك من خلاله سلطة للجذب خاصة يمكن أن تخترق حدود الشعور إلى دغدغة ما هو ثاو في اللاشعور.  

ومن ثمة، يمكنه فرض أسلوب معين من النظر، وطرح السؤال ومحاكمة الأشياء بتكريسها أو بالدعوة إلى إعادة النظر فيها.  

فالمثقف الذي يستهدف تغيير السائد ينطلق من قاعدة الرفض، لا يستكين إلى تجليات البنيات السائدة الثقافية والعلائق الإجتماعية والتوزع المادي للخيرات الإقتصادية، وهو مطالب بمجاهبة بنيات راسخة مترسبة في لا وعي الناس، كثيرا ما تعبر عن ذاتها بشراسة تتخطى الإمكانيات القليلة التي يحوزها هذ المثقف الرافض، ولو انخرط في حركة اجتماعية يمكن أن تحمي وجوده، فإنه لا يمتلك إلا رصيده الرمزي الذي لا يضمن تحويله إلى قوة مادية حينما تنصهر في الناس.  

لأن هذا النظام ينتج من العناصر ما تخول له إمكانية جذب هذا النقد وضمه، ودمجه في دائرة السلطة كيفما كانت طبيعتها ووظيفتها وغايتها، فهو يتكون -النظام- لضبط مفاصل تشكيلة اجتماعية معينة واحتواء ما يمكن أن يستجد داخل هذه المفاصل، ولكي يضبطها لابد له من معرفة، والسلطة في حاجة دائمة إلى نظام، والمعرفة هي التي تزودها بوسائل ضبط النظام، ووسائل خلق التوازن والقوانين لضبط الفوضى السائدة في المجتمع. إذن، فالدولة سلطة -وليست كل سلطة دولة، لوجود أشكال متعددة للسلطة تفعل فعلها وتتفاعل داخل نسيج التبادلات الإجتماعية-، هي مجموعة من الأجهزة، سواء أجهزة منتجة للإيديولوجية أو أجهزة قمعية لتستوعب كل أنواع السلطة السائدة في المجتمع، وتكتسب شرعيتها اعتمادا على قوانين5.  

الحديث عن المثقف والسلطة لابد أن يتحمل العطف معنى المعية، والضدية وما بينهما! إن الصورة التي يرسمها المثقف عن نفسه على أنه طرف نقيض للسلطة لا تثبت إلا في حدود، وحالات قصوى، فأغلبية أهل المعرفة لا يمكن أن يكونوا إلا داخل سلط يولدون في مؤسستها، ويتعيشون منها، ويموتون فيها.  

هم فكريا وإيديولوجيا في ثقافة السلطة يمارسون سلطة ثقافية. ومرونة الحرة داخل هذا الوضع تتسع وتضيق حسب الشكل المؤسسي وباختلاف الأنظمة السياسية، بعضها يؤدي إلى حالة ازدواج قد يقال عنها إنها خروج في السلطة أكثر مما هي خروج عن السلطة كالجامعيين الذين قد يبادرون فكريا أو سياسيا، ولكن في حدود عدم الإضرار بسلطتهم المعرفية أو الإدارية داخل هياكل الجامعة، فالمثقف كثيرا ما يقدم نفسه على أنه ضحية السلطة، ولكنه قلما يتنازل عما تمنحه له السلطة من امتيازات، إنه يطمح إلى اكتمال سلطته، إلى أن يكون سلطة6.  

1- نديم الانصاري – المثقف العربي والسلطة – مجلة الوحدة العدد 10 يوليوز 1985 صفخة 13

2- د المختار بنعبدلاي – الثقافة العربية ومعطيات الواقع الراهن والافاق المتطورة – مجلة الوحدة العدد 101-102 مارس – فبراير 1993 صفخة 47

3- ناجي علوش – المثقف العربي والنضال القومي – الوحدة – المثقف العربي بين السلطة والمجتمع تموز 1985 صفحة 60-62

4- كريم ابو حلاوة المثقف العربي واشكالية الدور المفقود- مجلة الوحدة العدد 66 مارس 1990 المثقف العربي والتحولات المجتمعية صفحة 88

5- محمد نور الجين افاية – المثقف والسلطة- جدل الاقصاء والاعتراف مجلة الوحدة – المثقف العربي بين السلطة والمجتمع تموز 1985العدد 10

6- د- طاهر لبيب تساؤلات حول المثقف العربي والسلطة مجلة الوحدة 1985 العدد 101- 102المثقف العربي بين السلطة والمجتمع صفخة 5  

(الحياة)تحاور الفكر العربي:أين نحن في العالم؟متى ينتهي الانحدار؟أي دور للمثقف؟محمد جمال باروت:الأحزاب العربية تعيش أزمة نهايتها و (الانتلجنسيا)دمرت المثقف(12)

أطل الباحث السوري محمد جمال باروت على الماضي العربي، قديماً وحديثاً، في نحو عشرين كتاباً نشرت له حتى الآن. كان يقول دائماً ان الاطلالة على الماضي ليست إطلالة حنين أو استنهاض همم بقدر ما هي غذاء للمستقبل. فأن نسائل التاريخ معناه أن نبني المستقبل انطلاقاً من الحاضر. لكنه في الآونة الأخيرة بدأ يطل على المستقبل، في علاقته بالحاضر. ربما لم يكن هذا بالنسبة اليه اختياراً ايديولوجياً خالصاً، بقدر ما كان ضرورة مهنية. فصاحب «حركة التنوير العربية في القرن التاسع عشر» و «الطريق الى القدس» يعمل الآن حالياً مشرفاً على مشروع مرتبط بمنظمة الأمم المتحدة لاستشراف المستقبلات العربية.

