قراءة في كتاب: ديوان القرن العاشر-الجزء الأول

الكتاب: ديوان القرن العاشر- الجزء الأول

المؤلف: الدكتور محمد صادق الكرباسي

الناشر: المركز الحسيني للدراسات- لندن

عدد الصفحات: 532 صفحة- قطع وزيري

عرض: نضير الخزرجي*

 

 

 

 

 

شبكة النبأ: هناك علاقة وفاقية بين الشعر وعذوبته، فالشعر الحسن هو الذي ينزل على المسامع نزول الماء البارد على الأكباد الحرى في يوم صائف، وهذه العذوبة ليست تبع القافية والبحر والتفعيلة والوزن فحسب، وان كانت أصيلة في الشعر القريض، لكنها تتأتى من نبض المشاعر والأحاسيس التي تتراقص على أوتارها قوافي الشاعر فتدخل القلوب بلا استئذان وتجلس في سويدائه، فالتفاعل بين الشاعر والحدث عبر أمواج الشعور هو الذي يخلق حالة الشاعرية، ويبقى النظم هو أشبه بالقالب الذي تصب فيه الكلمات، فالشعر بلا تفاعل أحاسيس هو نظم بلا شعور لا يدخل خانة الوجدان، وإنما يظل يراوح على أعتابها.

ولا شك ان نبض الشاعر يتصاعد دقاته حين تعاطيه مع حالة وجدانية تمس شغاف القلب، فيترجم الخفقان الى قواف تتلاحق في تقديم فروض الطاعة والانصهار في قارورة الشعور الوجداني، ويتمدد هذا الشعور ويتعدد لدى شاعر كل عصر ومكان إذا كان الحدث له امتداداته في عمق الزمان والمكان، فتتجدد معه المشاعر وتتألق الشاعرية، فتكثر القصائد، وكلما قرأت قصيدة وجدت فيها جديدا وان كان محور الحدث واحدا.

ولا أرى حدثا وجدانيا اخذ بتلابيب القلوب والعقول معا، مثلما هو حدث استشهاد الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء في العاشر من شهر محرم العام 61 هـ، وأمام هذا الواقعة التي عزّ مثيلها لا قبلا ولا بعدا، تجثو القوافي طائعة تتمسح بأذيال الحسين (ع) يبثها جزئيات المشهد الكربلائي فتنشده نظما ينهر القوافي من الصم الصياخيد شعرا وشعورا. ومنذ أربعة عشر قرنا وأنهر القوافي لا زالت تجري في وديان النفوس ووهاد الصدور، عمل الشاعر والعروضي الدكتور محمد صادق الكرباسي على حصرها في خليج كل قرن، مبحرا بأشرعة التحقيق والتدقيق، لبيان واقع الأدب العربي بعامة والشعر الحسيني بخاصة في كل قرن من القرون الهجرية. وفي هذا الإطار صدر الجزء الأول من "ديوان القرن العاشر" عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 532 صفحة من القطع الوزيري، وهو يغطي الفترة الزمنية (21/9/1495-7/10/1592م)، والكتاب جزء من سلسلة دواوين من قسم "الحسين في الشعر العربي القريض".

ملامح عامة

يعتبر القرن العاشر الهجري الامتداد الطبيعي للقرن الماضي الذي شهد سقوط دول وحكومات إسلامية وقيام أخرى، وإغارة واحدة على الأخرى بشكل فظيع تحت دعاوى دينية ومذهبية وقومية، فالعثمانيون كانوا يتوغلون في الأراضي البلقانية، والمغول كانوا يتوسعون في بلاد ما وراء النهر والهند، ويلاحظ المحقق الكرباسي انه: "وباستيلاء العثمانيين على قلب البلاد العربية في العقد الثالث من هذا القرن، ظهر الخلاف القومي من جهة وازداد الخلاف الطائفي من جهة أخرى"، ويأسف الكاتب لان النعرتين القومية والطائفية لازامتا المجتمع الإسلامي في جميع أقطاره، ولازالت آثارهما السلبية باقية الى يومنا هذا، وبخاصة في العراق الذي وقع بين فكي كماشة قومية مذهبية من جانبي الإمبراطورية العثمانية والإيرانية.

