التنظيم عندما يحطم مكامن الإبداع في اتباعه

صالح النعامي

 يجزم فريق من علماء النفس برئاسة برتارد مويس أن أفضل طريقة لتربية الأطفال هي عرض الأفكار المتناقضة أمامهم، وتدريب عقولهم على استيعاب مسافات الفروق، لتوعيتهم في سن مبكرة بأهمية التعددية والتعايش معها.

 فالتعايش مع الرأي الآخر، ومنحه الشرعية للتعبير عن ذاته هو من مظاهر الصحة في المجتمعات والشعوب والأحزاب والتنظيمات. فوجود المعارضة يعني أن هناك ثمة وجود للعقل والإستقلالية، لأنها توحي بأن هناك ثمة تقصير يتوجب إصلاحه، ولا يكون هذا إلا من خلال الإعتراض وإبداء الرأي الآخر، فالعصمة ليست إلا للإنبياء. والصدع بالرأي ضرورة وفرض حتى عندما يكون ثمنه غالياً. فالقرآن امتدح ليس فقط الذين يجاهرون بالرأي الآخر، بل وبأولئك الذين يدافعون عن حق الآخرين في ذلك. فسورة  " غافر " تحدثنا عن ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه، لكنه لم يصمت عندما رأى قومه يوشكون على قتل نبيه ل! مجرد أنه قال ربي الله، فقال " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ".

وهذا يعني أن المعارضة هي لب الصحة السياسية وهي مفيدة للحاكم قبل المحكوم وللقائد قبل المقود. فهي جرعة التوازن وملح الطعام وفرامل السيارة الاجتماعية. فالمعارضة تعني عمل العقل والاستقلالية. وأنها نوع من الإقرار الخفي أن هناك ثغرة في الأوضاع قصر فيها المسؤولون ولذا كانت المعارضة وابداء الرأي.

وعندما تغيب المعارضة لا يجد الزعيم والقائد إلا المنافقين المتملقين الذين يسبحون بحده، فيسقطه الشعور بأنه خير من وطأت أقدامهم البرية وأن جبلتهم مصنوعة من طينة اخرى غير طينة البشر. ففي المجتمعات الفاسدة يوحي المنافقون إلى الزعيم زخرف القول غرورا  وأن الأمور في أحسن أحوالها، وأن كل شيء تحت السيطرة؛ فلا يسجلون إلا الانتصارات ولا يظهرون إلا عظمة القائد الذي لايخطيء.

 فالأتباع هم الذين يصنعون الطواغيت، وكما تقول مدرسة علم النفس السلوكي: كلما اظهر الاتباع المزيد من الخضوع، فأن ذلك يعزز مشاعر السيطرة لدى القادة.  وفقط المجتمعات الخرساء هي التي تمنح الصوت لفم واحد فلا يتكلم إلا فرد واحد.

لكن حتى يتم التسليم بشرعية الرأي الآخر، فأن ثمة جهد يتوجب أن يبذل، فالذين يتشبثون بالأمر الواقع لا تحركهم فقط قناعاتهم به، بل، في كثير من الأحيان مصالحهم التي يرون أنها لا تتحقق إلا ببقاء هذا الواقع وديمومته. وهذا يفسر مشقة المهمة التي قام بها الانبياء في التغيير الاجتماعي لأنهم دعوا الى تغيير قضايا تمس أهم الأمور حيوية في حياة الناس تتطلب سحب امتيازات منهم.

لكن المشكلة الكبرى أن تنظيماتنا وقوانا الحزبية والسياسية لا تقبل بشرعية الرأي الآخر، رغم تشدقها بشعارات الدفاع عن الديموقراطية، ومن بين هذه القوى الحركات الإسلامية. ومع أن هذه ظاهرة تميز جميع القوى السياسية والفكرية العاملة في العالم العربي، إلا أن الحديث عن مظاهرها لدى الإسلاميين يكتسب أهمية خاصة، ليس لأنهم أكثر انغلاقاً من غيرهم في تقبل الرأي الآخر، فالجميع متساوون في قمع " الآخر " بغض النظر عن هويته، لكن لكون الحركات الإسلامية هي حاضنة القطاعات الجماهيرية الأوسع في فلسطين والعالم العربي، وبالتالي فأن قيادات الحركات الإسلامية يتوجب أن تكون الأكثر انفتاحاً على الرأي الآخر. من هنا تتجلى ضرورة التخلص من هذا المرض العضال.

فالبيئة التي تسمح بالرأي الآخر، هي حاضنة الإبداع، وعندما تتقلص القدرات الإبداعية تسقط حتى الأمبرطوريات العظيمة، فالاتحاد السوفياتي سقط بفعل "قصور الطاقة الإبداعية" أكثر من الهجوم الخارجي، مع أنه في قدرته تدمير الكون مرات.

وفي ظل بيئة الرأي الواحد يعجز المرء عن تمييز الأشياء مهما كانت بسيطة. يروي أبن خلدون في مقدمته أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربى فيها ابنه، وفي في ذلك السجن كان يقاسمهما فيه فأر، فلما كبر الطفل و أدرك وعقل سأل عن مصدر اللحم الذي يتناوله في وجبات الطعام، فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بنعوتها فيقول: ياأبت تراها مثل الفأر!

www.naamy.net

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 20 كانون الاول/2007 - 9/ذو الحجة/1428