اذاً، منذ سنوات وباروت يرسم المخططات ويسترجع المعطيات ويجري الحسابات لدرس العدد الأكبر من سيناريوات تتعلق بالمستقبل العربي. فإلام أوصله هذا؟ الى التباس، نابع من غموض الحاضر؟ أم الى وضوح يرتبط بأن الامور العربية ما عادت تحتمل اكثر مما احتملت؟ الى التفاؤل أو الى التشاؤم؟ هو نفسه لا يستطيع أن يجيب. كل ما في الأمر أنه عرض ما لديه في هذا الحوار الذي أجرته معه «الحياة» ضمن سلسلة حواراتها مع الفكر العربي التي شملت حتى اليوم الدكتور سمير أمين وجورج طرابيشي وبرهان غليون والطاهر لبيب ووجيه كوثراني وعلي أومليل ومحمد الرميحي وعبدالمنعم سعيد وابراهيم البليهي وسعدالدين ابراهيم وعبدالله الغذامي وطيب تيزيني وتركي الحمد وعلي حرب، وهي حوارات تركز اهتمامها على الأوضاع العربية الراهنة ودور المثقف وآفاق تلك الأوضاع وهذا الدور. ومحمد جمال باروت المولود في حلب (سورية) في العام 1958، ليتخرج في جامعتها في الأدب الفرنسي، عرف أول الأمر ناقداً أدبياً معنياً بالحداثة، حين كان كتاب «الشعر يكتب اسمه» أول انتاجه. وهو بعد اصدار العديد من الدراسات الادبية بدأ تحولاً اساسياً في نشاطه الفكري اذ ركز اهتمامه على قضايا التنمية السياسية والانتاج الفكري، وقضايا الدولة والمجتمع المدني والعلمنة والتحول الديموقراطي. وكان من الطبيعي أن يقوده هذا الاهتمام المتنوع شكلاً، والمركّز مضموناً الى دراسة تاريخ الافكار والحركات السياسية في العالم العربي. ومن نتاجه في هذا المجال «يثرب الجديدة: الحركات الاسلامية الراهنة» (وهو كتاب أثار ضجة كبيرة حين صدر) و «اطياف الحداثة بين علمانية النخبة واسلامية الأمة» (1994) و «حركة القوميين العرب: النشأة التطور والمصائر» (1997)، ومشروع سلسلة كتب «الأحزاب» في ستة اجزاء. كذلك اصدر باروت كتباً اخرى بينها «سورية بين عهدين» واشرف على تحرير «نحو اصلاح جامعة الدول العربية» و «احتلال العراق وتداعياته عربياً واقليمياً ودولياً».. الخ. واذا كان عمل باروت الرئيس ينصب اليوم على مشروع استشراف المستقبل العربي، فإنه كان سبق له في العام الفائت ان اشتغل كمؤلف رئيسي في صوغ «التقرير الوطني الثاني للتنمية البشرية» الصادر ضمن اطار برنامج الامم المتحدة الانمائي، دمشق. > أنت تعمل منذ فترة على مشاريع تتعلق باستشراف المستقبل العربي، وكنت قبلها مهتماً بالماضي العربي القريب. ففي ضوء هذا التجاور لديك بين ماض رأيت دائماً انه مثقل بعبء الحزبية اللفظية، ومستقبل لا يزال في علم الغيب... كيف ننظر الى الحاضر العربي؟ هل أوصلتنا الأحزاب العربية – التي درستها في شكل جيد – الى مكان؟ هل انتهت؟ وفي دراساتك الاستشرافية للمستقبل، هل هناك مكان للأحزاب مثلاً؟ باختصار، ما تشخيصك للواقع الذي تعيشه؟