ولما كان سقوط الحكومات وقيام أخرى في الأعم الأغلب نهض على قاعدة مذهبية، فان الصراعات المذهبية بلغت أوجها، وكما يقول المؤرخ اللبناني عمر بن عبد الله فروخ (ت 1407 هـ) وهو يتحدث عن القرن العاشر الهجري: "وقع النزاع بين أتباع المذاهب الإسلامية بين الحنابلة والأشعرية (الشافعية خاصةً) مما كان مألوفا منذ قرون وكذلك كثرت مكائد الإسماعيلية وكلامهم في المغيبات بما لا يجوز، وفي مطلع القرن العاشر أيضا انتشر المذهب الشيعي الإمامي في فارس على يد إسماعيل الصفوي ملك إيران (807-930 هـ) وتعرض الإسلام السني خاصة لهجمات كثيرة في أيام المماليك البرجية في كل مكان".

وبناءاً على معطيات هذه الأجواء الساخنة من الصراعات الإقليمية والاحتلالات والإغارات والمناكفات القومية والنزاعات الطائفية، فان المحقق الكرباسي وهو يتحدث عن النظم في القرن العاشر يخرج بحصيلة وخيمة، إذ: "في ظل هذا المناخ الذي سادته الحروب والفتن لا تنتعش الثقافة بشكل عام فكيف بالأدب والشعر"؟! وربما نجد سببا آخر لتراجع النظم يتمثل في الترف والدعة المتعارضين مع الشعور والاستشعار، وهو ما قرأه الكرباسي من بين سطور نجم الدين محمد بن بدر الدين محمد الغزي (ت 1061 هـ) صاحب كتاب (الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة)، الذي يعترف ان ما دفعه الى التأليف وتصنيف طبقات الأدباء، أني: "رأيت إيثار الراحة والدعة والجد والدأب قد غلب في هذا العصر وصار دأبا لأكثر أهل الفضل والأدب"، ومع هذا فان الأجواء المريحة ربما كانت عاملا مساعدا على الإنتاج الأدبي بشطريه المنظوم والمنثور، لان الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي يجعل الأديب في مأمن فيحمله على الإبداع فيما هو فيه. ويجد المصنف سببا آخر لهذا الجدب متمثلا في: "الرواسب التي خلّفها حكم عدد من الدول غير العربية للأراضي العربية كحكم المماليك على مصر وفترات الحكم الإيراني المتتالية للعراق الى جانب التتر والمغول وغيرهما مما كان له التأثير المباشر على تراجع اللغة العربية ومعه تراجع الأدب والشعر العربيين، وباستيلاء العثمانيين على أكثر البلدان العربية في هذا القرن تسرب العديد من الكلمات التركية الى اللغة العربية"، فضلا عن أن المخاطبات الرسمية فيما بعد أصبحت باللغة التركية، وكان تعلم اللغة التركية لازمة لدخول العربي في الوظيفة وسلك الدولة.

