الأنفتاح في السياسة الخارجية الصينية

بعد العام 1978

خيار أقتضته سياسة الاصلاح الاقتصادي

أحمد عبد الأمير الأنباري

يعد تحقيق الاصلاحات الاقتصادية في الصين بعد العام 1978 هدفاً رئيساً ضمن أهداف السياسة الخارجية الصينية، بل تصد أولويات هذه السياسة وموجهاً لمسارات تحركاتها الإقليمية والدولية. فبعد وفاة  الزعيم الصيني ماو تسي تونج في العام 1976  ووفاة رئيس وزرائه شوان لاي في العام نفسه، وبعد عامين من الصراع على السلطة في الصين وصلت إلى الحكم قيادة تمتلك رؤية مختلفة عن الرؤية التي كانت تسود في الفترة السابقة.

 هذه الرؤية عمل بها  ورسخها الرئيس دينج شياو بينج. تبعاً لذلك تغيرت الاولويات بالنسبة للقيادة في الصين ليتصدر الأولويات هدف الاصلاح الاقتصادي وتحقيق مستوى من العيش الكريم للمواطن الصيني وصولاً إلى رفاهية هذا المواطن.

إن وصول هذه القيادة الجديدة للسلطة في العام 1978  واستلامها لزمام الأمور في الصين، كان قد أشر لبداية جديدة في مسيرة الصين والتي أنتقلت فيما بعد بالصين إلى مستويات اقتصادية متقدمة قياساً لما كان عليه الحال قبل العام 1978.

الذهاب بأتجاه الأنفتاح على العالم الخارجي ولاسيما العالم الغربي، وأحداث اصلاحات اقتصادية تكون كفيلة بتحقيق الأكتفاء الذاتي للصين ومن ثم تحقيق مستويات من الرفاهية مرضية للمواطن الصيني، يمثل جوهر الرؤية التي جائت بها القيادة الجديدة والتي تختلف عن الرؤية الماوية التي كانت سائدة للفترة السابقة عن العام 1978.

 تعد التجربة الاقتصادية في الصين والتي قادها الزعيم الصيني دينج شياو بينج منذ عام 1978 واستمر على نهجه من جاء بعده، تجربة فريدة من نوعها وهي محط اعجاب العالم لما حققته هذه التجربة من نجاحات كبيرة أستطاعت ان تنتقل بالمستوى المعيشي للمواطن الصيني إلى مستويات أفضل.

 والنتائج الجيدة لهذه التجربة والنجاحات المتحققة، مكنت الصين من  ان ترتقي مكانة متقدمة بين الدول على الصعيد العالمي، ومكنتها من ان تلعب حالياً - ومستقبلاً - ادواراً عالمية على قدر كبير من الأهمية، فضلاً عن دورها المؤثر والفعال في المحيط الآسيوي. فللصين أهمية لايمكن اغفالها عند الحديث عن الدول التي تلعب دوراً فعالاً في تشكيل تفاعلات السياسة الدولية. وان كان هذا الدور يختلف باختلاف المنطقة - حسب أهميتها بالنسبة للصين - ونوع القضية المطروحة.

تعتبر الصين للفترة من 1949- 1978 دولة فقيرة اقتصادياً، حيث دخل الفرد متدني جداً وكذلك مجمل ناتجها المحلي ومعدل نموها الاقتصادي. أما الاستثمار الأجنبي فلم يكن له وجود في الصين قبل عام 1978، وكذلك اسهامها في مجمل التجارة العالمية كان نسبة قليلة جداً لا تتناسب مع حجمها. فحتى نهاية عقد الستينات من القرن الماضي كانت الصين تُعد من الدول الفقيرة، إلا انها استطاعت من خلال اتباع سياسات اقتصادية ناجحة أن تحتل مرتبة متقدمة ضمن ترتيب الدول الصناعية المتقدمة على المستوى العالمي.