- ان طريقة التفكير بالمستقبل تختلف كلياً عن طريقة التفكير بالماضي، بالتالي فإن تصور المستقبل لا يمكن ان يكون تصوراً خطياً احادياً يندرج في الترسيمة الثلاثية المعهودة (ماضٍ، حاضر ومستقبل)، بل هو مشحون بالمفاجآت، خصوصاً بمساحة من عدم اليقين تزداد حدة في مجال الدراسة الاجتماعية. أما اذا عدنا الى وراء لننظر الى البعد الاجتماعي – السياسي المتعلق بالأحزاب العربية، فسنرى ان السمة المهيمنة على هذه الاحزاب عموماً – واذا استثنينا الأحزاب النخبوية الليبرالية، الهامشية والتي لم تحكم - هي سمة انقلابية، ولا اقصد الانقلاب بالمعنى العسكري كأداة للتغيير، بل الانقلاب على فكرة التغيير الشامل الجذري للمجتمع، في ضوء مثال ايديولوجي اجتماعي نقي قد يكون حامله طبقة او امة او ديناً، بالتالي يصدر عن بنية واحدة لكن تعابيرها الأيديولوجية والفكرية تتمايز بحسب المضمون الايديولوجي، والمواضيع واحدة لديها. المهم ان هذه الأحزاب حملت جنون السلطة، بالتالي ما كان من أمرها الا التفكير بالمنزع الاستعجالي: فاستعجلت الوصول الى الدولة ممثلة السلطة، ومن ثم استخدامها في فرض التحول الاجتماعي والاقتصادي الشامل. وهذا لم يكن مجرد رهان محلي خاص، بل كان جزءاً من مرحلة عالمية مر بها العالم الثالث وتعانقت مع تطلعات اليسار في انحاء اوروبا. هذه الأحزاب تعيش اليوم نهايتها التاريخية حيث تواجه ازمة عنيفة، لا سيما في العالم العربي. اذ ان عمليات الاندماج التدريجي المتسارع في الاقتصاد العالمي (ضمن اطار العولمة)، باتت تفرض تغييرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية ومؤسساتية، جديدة تماماً على المجتمعات العربية، ناهيك بأن ثورة الاتصالات تغيّر صورة العالم، وتباغت احزابنا وسلطاتها. والدليل على هذا ان «الدش» (الأطباق اللاقطة) والفضائيات تؤثر اليوم في مجتمعاتنا اكثر من كل القرارات والبيانات الحزبية. صحيح انه يترافق مع قضية العولمة صعود قوى قومية، او جبارة مفترسة تحاول توحيد الكوكب في سبيلٍ مصالحها، لكن هذا واقع جديد، علينا التعامل معه وايجاد سبل للتعايش مع تغيراته الجديدة التي تجعل الولايات المتحدة، مثلاً، قوة غزو مغيرة وفاعلة في اللعبة السياسية - لا سيما في العالم العربي - بعدما كانت قوة تدخل موارب وداعمة لانقلابات داخلية، لا أكثر. الانقلابات وأحزابها : > يوصلنا هذا الى بيت القصيد: هذه الانقلابات وأحزابها كانت كلها مرتبطة بالمثقفين. حتى ضباط الجيش الذين تزعموا الانقلابات كانوا مثقفين «مؤدلجين» في شكل أو آخر. فهل معنى هذا ان طبقة الانتلجنسيا الحزبية الانقلابية التي تكونت في الاربعينات والخمسينات من القرن العشرين انتهى دورها عندنا؟ - هذا بالضبط ما اريد قوله. ان كل الأحزاب العربية العقائدية، بل الليبرالية أيضاً تعيش ازمة نهايتها. وهنا اركز على أمر أراه مهماً، يتعلق بمفهوم الانتلجنسيا ذاته. وهي مجموعة مفكرة، تفكر عادة بما يجب أن يكون بمعنى انها تعمل لتحويل ما هو قائم الى ما تتصور ضرورة قيامه، بالتالي يكون الفكر الإرادوي جزءاً اساسياً من مكوناتها. والنقطة الثانية تتحدر من الأولى، إذ ان واحداً من اهم امراض الانتلجنسيا العربية يكمن في تصور أفكار وحلول مأخوذة من النصوص ولا علاقة لها بمعطيات الواقع، ما يجعلها طوباوية تنتمي الى معارك دون كيشوتية. لكن المحزن ان هذه الانتلجنسيا وأحزابها هي التي وصلت الى السلطة، وان كان الى جانبها بعض العمال والمفكرين الصادقين، ما دمّر مفهوم المثقف وصورته امام الناس. فمثقفنا «المؤدلج» ينطلق دائماً من تصور انه ذو وصاية على الآخرين (هذا ما عناه بالطليعية). عيّن نفسه ناطقاً باسم الشعب والأمة – والطبقة - وحين وصل الى السلطة لم يعد يعرف ماذا يفعل بها. قمت قبل فترة بتحليل بنية النظام العراقي ايام حكم صدام حسين، فرأيت انها كانت تمثل نفياً لفكرة الحزب كما تصورها ميشال عفلق وصاغها في نظراته الطوباوية الى الأمة والشعب. المهم ان هذا كله يصبح الآن من الماضي، حيث تنتهي مرحلة من الهيمنة من دون ان يعني هذا نهاية التيارات التي فرضتها، وإن باتت جزءاً من ماضٍ يتشبث بالبقاء. السؤال الآن هو ان ثمة تيارات تبزغ، فهل من الممكن ان نرشحها للمستقبل، أم اننا بتنا في مرحلة ما بعد التيارات؟ من الصعب الاجابة، ولكن من الواضح ان ثمة اموراً تنتهي وثمة مجالاً يصلح ليكون أرضية ليبرالية تشتمل حتى على صورة جديدة للمثقف. > ولكن، أين الشعب؟ اين الناس في تصورك؟ هل عليهم ان يفكروا بأنفسهم لأنفسهم أم انهم سيطلعون انماطاً جديدة من المثقفين ويكلفونهم التفكير عنهم؟ - الآن نعيش في ظل التحولات الاقتصادية الثقافية والاجتماعية، مرحلة نجد المثقف فيها في واد والشعب في واد آخر. حتى اذا أخذت ما يسمى المنظمات غير الحكومية وأهل المجتمع المدني في كل بلد على حدة، لوجدت ان ليست لها علاقة بالناس. هموم الناس مختلفة عن همومهم اختلافاً كبيراً. في الفترة السابقة كانت هناك على الأقل نقطة إيجابية في مسار احزاب الانتلجنسيا الآفلة الآن، هي انها كانت تلتقط الاحساس الشعبي العام بكل بساطة محاولة التماشي معه، وغالباً بعد تكييفه مع طوباويتها، خصوصاً قبل ان تصل الى السلطة وتلجأ الى العنف والبيروقراطية لحكم الأمة. هذا يبدو غائباً لدى الليبراليين الجدد على رغم حسن نياتهم. الغائب : > تتحدث عن النخب، وعن الأحزاب التي حكمت. أين الشعب وسط هذا كله، هل تراه قادراً على ان يلعب دوراً ما، في ظل غياب الديموقراطية الانتخابية والتشريعية الحقيقية؟ - بالتأكيد، الشعب لا يزال غائباً عن العملية الاجتماعية والسياسية بمعناها العميق. كل ما في الأمر انه يُستدعى حين تدعو الحاجة، ولكن فقط كموضوع لاسباغ شرعية على السلطات. ولا أعني السلطات والنظم السياسية فقط، بل كذلك السلطات التراتبية الاجتماعية في المجتمع. وهذا نجده ايضاً داخل الاحزاب والمؤسسات التي لا تزال محكومة بعقلية الاحزاب السلطوية... ولأقل بالأحرى، التسلطية. > وما دور الدولة في ظل الاوضاع العالمية والمحلية الراهنة، سواء كانت دولة حزبية أم ريعية، أم دولة شبه ديموقراطية، في العالم العربي؟ - العملية الموضوعية في لعبة الاندماج الاقتصادي العولمية، أدت الى تراجع الدور الاجتماعي للدولة الذي كان في مقدم مبررات اختراق الدولة التسلطية للمجتمع، بالتالي التحكم برقاب البلاد والعباد. في ذلك الحين كانت الدولة تحاول ان تجعل من نفسها، زيادة في إمساك المجتمع من رقبته، دولة رعاية اجتماعية. لكن هذه الوظيفة تتحلل اليوم تدريجاً، تحت ربقة الليبرالية الجديدة. وهو أمر يكشف مشكلات، كانت موجودة انما مقنّعة في الماضي، أهمها مشكلة اتساع الفقر. خذ سورية مثلاً، بعد عقود من التنمية، فيها 30 في المئة من السكان تحت خط الفقر. في بلدان عربية نجد حضوراً لمستوى فقر يزيد على المعدلات العالمية. صحيح ان الفورة النفطية ادت الى نمو مالي، لكنها لم تؤدِ الى تنمية مستديمة. بالعكس، انفجرت مشكلات جديدة لم تكن واضحة في ذهن المثقف العربي ووعيه سابقاً، فهو كان مشغولاً بأفكار مثل «الوحدة هي الحل» و «الاشتراكية هي الحل» واليوم «الاسلام هو الحل»... فاذا سألته كيف؟ لن يجيب. > استناداً الى هذا كله يأتي السؤال عمن ينطق اليوم باسم الشعب، بل هل الشعب في حاجة حقاً الى من ينطق باسمه؟ من يلعب هذا الدور، المثقف الليبرالي الجديد؟ الكتلة المسماة الطبقة الوسطى؟ الصحف؟ الاعلام؟ مَن؟ - لعل السؤال الأجدر بأن يطرح هنا هو: من هو الشعب اصلاً؟ هل هو هذه الكتلة الجماهيرية المحققة في شكل ناجز مرة والى الأبد، أم ان الشعب يحيل على مفهوم نظري يقوم على الاندماج الاجتماعي والاقتصادي والمواطنية المتطورة؟ ان هناك منهجين: المنهج النظري الذي هو اقرب الى التفلسف وينطلق من نظرة مسبقة الى الكتلة البشرية المحلية، ما يشكل خطورة لأن من نتائجه القول أننا ما زلنا ضمن اطار الجمودية التاريخية، ونظل محكومين بانقسامات عمودية لا بانقسامات طبقية افقية هي مجال اندماجنا اجتماعياً وكمواطنين. ومن اخطار هذه النظرة، سهولة سماحها لكل انواع الأصوليات المتعصبة بأن تضع الناس على هامش الاندماج الاقتصادي وسط هويات محددة وتشكيلة وطنية واحدة، لا تزال تعيش عندنا منذ ما قبل الحرب الباردة. ان الأصوليات – من الأنواع كافة – هي التي تستغل هذا التهميش، والشعب المهمش من النظم التسلطية، وربما ايضاً من المثقفين والنخب، لتدفيعه الثمن السلبي لعملية التحول ولما يسمى الإصلاحات الاقتصادية التي ليست سوى اسم لإعادة هيكلة الواقع المزري، عبر تخويف الناس من الآخر، وتصويرهم ككتلة متراصة متماسكة داخلياً، محاطة بالأعداء الطامعين! > هل يمكن، بعد، الحديث عن مثل هذه الأمور في شكل قومي شامل وامتدادي على رقعة العالم العربي، أو بات حتمياً الحديث عن كل قطر على حدة، بالنظر الى التفاوت في التنمية والثروات، وحتى في وعي التاريخ، بل في السيرورة التاريخية... هل يمكن مَن يريد ان يدرس التجربة العربية في شكلها الشامل ان يفعل؟ - لا بد من اعادة النظر في مفهوم القومية، خارج اطار المفهوم التقليدي للحركات القومية السابقة. انا أدافع عن فكرة اننا امة واحدة بدول متعددة. متعددة ليس فقط بسبب الحدود السياسية، بل كذلك لأنها تقوم على تنوع بات اكثر وضوحاً. كما انها، في منظور سوسيولوجي باتت تعرف في ما بينها تفاوتاً في مستوى التطور والتنوع يصل الى درجة ان الفوارق داخل هذه الأمة الواحدة باتت اكثر عمقاً وضخامة مما بين «الأمة» والأمم الأخرى. من هنا صارت العودة الى الواقع ضرورية. في الماضي كان الفكر القومي العربي التقليدي الذي انتسبنا بأفكارنا اليه ذات يوم، يتصور ان هذه الدول التي يسميها «قــطريـة»، مجرد كيانات كرتونية ذات حدود مصطنعة، تكفي ازالتها لتحقق الوحدة تقليدياً. ولكن سرعان ما تبين ان هذه الدول رسخت هوياتها ومؤسساتها بصرف النـظر عما اذا كانت عصرية او متخلفة، او مثالاً ساخراً لـ «الدولة الحديثة». فكل هذا شيء آخر. هذه الدول هي اليوم حقيقة تاريخية وجغرافـيـة، وإن كان ثمة بون شاسع بين حقيـقـة هذه الدول والمنطق المركزي للأمة الذي له عـصب يكاد أن يكون واحداً يـخلق من حول ثـقـافة عربية – اسلامية. أمر آخر ان يكون معظم هذه الدول فشل في ايجاد هوية ثقافية خاصة به، خصوصاً الآن بعد ثورة الاتصالات التي باتت تخدم كعنصر اساسي في تواصل الجماعات العربية. لكن هذا شـيء والتـكامل الاقتصادي شيء آخـر، من هـنا تسقـط الآن مقـولات مثل الاقتصاد القومي الذي لم يكن اكثر من أمنية. والحال ان هذا كله يستدعي دراسات جديدة والوصول الى نظرات جديدة على صعيد الفكر العربي العام. > من يتولى هذا العمل؟ مَن هو الطرف المخوّل بالوصول الى استنتاجات؟ مَن المنتدب للمهمة ومَن الذي ينتدبه؟ - حتى الآن لا يزال في الإمكان ان يقوم بالمهمة المثقف المتحدر تقليدياً من خلفيات ايديولوجية وفكرية واعية. لكن هناك نمطاً آخر للمثقف، هو نمط المثقف الخبير الذي يريد ان يقوم بذلك من خلال واقع النظم القائمة، ومن خلال واقع مفاهيم التنمية العالمية ومؤسساتها العولمية وأفكارها الليبرالية الجديدة. في معنى آخر، لا تزال هذه العملية والى حد كبير، نخبوية. لكن الشرط الأساسي للوصول الى تحقيق هذا يتمثل في قيام ديموقراطية حقيقية، أميّزها طبعاً عن «الديموقراطية» الكاريكاتورية التي تعرف في معظم بلداننا العربية. الديموقراطية المنشودة هي التي تعني استعادة الامة والشعب سيطرتهما على مصيرهما، وسيادة حقوق الانسان وقبول الاختلاف، وخوض سياسة تسير مع العالم والعصر قدماً الى أمام. > لن تزعم ان هذا كله سيتم تلقائياً حتى يصل الأمر الى سيادة القانون والخبراء وسيطرة الشعب على مقدراته، من طريق العمل السياسي. هل الديموقراطية وسيلة الى ذلك أم غاية؟ - اذا اردنا ان نتحدث عن هذا كله سنجد أنفسنا في مأزق يدفعنا الى عودة الحديث الى انماط النخب القديمة. في ضوء المتغيرات الدولية الحاصلة، ستتم العملية – وآمل بألا أكون شديد التفاؤل – من طريق خوض عملية اجتماعية اقتصادية تستبطن ما هو كوني وانعكاساته داخل التشكيلة الوطنية. والأرجح ان غياب مفهوم الاقتصاد القومي الطوباوي، وبروز الواقعية التنموية سيفرزان قوى جديدة، أي سيكون هناك فاعلون اجتماعيون جدد. وقد يكون مفيداً ان نقارن ما يمكن ان يحدث عندنا مع ما يحدث في بعض انحاء اميركا اللاتينية حيث تبرز قوى جديدة وسلطات جديدة، منبثقة من الشارع الحقيقي، ومختلفة كلياً عما تعودنا عليه. هناك ثمة يقظة للهويات المحلية، وعودة هادئة الى التراث الثوري، وموقف واع من العولمة الليبرالية الجديدة، وثمة سعي الى التكامل يختلف عن حكاية البقاء عند فكرة المراكز الامبريالية المسيطرة. من هنا أقول ان ليس صحيحاً ان الأفق الليبرالي الجديد (نيوليبرالي) للعولمة هو الأفق الوحيد. بالعكس، بات العالم، تحديداً مع العولمة، اكثر تنوعاً وغنى، لكنني لا ازال غير قادر على ان اقول كيف سينتقل هذا كله الى عالمنا العربي. فقط يمكن ان اقول ان العملية الاجتماعية الاقتصادية الجارية ستفرز قوى جديدة، أي فاعلين جدداً في ظل عوامل ومتغيرات جديدة. > أمور كثيرة تقول انك غير قادر الآن على تصور كيف ستكون، ومع هذا تشتغل بدأب على مشروعك المتعلق باستشراف المستقبلات العربية. عملك يضعك امام سيناريوات للمستقبل قد يصح بعضها وقد لا يصح... - العمل الاستشرافي هو في الأصل عمل فريق متكامل يتألف من مجموعات متعددة، خارج اطار الهم الأيديولوجي، وضمن تزاوج بين الاختصاصات. انه على صعيد المنهج يستشرف السيناريوات المحتملة ليختار الممكن، ليس في ضوء رغبته، بل في ضوء المعطيات المنطقية. من هنا فإن الأمر يتعلق برؤية واقعية، لا بمخطط رؤيوي. المخطط يسعى الى هدف معياري، في حين ان المستشرف يصل الى استنتاجات واقعية توضع في ضوئها الاستراتيجيات. في عالمنا العربي بدأنا للتو بهذا النوع من الممارسة. في الماضي لم نكن نفكر بالمستقبل إلا وفق ايديولوجيتنا، سواء كانت قومية أم اشتراكية أم إسلاموية، أما الآن فلا نستطيع أن نفعل أكثر من تبيان المؤشرات ووضع الاستنتاجات، مع الحرص على عدم الجزم في أي موضوع... الدولة وأدوارها : > في العالم الآن، يتقلص دور الدولة، من الدولة الأيديولوجية السلطوية المهيمنة على كل المقدرات، قمعاً أو إقناعاً، الى الدولة المديرة التي تدير الأمور والصراعات، والاتفاقات لمصلحة المجتمع المدني ودروب نموه، ما يجذبه نحو المنظمات الاجتماعية بدل الأحزاب والأيديولوجيا، والنقابات بدل الأحزاب، حيث لا تعود المعارضة السياسية سوى جزء فولكلوري من السلطة... أين عالمنا العربي من هذا؟ - اذا استثنيا صورة الدولة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والتي هي نتاج تطور متقدم دام قروناً طويلة، ما تقوله هو بالضبط وصف للأيديولوجية العولمية الليبرالية الجديدة المطروحة حالياً لدور الدولة: دولة أقل لمجتمع مدني أكثر. وتقارير البنك الدولي في معانيها العميقة تتحدث عن هذا، خصوصاً عن الدور المتناقص السياسة، المتزايد الإدارة للدولة في المجتمعات الحديثة. > وهل تعتقد بأن البنك الدولي ساهم في تغيير الدولة وإعطائها دوراً جديداً خلال ربع القرن الأخير؟ - الى حد ما... ولكن فقط منذ انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وانطلاق اتجاهات الخصخصة الشاملة، حيث صرنا أمام فهم جديد لمفهوم الدولة، عكسه البنك الدولي ليس في تقاريره فقط، بل في ممارساته أيضاً. لكن هذا يجب ألا يغيّب عن بالنا اننا في مواجهة أنماط من الدولة الحديثة فعن أيّها نتحدث: الدولة التنموية على طريقة جنوب شرقي آسيا، أو الدولة المفترسة على طريقة موبوتو في زائير، أو صدام حسين في العراق سابقاً، أو دولة الطغم التسلطية في بلدان عربية؟ ان دور الدولة يتبدل، ومع هذا سيبقى لها دور أساس لا سيما في مجال تهيئة الموارد البشرية وتأهيلها. > نجدد السؤال: ما الذي يفعله المثقف في هذا كله؟ هل نحن أمام انبعاث مثقف جديد، هو المثقف الخبير أو التنموي؟ ما هو دور المثقف؟ هل له دور؟ نشط المثقف العربي، خصوصاً النهضوي منذ الطهطاوي حتى مجموعة نقاد هزيمة 1967، مروراً بطه حسين وزملائه. هل يمكن هذا النمط أن يبقى بعد تجديد نفسه، أم ان مثقف الغد سيكون قارئ مؤشرات البورصة وخبير المال والأرقام؟ - إذا ساد المشهد الليبرالي الجديد وتعمم، سيكون المثقف مثقف بورصة وأرقام. لكن هذا لن يلغي في أي حال سيرورات استقطاب، تنتج عن فورات تنعش الثقافات والمفاهيم والهويات الهامشية. وهذا جانب يجب ألا نغفل ما فيه من إيجابية. فآليات العولمة، وهي آليات فكرية لا تلجأ الى القمع المباشر ولا يهمها استقطاب المثقفين والمبدعين الحقيقيين، تخلق أواليات مقاومتها من طريق هؤلاء. فإذا حققت العولمة معدلات مرموقة من النمو، ومن ثم من التنمية، سيخلق ذلك توترات ويساهم في انبعاث عقلانيات جديدة، في سياق عملية التحرر من الأيديولوجيات، لا سيما الماضوية منها. ان الثورة العالمية الآن حقبة تاريخية جديدة لا مجرد تقدم في الثورة التقنية. > أتوافقني على ان الإعلام خصوصاً المرئي يلعب في هذا الانبعاث كله دوراً أساسياً، شرط أن يكون إعلاماً مفسراً موضحاً، لا إعلاماً يسعى الى الإقناع والتوجيه المباشر؟ - أجل... نعيش اليوم عصر الصورة المتلفزة، الصورة الملائمة بامتياز لعصر العولمة، والتي تأتي بديلاً من اللعبة اللفظية (الترانزستور) التي سادت خلال عصر الجماهيريات الأيديولوجية. والمشكلة هي انه إذا تعمم الإعلام التلفزيوني أكثر وانتشر، وسيطرت عليه مؤسسات عملاقة مرتبطة بالمؤسسات المالية والشركات المتعددة الجنسية، سيعود دور المثقف هامشياً مهما حاول أن يمرر من أفكار، هنا أو هناك. سيكون مجرد واحد من براغي الهيمنة. > هو غير قادر على صنع الهيمنة؟ - أبداً... الذي يمارس الهيمنة هو الشركات العملاقة المتعددة الجنسية التي صارت هي حكومة العالم، شئنا ذلك أم أبيناه. لكن الأمور ليست على هذا الخط الأحادي. إذ من الممكن دائماً نشوء وازدهار حركات مضادة تستخدم أيضاً الصورة التلفزيونية، والإنترنت. فعصر العولمة أيضاً هو عصر الدور المؤثر للصورة، وأياً يكن الأمر، ليست الصورة ملكاً لطرف واحد.  