ولما كان الشعر وسيلة من وسائل الإعلام، ولما أصبحت هذه الوسائل في ظل هذه الحكومات أسيرة هوى السلطة فان الشعر هو الآخر أصابه القهر والتدجين، وغلب على الشعراء الدجل والاكتساب، فجاء الشعر لمن يدفع أكثر ولو على حساب الحق و الحقيقة. وهنا يؤكد البحاثة الكرباسي على حقيقة هامة وهي ان: "هذا الدجل والكذب لم يجد طريقه الى الشعر الحسيني ذلك لان منشأه المعاناة أو الحب وكلاهما لا يعرفان التكسب والمقايضة"، ولا يعني هذا انعدام شاعر حسيني لا يتأقلم مع وضع سياسي قائم على الترهيب أو الترغيب، فبعض منهم يسقط في الابتلاء: "ويغير مساره ويرضخ للمساومة ضاربا عرض الجدار الحقيقة التالية وهي ان الصدق والحق هو العملية الوحيدة التي يجب ان يتعامل معها الشاعر، وهو رصيده الحقيقي في التعبير عن شعوره المرهف، وتأسيسا على هذا الفهم للشعر والشاعرية: "فان شاعر الدجل والكذب لا ينطبق عليه كلمة الشاعر المعرَّف بالألف واللام لان الشاعر من يَشعر ويُشعر، يشعر هو أولاً ثم يشعر الناس ثانيا فحينها يكون ما ينتجه نابعا عن شعوره المرهف والدقيق، فالشعر في الحقيقة هو ديوان الحق لا كما قيل ديوان العرب".

التراجع الكمي

توصل الدكتور الكرباسي في هذا القرن الى حقائق عدة من حيث الشعراء كماً والشعر كيفاً، وفيما يخص شعراء النهضة الحسينية، فان الملاحظ فيهم من حيث الكم أمور أهمها:

أولا: قلة الشعراء الذين ثبت وفاتهم في القرن العاشر، فهم تسعة عشر شاعرا معروفا، مع خمسة وعشرين شاعرا مجهول الاسم يحتمل من بعض القرائن انهم من جيل القرن العاشر الهجري.

ثانيا: تحققت وفيات عدد من الشعراء في هذا القرن لكن عطاءهم الشعري تحقق في القرن الماضي من قبيل الشاعر مفلح بن الحسن الصيمري المتوفى بعد عام 900 هـ، والشاعر إبراهيم بن علي الكفعمي المتوفى عام 905، وعبد الله بن احمد الحميري المتوفى عام 903 هـ، ومحمد بن عمر النصيبي المتوفى عام 916 هـ، والحسين بن مساعد الحائري المتوفى عام 917 هـ، وابن جعفر علي بن جعفر العلوي، وهاشم بن العريض البحراني، والأخيران من أعلام هذا القرن، وغيرهم، فنتاجات هؤلاء الشعراء وأمثالهم في هذا القرن قليلة نسبة الى نتاجاتهم في القرن الماضي، ولذلك شهد ديوان القرن العاشر جدبا في الشعر والشعراء.

ثالثا: وانسحب الضمور الشعري الى ترجمة الشاعر نفسه، فبعضهم يعرف بلقبه دون اسمه وآخر باسمه دون لقبه، وبعضهم مجهول الولادة أو الوفاة أو كليهما، لكن الكرباسي بما يمتلك من أدوات تحقيقية ومعرفية ومن خلال قرائن ودلالات أماط الغموض عن بعضهم.

رابعا: قلة عطاء الشاعر، فحتى شعراء هذا القرن كانت محابرهم الشعرية تشكو من الظمأ، ولذلك كان: "عدد الشعراء الذين قام على أكتافهم هذا الديوان هم أربعة شعراء: الحائري والكفعمي والصيمري وابن جعفر".

خامسا: شحة الإبداع، مع بعض الاستخدامات للمحسنات اللفظية أو المعنوية، ولو لا بعض عيون القصائد للكفعمي والصيمري: "لصح إطلاق النظم بالمعنى الصناعي على مجمل ما احتواه هذا الديوان، وما هذا إلا لكساد سوق الأدب والشعر".

التراجع الكيفي

أما من حيث الكيف، فان البحث عن الجانب المادي والمعنوي للشعر في القرن العاشر الهجري يقع في جهات مختلفة:

أولا: من حيث الغرض، فان الأغراض الشعرية انحصرت في ستة: الفخر، الهجاء، المدح والرثاء، التوسل، الولاء، المدح المجرد، والرثاء المجرد، والأخير غلب على معظم الأغراض.