وقد أدركت القيادة الصينية بقيادة دينج شياو بينج التي استلمت الحكم عام 1978 إن النهوض بالصين يتطلب اولاً النهوض بالاقتصاد الصيني. وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق من دون اتباع سياسة خارجية مفادها الانفتاح على مختلف دول العالم. فمثل هذه السياسة تكون كفيلة بتهيئة البيئة الملائمة - بيئة مسالمة - لسياسة اقتصادية ناجحة.

 تأسيساً على ما تقدم، فأن صياغة جديدة لهيكلية السياسة الخارجية الصينية مفادها الانفتاح على العالم الخارجي بشكل واسع اقتضته عملية البناء الداخلي، وتسخير هذا الانفتاح لصالح عملية الإصلاح والتحديث في الصين.

 فكان ترتيب أوضاع الصين الداخلية  يمثل أول هدف من أهداف السياسة الخارجية الصينية.  فهناك علاقة وثيقة بين ما حصل في الصين من تغيرات داخلية وتوجهات سياستها الخارجية.

فالتحديث الداخلي يحتل مكانة بارزة في السياسة الخارجية الصينية، وهذه المكانة ارستها القيادة التي جاءت بعد ماو تسي تونج، التي كانت تحمل توجهات للمستقبل تختلف عن التوجه الماوي.

إن كل ما يجري في الصين من إصلاحات اقتصادية وانفتاح على دول العالم وخصوصاً  الدول الغربية، يستند إلى التجربة  الاقتصادية التي كان وراءها الرئيس الصيني الأسبق دينج شياو بينج، وقد جسد هذا التوجه بمقولته الشهيرة " ليس المهم لون القط ابيض ام اسود.. مادامت القطة تصطاد الفأر فهي قطة جيدة " فهو يرى ان المهم هو ان تحصل الصين على التكنولوجيا ورؤوس الأموال التي تحتاجها الصين من اجل نهضتها. وأعلنت الصين " ان الانفتاح على العالم الخارجي يعد من السياسات الرئيسية التي تتمسك بها الصين دون ثمة تغيير. بالإضافة إلى جذب رؤوس الأموال الأجنبية والتكنولوجيا المتقدمة، ودراسة التجارب الناجحة في التخطيط والإدارة الاقتصادية في الدول الأجنبية، وتشجيع مؤسسات الدولة للمشاركة في المنافسة بالأسواق العالمية وتعزيز الإصلاح الداخلي والتنمية الاقتصادية.

إن ما يرمي إليه هذا الزعيم الصيني هو زيادة الانتاج والوصول بالمجتمع إلى الرفاهية الاقتصادية، ولتحقيق ذلك فإن على الصين أن تسير في الطريق الذي يوصلها إلى ذلك بغض النظر عما إذا كان اشتراكياً أم رأسمالياً.

شهد عام 1978 بداية النهضة الاقتصادية لجمهورية الصين الشعبية، هذه النهضة التي حققت الكثير من الإنجازات وما زالت تسعى لتحقيق المزيد منها. وما يشهده الاقتصاد الصيني من معدلات نمو كبيرة جداً، وارتفاع في الناتج القومي، وتحسين في مستوى المعيشة للمواطن الصيني دليل على ذلك. ومما لاشك فيه إن مثل هذه التطورات الكبيرة على المستوى الاقتصادي تزيد من فرص الصين إن تحتل مكانة متميزة في القرن الواحد والعشرين. فالرؤية الصينية للأصلاحات الاقتصادية تستند على اعتبار أن أجراء هذه الإصلاحات من أبرز أولويات السياسة الخارجية الصينية لارتباطها باستقرار المجتمـــــع وتحسن مستوى المعيشة، ولا يمكن أن يتحقـق ذلك بدون هذه الإصلاحات" لقد خرج المارد الاقتصادي الصيني من قمقمه، وأنطلق مندفعاً منافساً للقمم الاقتصادية العالمية. وجميع التوقعات تشير إلى أنه سيتفوق على هذه القمم الراسخة خلال حقبة أو حقبتين وتصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم. إن الثورة الاقتصادية التي حدثت في الصين وظهور سوق اقتصادية في أكثر بلدان العالم تعداداً يعد أهم حدث في نهاية القرن العشرين، وتفوقها على بقية الأسواق الاقتصادية سيكون أهم حدث في بداية القرن الحادي والعشرين ".