الانتلجنسيا الرهينة(13)

 ما كتب عن الانتلجنسيا العربية علي اختلاف التعريفات المعربة لهذا المصطلح غالبا ما بدأ من النصف الثاني للقرن التاسع عشر الذي شهد نهوض واجهاض المشروع الاحيائي، والذي انتهت الكوكبة التي مثلته نهايات تراجيدية تليق بخاتمته، حيث هناك من مات مسموما كالكواكبي ومن مات محقونا بعقار قاتل ومن تاب في منتصف الطريق وتقاعد.

لكن كتابات اكثر ميلا للحداثة عن هذه الانتلجنسيا كالتي قدمها عبدالله العروي وهشام شرابي ونديم البيطار وآخرون بدأت من القرن العشرين وبالتحديد من بواكيره، أي الجيل الذي تزامن مع الحرب العالمية الأولي، حين كان الوطن العربي لا يزال محتلا وشبه محتل، ويلعب فيه الكومبرادور الثقافي كمعادل تاريخي للكومبرادور السياسي الاقتصادي دور البطولة، وهو دور الدوبلير بامتياز، لأن معظم دعاة التحديث من ذلك الجيل الرائد جعل من الغرب مثاله ونموذجه ولم تكن الدعوة الي الأوربة إلا واحدة من تجليات ذلك الوعي السالب، ففي العراق ومصر وفلسطين صدرت كتب في مطالع القرن العشرين تحمل عناوين من طراز الانكليز كما عرفتهم وفضائل بريطانيا اضافة الي اشعار منها ما مجد بني التايمز وفضلهم علي العالمين ومنها ما تحول الي عرض حال شعري يطالب بمكوث الاستعمار ومن تلك القصائد.

وليس هذا المقام مكرسا لفحص تلك الآونة الملتبسة من تاريخنا الحديث لكن ما نرمي اليه بوضوح هو البحث عن جذور الارتهان، ارتهان النخبة المثقفة للخارج متمثلا بالكولونيالية وللداخل متمثلا بالسلطات المحلية التي كانت علي الدوام الباب الأعلي وولي الأمر بلا منافس والباتريارك في ذروة عافيته الربيعية!

وكان د، محمد برادة قد اشار في أطروحته عن محمد مندور الي المثقف الموظف، وكيف حالت تبعية الوظيفة دون استقلال المثقف، وحريته في إبداء الرأي.

لكن ذلك المدخل الأكاديمي الذي قدمه د، برادة لم يقيض له آخرون يذهبون الي الأبعد خصوصا بعد ان عرفت السياسة العربية، نظما انقلابية، وسطوة عسكرتارية علي الحياة برمتها، وليس علي الثقافة فقط.