ثانيا: من حيث شعر النهضة الحسينية، فان قصائد كثيرة لم تتمحض في الإمام الحسين (ع) ونهضته المباركة، وإنما جاءت عرضا أو تضمينا، ومن ذلك قول الشاعر (مجهول) من الكامل، بعنوان "الكماة":

قومٌ إذا حضر الوغى لم يسألوا ** حَذَرَ المنية عن سبيلِ الهاربِ

وإذا الكماةُ تطاعنوا ألفيتهمْ ** يتقدمون الى مكان الضاربِ

ومن ذلك قول الشاعر (مجهول) من الكامل، بعنوان "الرزء الجليل":

لمُصابهمْ تتزلزلُ الأطوادُ ** ولقتلهمْ تتفتتُ الأكبادُ

كلُّ الرزايا بعدَ وقتِ حلولها ** تُنسى ورُزؤُهمُ الجليلُ يُعادُ

أو قول الشاعر (مجهول) من الطويل، بعنوان "غريبون عن أوطانهم":

غريبون عن أوطانهم وديارهم ** تنوحُ عليهم في البراري وحوشُها

وكيفَ ولا تبكي العيونُ لمعشرٍ ** سيوفُ الأعادي في العلاء تنوشُها

بدورٌ توارى نورُها فتغيَّرت ** محاسنُها تُربُ الفلاةِ نُعوشُها

ومجهولية الشاعر وان كان تحديده من جيل القرن العاشر، واحدة من الأسباب التي يجعل المحقق الكرباسي يميل الى القول بان هذه المقطوعة أو تلك تضمنت القضية الحسينية أو جاءت بها عرضا.

ثالثا: استخدم بعض الشعراء شخوص النهضة الحسينية والطرف المضاد لها في التورية والاستشهاد والتحدي.

ومن ذلك قول العالم والشاعر إبراهيم بن حسن النقشبندي (ت 915 هـ)، من الطويل، من تائيته في النحو في باب الاستشهاد النحوي، تحت عنوان "شفيعي حسين":

وقدْ حُذِفَ التنوينُ في مثلِ قولنا ** شفيعي حسينُ بن عليٍّ فتمَّتِ

وهذه القصيدة وأمثالها كانت سببا في قتله شهيدا على مذبح الحب والولاء لأهل البيت (ع)، وهو المسمى بـ "سيبويه الثاني" لفقاهته في النحو والصرف.

ومن ذلك قول محمد بن عمر النصيبي (ت 916 هـ) من الوافر، تحت عنوان "لا أقوى على الهجران"، يشكو هجران صاحبه واسمه حسين، فيستخدم قصة الإمام الحسين (ع) وقاتله يزيد بن معاوية (ت 64 هـ):

حسينٌ إنْ هجرتَ فلستُ أقوى ** على الهجران من فرح الحسود

ودمعي قد جرى نهراً ولكنْ ** عَذولي في محبّته يزيدُ

ومن ذلك قول محمد بن احمد الحنفي (ت 930 هـ) من السريع، تحت عنوان "أسوة"، يرثي الأتابكي تمراز حين قتله جماعة من المماليك الجلبان في عام 902 هـ، وتأسى في مقتله وقطع رأسه بالامام الحسين (ع) وبداية المقطوعة:

أرغمتَ يا دهر أنوف الورى ** بقتل تمراز ويتم العباد

الى ان يصل موضع الشاهد:

مصيبةٌ جلَّت فمن أجلها ** قد أطلقتْ في كلِّ قلبٍ زِنادْ

لكنَّ في قتلتهِ أسوةً ** الى الحسينِ بن عليِّ الجوادْ

رابعا: ومن حيث البحر، اقتصر النظم على سبعة بحور من البحور الخليلية مع إضافة "بحر الدوبيت" الدخيل على العربية، والذي حل في المجالس الحسينية في القرن السادس الهجري.