وقد أصبحت هذه التجربة نموذجاً للدول الأخرى لا سيما دول العالم النامي، بعد أن أحدثت تحولات كبيرة في شعب يزيد تعداده (1.2) مليار نسمة حيث استطاعت هذه التجربة توفير الملبس والمأكل لخمس سكان العالم. 

لقد حققت التجربة الاقتصادية في الصين تحولات كبيرة في الاقتصاد الصيني، ولنا ان نستدل على نجاح هذه التجربة من خلال معدلات النمو الاقتصادي العالية المتحققة والتي انعكس بشكل ايجابي في ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي في الصين، مما أدى بالنتيجة إلى تحسن ملحوظ في مستوى دخل الفرد في الصين. ومن نتائج هذه التجربة ارتفاع معدل الاستثمارات الأجنبية في الصين، وكذلك زيادة مساهمة الصين في حجم التجارة العالمية.

فقد أرتفع متوسط دخل الفرد ليصل عام 1984 إلى (72) دولاراً، وإلى (241) دولاراً عام 1992. وارتفع عام 1996 إلى (528) دولاراً  ليصل عام 1998 الى (610) دولاراً، و(1090) عام 2003.    كما أن الصين حققت متوسط نمو للفترة 1981 – 1988 بلغ (9.9) وفي عام 1992 حققت نمواً قدره (13.2%)، ووصل إلى (15%) عام 1996، وسجل في عام 2000 نمواً قدره (7.1%)، و (9.1%) في عام 2003، وهو معدل غير متحقق في أي دولة أخرى. وقد حقق الناتج المحلي الاجمالي ارتفاعاً ملحوظاً، فبينما كان في عام1983(253) مليار دولار، أصبح في عام 1993 (658) مليار دولار   ووصل الناتج المحلي الأجمالي الصيني عام 1997 إلى (754) مليار دولار   وفي عام 2003 وصل إلى (1090) مليار دولار. وفي مجال الاستثمار، فالصين تحتل المرتبة الثانية، فقد أرتفع حجم الاستثمارالاجنبي في الصين من (1258) مليون دولار عام 1984 إلى (3487) مليون دولار عام 1990، ووصل عام 1992 إلى (18.8) مليار دولار، و(36.8) مليار دولار عام 1995.و(43) مليار دولار عامي 1997و1998، والى (53) مليار في العام 2003. علماً إن الاستثمار الاجنبي في الصين لم يكن له وجود قبل عام 1979. وفيما يتعلق بالاحتياطي من العملات الاجنبية، تمتلك الصين ما يقارب (154.7) مليار دولار (عام 1999)، ليصل الى (403,3) مليار دولار في العام 2003.

إن مدى اسهام الدولة في حركة التجارة العالمية يدل على مدى تأثير هذه الدولة في السياسة الدولية، أي مدى تأثيرها في النظام الدولي. في عام 1992 بلغ حجم التجارة الخارجية للصين (163) مليار دولار   وفي عام 1999 بلغت (360.7) مليار دولار منها (194.9) مليار دولار صادرات صينية، ليصل إلى (474) مليار دولار في عام 2000.

دخلت الصين بعد عام 1978 مرحلة جديدة في مسيرتها والتي قطعت من خلالها شوطاً غير قليل في المجال الاقتصادي الذي مكنها فيما بعد من ترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية.

كان وصول دينج شياو بينج إلى السلطة في الصين عام 1978 وتطبيقه سياسة الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم بداية مرحلة جديدة في مسيرة الصين الشعبية والتي حققت لها فيما بعد نتائج مرضية، بل أصبحت نموذجاً يشار إليه من قبل بقية دول العالم. هذه السياسة انتقلت بالمستوى المعاشي للمواطن الصيني إلى مستويات أفضل قياساً مع الفترة السابقة على تطبيق هذه السياسة.

* باحث في الشؤون الدولية

جامعة بغداد

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 15 كانون الاول/2007 - 4/ذو الحجة/1428