لقد كان ارتهان الانتلجنسيا العربية خلال نصف قرن مضي موزعا بين الحزب والدولة والقبيلة والطائفة وكان لكل عنصر من هذه العناصر دور الأب المانح والمانع، والذي يستخدم العصا والجزرة او العصا فقط لترويض الاتباع لمن يجازفون بالعصيان او ما يسمي وفق التربويات الربوية العقوق.

وهناك ثلاثة عوامل علي الأقل تتطلب فحصا مجهريا وبأثر رجعي لاستقراء ظاهرة الارتهان قدر تعلقها بالمثقفين العرب، العامل الأول اقتصادي فالمثقف الذي لا يستطيع الحياة والاكتفاء حتي في حده الأدني من خلال مهنته لا بد له أن يلوذ بما ييسر له الحياة العسيرة وهو إما الوظيفة معرفة فان شبه الوظيفة هو المزاوجة بين تراث العثمنة وسايكولوجيا حضرة المحترم كما جسدها نجيب محفوظ في رواية تحمل هذا الاسم، شبه الموظف يضع قدما هنا وقدما هناك ويقول الكثير كي لا يقول شيئا محددا لأنه كائن احترازي بالضرورة، وحمال أوجه، ويتشبث بالاحتياطي الذي يحميه من الفاقة أو المساءلة!

يضاف الي العامل الاقتصادي تطلع مثقفي الطبقة الوسطي الي الهجرة الطبقية لتحسين شروط الحياة والانتساب إلي النادي المحرم علي أمثالهم، خصوصا في مجتمعات لا تكفي صفة المواطن وحدها لانصاف الأفراد ومنحهم استحقاقاتهم المادية والمعنوية.

العامل الثاني اجتماعي أفرزته من خلال التراكم اعراف سائدة، ومواعظ منها الشفوي ومنها المدون وارتكاسات نفسية، بحيث اختلط الأمر علي الكثير من المشتغلين في مهنة الثقافة فظنوا الوجاهة الاجتماعية عرضا أساسيا وليس جانبيا للوجاهة الثقافية، لهذا سعي البعض الي البرلمان، ليس وفقا لتوجه المثقف المعاصر ذي النزعة الديمقراطية بل من خلال القبيلة، أو الحزب الذي هو قبيلة مغطاة بمساحيق الحداثة، وعندما تحدثنا ذات يوم وفي هذه المساحة عن الظاهرة اللبلابية في الثقافات العربية، كان الهدف أبعد بكثير من التذكير قصة لمحمد عبدالحليم عبدالله أو لفيلم رومانسي بالأسود والأسود، حيث لا بياض فيه إلا للكفن وثوب الزفاف!

شجرة اللبلاب لا تنهض علي جذعها لأنه هش ومائل، ولا بد لها من جدار يسندها وما ان ينهار الجدار حتي تنهار وتتكور علي بعضها كالدودة!

وهذا هو حال المثقف المرتهن الذي يتحول في النهاية الي رهينة فهو لا يستطيع الوقوف علي ساقية بلا جدار أو عكاز بعكس المثقف الحر الذي يتحول حتي عكازه الي عصا منحوتة من عظم الساق!

ثلاث حروب بدأت في أول التسعينات من القرن الماضي ولم ينته آخرها الآن، كانت بمثابة الاضاءة الساطعة لفرز الثقافة المرتهنة، ولبلابية المثقف الرهينة، الأولي حرب احتلال العراق بحجة تحريره والثانية الانتفاضة الفلسطينية في حلقتها الثانية باعتبارها حربا غير متكافئة، والثالثة الحرب علي لبنان!

هذه الحروب الثلاث اختبرت منسوب الحرية والارتهان لدي الانتلجنسيا العربية التائهة، والتي لم يقيض لها غرامشي عربي من صلبها ليعاينها، ويفرز العضوي من المصنوع في نسيجها الملفق!

فمن كانوا يسبحون بحمد الديكتاتور وهو يملك المنديل الورقي الاخضر، قلبوا ظهر المجن في اربع وعشرين ساعة فقط، ومن كانوا أدوات تستأجر لتبرير الطغيان واقصاء الآخر تحولوا فجأة إلي مجانين ديمقراطية علي غرار مجنون ليلي، لأن ديمقراطيتهم ايضا عذرية، ولا تقبل الزواج من الواقع، وهم يفتعلون عقبات مماثلة يعني يفتعلها العذريون كي يديموا العنوسة السياسية في مجتمعاتهم!

أما الانتفاضة بوصفها حربا غير متكافئة، أو مقاومة بالحجر ضد الدبابة والآباتشي، فقد عوملت من الانتلجنسيا العقلانية، والراشدة قدرة قادر كما لو انها فعل مجاني، ومجابهة خاسرة وتراجيديا يجب ان لا تندفع الي اقصاها، ولو عدنا الي كتابات البعض عن المقاومة الفلسطينية اثناء تجوالها واقامتها بين لبنان وتونس ثم قارناها بكتاباتهم خلال الانتفاضة الثانية لوجدنا نفسنا ازاء موقفين لا ثالث لهما الأول هو ان هؤلاء ليسوا هم انفسهم وانما كانوا يستخدمون اسماء مستعارة، والثاني هو ان المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين لن ينتفع منها أحد، وستكون مؤسساتها وأموالها رغم شحتها محاصرة ولا يمكن اختراق الحدود باتجاهها!

والحرب الأخيرة ان كانت الأخيرة حقا علي لبنان قدمت اضاءة ليست ساطعة فقط بل حارقة لمسرح يتداعي ونظارة يحاولون الخروج من المسرح لكن أبوابه مغلقة.

وأصبح لدينا الآن مقياس واضح نحتكم إليه ونحن نميز بين العقلانية والجنون في مواقف النخبة المثقفة.

العقلانية، هي وعي حاسوبي بالغ الدقة بمصدر الدخل، والعم الدؤوب علي إدامته، لأن انقطاعه يعني العودة الي البيت الأول، وإلي جذور الطبقة التي تمت مغادرتها.

والعقلانية هي انكار للشعر لصالح المنطق وانكار للدم لصالح الدولار وانكار للمقاومة لصالح الامتثال والمساومة هكذا عادت الأمثولة الحطيئية بكامل عافيتها الي الانتلجنسيا التي ترطن بالحداثة، وأصبح للمثقف الرهينة مرسل إليه واحد هو قاريء واحد متخيل بيده ان يعطي وأن يوقف العطاء، وكم شعرت بالاشفاق علي مثقفين من مختلف أقطارنا العربية وهم يرتدون الأقنعة لاخفاء وجوههم لأنهم يكتبون في منابر لا تتيح لهم التعبير بحرية عن انكارهم أو حتي عن عواطفهم.