خامسا: شحة القصائد الطوال، إلا ما لدى مفلح الصيمري والحسين بن مساعد الحائري وإبراهيم الكفعمي: "ومن المعلوم ان الحائري والكفعمي كلاهما من خريجي مدرسة القرن السابق وهم من المدرسة الحائرية القريبة من مركز الحلة التي تبادلت النهضة العلمية والأدبية لفترة زمنية محدودة وكانت لهما مساهمات جليلة في هذا المجال".

سادسا: اختفاء الشعر، وهذه حالة خاضعة للوضع الأمني والسياسي، وقد ضاع الكثير من الشعر بسبب الاضطهاد السياسي، وهذه سمة عامة تشمل جميع الشعر والشعراء، وفي الشعر الحسيني يكفي الولاء لأهل البيت (ع) تحت سلطة غاشمة ان تطيح برأس الشاعر. ولكن هذا لا يمنع من تحمل المسؤولية والاعتراف: "ان قسما من اللوم يقع على الموالين حيث لم يحافظوا على تراثهم بالمستوى المطلوب، والأدهى من ذلك أن حالة الاحتكار والبخل استولت على بعض النفوس التي امتلكت ذلك التراث فحرمت الآخرين منها وبذلك بقي منحصرا في نسخه الفريدة الى ان قضى عليه العدو أو الكوارث الطبيعية أو اختزنها أبناء الأدباء والعلماء فحملت إليهم ضمن التركة الموروثة فظلت في تلك الأيادي الجاهلة فتمسكوا بها عن جهل دون أن يفسحوا المجال للآخرين الى درجة البخل بل اللؤم دون أن يحافظوا عليه أو يحاولوا الاستنساخ عليه".

سابعا: انحصار القوافي، فقد اقتصرت على اثني عشرة قافية، وهذا يعد احتباسا شعريا فاضحا: "وقد غابت القوافي الصعبة وغاب معها بعض القوافي السائدة وذلك لقلة النظم أساسا".

ثنائيات شعرية

في بعض الأحيان ترد الفكرة عند شاعر ونفسها عند آخر، وكل ينظمها بما أوتي من مفردات شعرية وتجمعت عنده من مشاعر جياشة، ولكن حين المناظرة والمقارنة بين الفكرتين المنظومتين، يقوى نظم على حساب آخر، على ان هذه مسألة نسبية خاضعة لإحساس المتلقي ودقة مشاعره وتعاطيه للشعر وتفاعله مع الحدث أو الفكرة نفسها.

ويدلنا الدكتور الكرباسي في خاتمة الكتاب على نماذج مما قيل في القرن العاشر الهجري ومقارنتها مع أخرى لشاعر آخر سابق على عصر الشاعر المعني أو لاحق عنه، ومن ذلك قول الحسين بن مساعد الحائري في قصيدة من الطويل بعنوان "أئمة هذا الخلق" ومطلعها:

لطيِّ قريضي في مديحكُمُ نَشْرُ ** ومنشورُ شعري في عُلاكُمْ لهُ نَشْرُ

ثم يكمل النظم:

فوصلُكُمُ رَوحٌ وراحةٌ ** وبُعدُكُمُ موتٌ وقُربكُكُمُ نَشْرُ

وظاهرُ شعري فيكُمُ المدحُ والثَّنا ** وباطنُهُ يا سادتي الحمدُ والشُّكرُ

ولكن الشاعر ابن العرندس صالح بن عبد الوهاب الحلي المتوفى في حدود عام 900 هـ سبقه في الفكرة حيث ينشد من الطويل بعنوان "فرجت له السبع الشداد"، ومطلعها:

طوايا نظامي في الزمان لها نَشْرُ ** يُعطِّرُها مِنْ طيبِ ذِكرِكُم نَشْرُ

ثم يصل موضع الشاهد:

فذُلِّي بكم عزٌّ وفَقري بكم غنىً ** وعُسري بكُم يُسرٌ وكَسري بكُمْ جَبرُ

تروقُ بروقُ السُّحْبِ لي مِن دياركُمْ ** فينهلُّ مِن دمعي ببارقها القطْرُ

وحسب تعبير المصنف: "وكلاهما معبران عن عمق الولاء ولكن الثاني أعمق تعبيراً".

ومن الثنائية الشعرية قول إبراهيم الكفعمي يعبر عن ثقته بإمامه الحسين (ع) الذي احتمى بحماه وجاوره، فينشد من الخفيف بعنوان "جار الشهيد"، وأولها:

سألتُكُمُ بالله أن تدفنوني ** إذا متُّ في قبرٍ بأرضِ عقيرِ

ثم يصل موضع الشاهد:

وعار على حامي الحِمى وهو في الحِمى ** إذا ضلَّ في البيدا عقالُ بعيرِ

لكن الشاعر الخليعي علي بن عبد العزيز الموصلي المتوفى في حدود 750 هـ، الذي تحول من النصب والعداء الى الحب والولاء لأهل البيت (ع)، ينشد من الوافر:

إذا شِئتَ النجاةَ فزُرْ حُسَيْناً ** لكيْ تلقى الإلهَ قريرَ عَيْنِ

فإنَّ النارَ ليسَ تَمَسُّ جِسماً ** عليهِ غُبارُ زُوّارُ الحسينِ

وهنا فاق الخليعي الكفعمي حيث: "رفع من ثقته الى حد لا يلزم نفسه بأن يدفن في تربته، بل يكفيه مجرد أن يعلوه غبار زائريه".

مفردات حبلى

وكما تتوارد الخواطر والأفكار عند الشعراء وان تباعدت أزمانهم وأماكنهم، تتوارد مفردات بعينها دالة على فكرة بعينها حبلى بالمعاني، نجد عند هذا الشاعر وعند ذاك في القرن الواحد، وهو كثير، ومن ذلك استخدام الشعراء للنار كدلالة على حرارة الحزن ومبلغ المأساة، أو استخدامهم مطلع سورة الإنسان: (هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئا مذكورا)، للاستدلال على النصوص المقدسة الواردة في حق أهل البيت (ع).

ومن عيّنة "النار" قول الشاعر محمد بن أبي طالب الحسيني الحائري المتوفى بعد عام 955هـ، من بحر الرمل تحت عنوان "نار حزني":

يا بْنَ خيرِ الناسِ اُمّاً ** وأجلَّ الخلقِ طُرّاً نَسَبا

نارُ حزني بكَ يا بنَ المصطفى ** حرُّها منذُ وجودي ما خبا

وإذا ما مرَّ ذكرُ الطفِّ في ** مهجتي أذكى بقلبي لهبا

ومن عينة "الحر" قول الشاعر علي بن جعفر من الطويل تحت عنوان "فيا نكبة"، بدءاً من المطلع:

ألا مَن لقلبٍ لا يُطاوعُهُ صبرُ ** كئيبٌ من الأحزان خالطَهُ الفكرُ

وجَفنٌ قريحٌ لا يَمَلُّ من البُكا ** تجدَّدَ حُزني كلما أقبل العشرُ

على فقد سبطِ المُصطفى ومصابه ** فدمعي له سكبٌ وقلبي به حرُّ

أو قول مفلح بن الحسن الصيمري من الطويل في فاجعة كربلاء تحت عنوان "الدنيا غرور"، ومطلعها:

ألا إنما الدنيا غُرورٌ وباطلُ ** وما راغبٌ عنها من الناس عاقلُ

الى ان يصل موضع الشاهد:

فما أنْسَ لا أنْسَ الطُّفوفَ ونارها ** لها كلُّ حينٍ بينَ جَنْبَيَّ شاعلُ

فهلْ بعدَ يومِ الطَّفَّ يلتذُّ مؤمنٌ ** وهل حُزنُهُ يومَ القيامةِ زائلُ

والشاعر هنا يستعير قول النبي محمد (ص) في سبطه الحسين (ع): (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا).