وقبل أن نتردي في هذا المستنقع الآسن ونأكل بأثدائنا حتي قبل أن نجوع، كان الحزب ـ القبيلة، يتماهي مع السلطة في أكثر العهود تخلفا، فهو يحدد مكانة المثقف المنتسب إليه، وأحيانا يضعه في الثلاجة، ويحتفظ بالقرب منها بمايكروويف لتسخينه، وايهام الرفاق بطزاجته، ما السبيل أخيرا لتحرير هذه الانتلجنسيا الرهينة؟

هل اعتراف هذه الشعوب بمهنة الثقافة التي لا تزال لقيطـــــة أو ابنة العبدة مثل عنتر بن شداد أم انتفاضة المثقف علي نفسه أولا لتحريرها من مستوطنات موروثة من أردأ مخلفات العثمنة، وأسوأ ما أفرزته فوبيات الجوع والبطالة في مجتمعات تعيش حقبة ما قبل الدولة؟

نحو إعادة قراءة حقل التمايزات للفضاء المفاهيمي(14)

الإسلام ـــــ الديمقراطية:

تكشف الاعمال الفكرية والسرديات التحليلية حول الديمقراطية في العالم العربي والمجتمعات الاسلامية عن هشاشة الوعي السياسي لبعض جماعات الانتلجنسيا إذ ان هذه الاعمال والقراءات تعمل ضمن انساق ومفاهيم ومقولات لا تاريخية وتتميز بالمضامين الانفعالية والاسطورية

ان هذا العمل يستأنف التقليد النقدي في السياقات العربية والاسلامية حول تقويض ازمة الديمقراطية في العالم الاسلامي بوصفها ازمة تكوين البنى والفاعلين السياسيين وتفكيك التصورات والتشكيلات الفكرية التي حفل بها الخطاب السياسي الاسلامي حول الديمقراطية إذ يتم طرح هذا المفهوم الكوني ضمن افق ميتافيزيقي بعيداً عن الاشتراطات التاريخية والبنى المجتمعية والجماعات البشرية الفاعلة في التاريخ، وتجري عملية تحوير واقصاء لمحتوياته الفكرية لكي يتطابق او يتماهى مع البنية التكوينية للفكر الاسلامي متجاوزين اشتراطات التأسيس الديمقراطي لكون الديمقراطية الوريث الشرعي لعصر التنوير والتي لا يمكن أن تولد في المجتمعات العربية والإسلامية إلا بعملية علمنه للأفراد والمؤسسات وإيجاد الفرد/ الإنسان كذات مستقلة وليس كتلة هلامية مندمجة بالأمة الإسلامية، وأن يتحول القانون والتشريع إلى قاعدة تعاقدية من حيث أن الخطاب الديني الإسلامي يعمل على استنفار (هوية دينية) وهي تشكل عودة إلى ما قبل الدولة الحديثة.

مدخل لتركيب الاشكالية (الاسلام/ الديمقراطية)

تتطلب القراءة الاولية للموضوع الاشكالي (الاسلام/ الديمقراطية) طرح شبكة من التساؤلات والتقاطعات الفكرية والسياسية والمعرفية والتاريخية إذ تم طرح هذه الثنائية في بنية الفكر الاسلامي الليبرالي ولم يتم اخضاع هاتين العلامتين الابستيمولوجيتين للتفحص النقدي التاريخي إذ ان اخضاع قراءة هذين العلامتين داخل الفضاء المفاهيمي لكليهما مسألة بالغة الاهمية مرتبطة ببنية المقاربات.

فالاسلام نسق فكري يمثل رؤية كونية ذات مصدر مفارق، والديمقراطية مفهوم مؤسساتي وأنموذج وضعي.وفي هذه العلاقة من التصورات هل يمكن ادماج مفهوم الديمقراطية في بنية الفكر الاسلامي؟

ان طرح السؤال بهذا الشكل الالتباسي الغامض يفسر ازمة الفكر الاسلامي حول تحيين الثقافات.لان هذه العلاقات تمر عبر البنى الفكرية.

لذا فان اعادة صياغة السؤال الاساسي ضرورة معرفية، عن كيفية انتقال بنية فكرية ونظام مفاهيمي ونظام مقولاتي خاص ببنية اجتماعية محدودة الى بنية فكرية ونظام مفاهيمي ومقولاتي خاص ببنية اجتماعية مختلفة وبالتالي اثره في التطور التاريخي لهذه البنية الاجتماعية مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الديمقراطية مقولة خاصة ببنية اجتماعية رأسمالية متطورة وفيها نجد علاقات التناقض والتناص للمجتمعات الغربية والممارسات السياسية للفكر الغربي إذ ان التساؤل عن ماهية الاسباب الكامنة خلف انتاج موضوع الاشكالية (الديمقراطية/ الاسلام) من قبل الانتلجنسيا الاسلامية لم يتم الاشتغال عليها منذ ظهور هذا المفهوم في المجتمعات الغربية. نجد الاجابة في الحقل السياسي والاشتراطات المادية التاريخية للعالم المعاصر. لذا فان الاسهام في الجدل الدائر حول التطابق/ التماثل بين الاسلام والديمقراطية وارتباط هذين المفهومين بالمسألة العراقية التي تشكل الحاضن النظري لهذا النص فضلاً عن الاسئلة التي يواجهها حقل النظام الابستيمولوجي الاسلامي.

ان هذا العمل ينطلق من سؤال اشكالي وهو:

هل يتوافق الاسلام اللامتعين تاريخيا وكنظام ابسيتمولوجي مع عناصر الفلسفة الراديكالية الديمقراطية؟

ما هو السياسي في الاسلام؟ وكيف تتم عملية الربط بين السياسي والحقل الاقتصادي في تشكيل الدولة؟ وهل هناك نظرية حول الدولة في الاسلام؟ وكيفية تشكيل شرعيتها السياسية؟

وهل تستمد شرعيتها من الجماعات البشرية وتركيبات المجتمع، ام من النصوص التاسيسية؟ وهل يمكن اقامة التماثل بين الاسلام منظومة عقائدية قائمة على هوية ثابتة نسبياً والديمقراطية نظام تاسيسي مجتمعي يقوم على هويات متغايرة وديناميكية؟

ماهي القوى الايديولوجية الكامنة خلف الخطاب الديني السياسي الاسلامي في تقديم توصيفات دينية للمجتمعات العربية الاسلامية تتناقض مع التركيبة السياسية لهذه المجتمعات؟

قضية المرأة ومكانتها في النظام الثقافي البطرياركي الاسلامي ألم تتناقض مع العناصر الراديكالية في فلسفة الديمقراطية فضلا عن حقوق الانسان ومفهومي الفرد/ الجماعة اللذين لم يتم حسمهما في الفكر الديني الاسلامي ونظامه المعرفي.ان اعادة قراءة هذا التوصيفات في الثقافة العربية الاسلامية للوصول الى الرحم الابستيمولوجي (Epistemology)  الذي يتكون من مجمل المسلمات الضمنية اليقينية التي تتحكم بشكلية الانتاجات الفكرية دون ان تظهر الى السطح والتي يطلق عليها ميشيل فوكو (اللاوعي المعرفي) وهي تبلور نظاماً فكرياً ورؤيويا للعالم تستمد صيرورتها من سياسية الثيمات الاجتماعية ـ الأقتصادية والسياسية مسألة بالغة الأهمية لاشكالية الديمقراطية/ الأسلام.