ومن عينة "هل أتى" قول الحسين بن مساعد الحائري من الكامل، في قصيدة بعنوان "لله درّهم" في بيان فضائل أهل البيت (ع) ومطلعها:

قلبي لطول بِعادِكُمْ يتفطّرُ ** ومدامعي لفراقِكُمْ تتقطّرُ

الى أن ينشد:

أفهلْ سمعت بهلَ أتى لسواهُمُ ** مدحاً وذلك بيِّنٌ لا يُنكَرُ

ومن ذلك أيضا قول الشاعر محمد بن أبي طالب الحسيني الحائري من البسيط، في قصيدة بعنوان "مضوا كراما" في بيان مناقب أهل البيت (ع) ومطلعها:

الصبرُ والحزنُ مقطوعٌ وموصولُ ** والنومُ والدَّمعُ ممنوعٌ ومبذولُ

الى أن ينشد:

سَلْ عنهُمُ هل أتى تلقى بها شَرَفاً ** في ذكره لهُمُ مدحٌ وتفضيلُ

متعة أدبية

يمتاز المحقق والباحث الجاد بأنه والمعلومة كعشق المجنون لليلى يبحث عنها أينما وجدت لا يكل ولا يمل حتى يملكها أو يعتقها من أسر غموضها، وإذا زاغت عنه أثناء التأليف ثم عثر عليها فيما بعد، يقيدها في أقرب تأليف جديد، وهو في هذا الطريق يضع أصابعه على مواضع الخطأ المطبعي إن حصل وما أكثره والخلل اللغوي إن وقع وما أقله، فصحة المعلومة غاية الكاتب الأريب ومصلحة الأمة مبتغاه. ولذلك فان الكتاب ضم في ربعه الأخير استدراكات لديوان القرون التسعة وتصحيحات لما ورد فيها من أخطاء.

وكما هو دأب المصنف وسياسته في التأليف ضم الكتاب 32 فهرسا في أبواب شتى تدفع بالمعلومة الى ذهن القارئ بيسر، مع قراءة نقدية لعلم من أعلام البشرية بغض النظر عن معتقده وجنسه وموطنه. وفي هذا المجلد وجد أستاذ اللغات الأجنبية الإيطالي الجنسية البروفيسور فيتو إسباتي (Vito Espite) ان الشعر بما هو شعر: "فن إبلاغ المشاعر بواسطة موسيقى الكلام. وهو فن التعبير بكلمات ملحّنة عن الأفكار التي تخلقها المشاعر ويتصورها الخيال"، وعلى ضوء ذلك فان مأساة كربلاء واستشهاد الامام الحسين (ع) وسبي عياله كما يؤكد البروفيسور إسباتي: "أثارت الغضب العارم والحزن العميق لدى المسلمين، ولا يزال صدى استشهاد الامام الحسين يتراجع لتلك القرون الأربعة عشر رمزا عند المسلمين لمقاومة الظلم والطغيان". وهذه القضية في تقديره: "مصدر إيحاء ولا تزال توحي بالمزيد من الأدب المأساوي ويضيف له جيل بعد جيل من الشعراء والأدباء من مختلف الأوطان وبمختلف اللغات مشاعر الحزن والرثاء والولاء". وعن قراءته للجزء الأول من ديوان القرن العاشر، عبر عن قناعته بـ: "ان الشيخ الكرباسي توسع واستفاض في وصف أحوال العالم الاسلامي في تلك الحقبة" ولذلك: "نستطيع أن نوصي بهذا الديوان لقراء العربية من المهتمين بقضية الحسين ودورها في تاريخ الإسلام ومن هواة الشعر والأدب عامة ليجدوا فيه مضامين من المعرفة والمتعة الأدبية". 

* إعلامي وباحث عراقي

الرأي الآخر للدراسات – لندن

alrayalakhar@hotmail.co.uk

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 29 كانون الاول/2007 - 17/ذو الحجة/1428