الاسلام والديمقراطية (حقل التقاطعات الابستيمولوجية)

اولاً : الشورى أو فخ الديمقراطية

علينا ان نتساءل اولاً عما هي الديمقراطية في الحيز الثقافي الاسلامي؟

نتيجة للتمزقات الحضارية والتاريخية التي يعيشها العالمين العربي والأسلامي اكتشفت الانتلجنسيا الإسلامية ان العودة الى الميراثات الثقافية والسياسية والدينية كآليات دفاع لتجاوز اخفاقات الدولة الوطنية الشعبوية فقد تم اعادة انتاج مفهوم الشورى كقوة استعارية وتماثلية مع مفهوم الديمقراطية (ومن هنا نستطيع ان نفهم معنى الالحاح على ربط الديمقراطية وهي مفهوم حديث بالشورى ورفض استخدام المصطلحات الغربية عندما يمكن استبدالها بسهولة بمصطلحات عربية او اسلامية، ان الرغبة في استهلاك الحداثة تبدأ هنا من الرغبة في تأهيلها ثقافيا او استهلاك رموزها وقيمها الاساسية على الاقل).

وهنا تكمن ازمة البنية المعرفية للانتلجنسيا الاسلامية في البحث عن تأهيل مفهوم الديمقراطية او ايجاد صيغة اسلامية وعزلة عن السياق المجتمعي والتاريخي ونظامه الابستيمولوجي إذ ان الخطاب السياسي الاسلامي مسكون دائماً بهاجس التأصيل وباعادة انتاج المفاهيم الغربية الشاغلة في الانظمة الثقافية وايجاد مقاربات لها في المرجعيات الدينية، الروايات الاسطورية، الخطابات التاريخية والخرافية ثم موضعة هذا المصطلح داخل النظام المعرفي الاسلامي واضفاء الشرعية عليه. ان السبب الذي يكمن خلف هذه الآلية كون الثقافة العربية الاسلامية تعاني فراغاً معرفياً داخل البناء المفاهيمي والمقولاتي للفكر الاسلامي وعلى الرغم من تعدد التصورات داخل الحقل الثقافي التداولي الاسلامي فانها تقدم آليات الاستبدال ديمقراطية/ شورى رغم انهما ينتميان الى بنى سياسية وثقافية وفكرية مختلفة ولهما حقلهما الايديولوجي والتاريخي. إذ ان مفهوم الشورى يطمس القوة السياسية ويؤكد وحدة التاريخ (والتطابق شبه التلقائي بين التاريخ الاسلامي والمجتمع والسلطة .هذه النزعة في الاوساط الاسلامية ماهي في الواقع الا وسيلة لترجمة فكرة الوحدة المجتمعية من مثل اعلى لتشكيل بنية المجتمع الى حقيقة واقعة في بناء الدولة وهذا النوع من تنظيم الدولة ينبذ بطبيعة الحال أية تعددية سياسية على الطراز الغربي ولا يستبقي سوى تعددية الطوائف الدينية او تعددية الحضارات العالمية...) ان اكثر اطروحات الانتلجنسيا الاسلامية حول الشورى كمفهوم ومؤسسة سياسية كلاسيكية لم ترتبط بالتراكم المعرفي حول طبيعة السلطة السياسية في الاسلام الكلاسيكي (... الشورى خصيصة اسلامية بل هي نص قرآني لكن بعدها السياسي في القرنين الاول والثاني الهجريين ما لبث ان غاب منذ القرن الثالث لصالح ابراز ابعادها الاخلاقية والاجتماعية الى ان اعاد رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الافغاني اكتشافها او اكتشاف البعد السياسي لها تحت تأثير الاطلاع على الدساتير الغربية. فصارت الشورى في نظر الطهطاوي ومن بعده الاصلاحيين مرادفة للحكم الدستوري) ان هذا الاستشعار للمفهوم يقع تحت ضغط الاسئلة السياسية داخل المجتمعات الاسلامية التي تحاول ان تبحث عن الذات الثقافية والسياسية في عالم متحول.

ثانياً: قراءة مقولة الاسلام كتمثيلات قانونية وتشريعية

يتوالد خطاب الانتلجنسيا الاسلامية حول العقد الاجتماعي من التكوينات الاولية ما قبل ظهور الدولة الحديثة، إن ازمة تركيبات الهوية التي تشكل مفصلاً دوغمائياً في تاريخ المجتمعات العربية الاسلامية إذ تحاول هذه الخطابات ان تدمج بين رأسمال رمزي مطلق متعالٍ وآليات سياسية نسبية تاريخية محققة انزلاق العقد الاجتماعي والسياسي من صعيد التحليل العلمي النقدي الى صعيد التضليل الايديولوجي البراغماتي.

ان الفصل بين اسلام تاريخي مشروط منذ البدء واسلام تخيلي اسطوري واخضاع هذا الفصل للتفحصات النقدية للكشف عن العناصر الايديولوجية داخل المعنى المقدس. ففي الاسلام التاريخي كمنظومة عقائدية توجد كتلة من التمايزات اللاهوتية والسياسية والقانونية واي عملية لاعادة انتاج نظام الانظمة للهوية الاسلامية هو الوقوع في فخ ميتافيزيقي يرافق اعادة انتاج الاشكاليات الفكرية والسياسية والفلسفية والاقتصادية لهذه الانماط المتعددة.

تكمن ازمة الخطاب السياسي الاسلامي حول الديمقراطية في (المكر التاريخي) كيف تتم العودة الى اسلاميات تشكلت على وفق نظام ابستيمي معين ورؤية للعالم والتاريخ ووضعيات اجتماعية ـ اقتصادية وداخل تحديدات مادية؟كيف يتم تحويلها الى تمثيلات قانونية وتشريعية؟

ان الخطاب السياسي الاسلامي يؤكد اسلامية النص اي الفصل التام بين النص التاسيسي الاولي والتجارب التاريخية .ان هذا الفصل يقع في مفارقة بوصف التجارب التاريخية خارج النص ويؤدي الى تحطيم الخطاب التاسيسي والدخول في عملية جديدة من الادلجة والهيمنة. ان هذا التمييز والفصل اشكالية تقع فيها الجماعات الدينية والسياسية إذ تنظر الى النص الديني الاولي بوصفه نصاً خارج التاريخ لا يحمل في بنيته بصمات التاريخ الثقافي او اللغوي او الفلسفي.

..........................................................................

المصادر/

1- عزالدين اللواج/ موقع دروب

 2- خدمة كمبردج بوك ريفيو/ فضائية الجزيرة

 3- هشام آدم/ منتدى القصة العربية

 4- د . نديم البيطار  /  شبكة الطليعة

 5- جريدة المستقبل اللبنانية

 6- علي الصباح /  جريدة الجزيرة السعودية

 7- د.طاهر علوان/ شبكة كتّا ب العراق

 8- د. بشير موسي نافع / شبكة العرب نيوز

 9- د. حميد الهاشمي/ جريدة المؤتمر العراقية

 10- الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي /  شبكة مفهوم

 11- زينب سعيد /   صحيفة المثقف

 12- ابراهيم العريس / جريدة الحياة اللندنية 

 13- د. محمد ناصر / منتديات  من المحيط إلى الخليج

 14- يوسف محسن/ جريدة الصباح العراقية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 30 كانون الاول/2007 - 19/ذو الحجة/1428