حتى يغيروا (2)

وان قل ما تعلم

قراءة في حلقات

نزار حيدر

 العراق الجديد، بحاجة الى ثقافة جديدة، ليشاد البنيان على ارضية صلبة وقواعد راسخة، والا لما نعت بالجديد، اذا ظلت ذات الثقافات تعشعش في عقول العراقيين.

هذا ما اتفقنا عليه في الحلقة الاولى من هذه القراءة.

وقلنا بان من الثقافات التي يحتاجها العراق الجديد، هي؛

اولا: ثقافة الحياة

ثانيا: ثقافة التعايش

ثالثا: ثقافة المعرفة

الناس صنفان، الاول هو الذي يخوض في كل حديث ينفتح امامه، والثاني لا يخوض الا في الحديث الذي يعرف عنه شيئا ما، اي انه لا يخوض في حديث الا عن معرفة، الاول يجيب عن اي سؤال يطرح عليه، والثاني لا يجيب الا على السؤال الذي يعرف جوابه، الاول هو العاقل اما الثاني فغيره.

ترى لماذا نرى بعض الناس يخوضون في كل حديث؟ ولماذا يجيبون على كل سؤال حتى اذا كان يجهل جوابه بتاتا؟ ولماذا لا يعرف ان يقول (لا اعرف) اذا ما سئل عن امر لا يعرفه؟.

الجواب وبكل بساطة، لانه يخجل ان يقول لا اعرف، ويستحي من النطق بهذه العبارة فاسهل عليه ان يدفن تحت الارض من ان يقول لا اعرف، فذلك العار الذي ما بعده العار، الذي يحرض اقرانه على الضحك عليه والاستهزاء به، برايه طبعا.

ارايتم لو ان مجموعة منا (نحن العراقيون) جمعتنا سهرة الليالي البغدادية او الرمضانية، وما اكثرها عندنا طوال ايام العام، هل لاحظتم طريقة سير الاحاديث فيما بيننا وعن اي الامور نتحدث؟ وكيف؟.

سننتبه الى ان الجميع يتحدثون في وقت واحد، وفي كل شئ، وكاننا خبراء في كل الامور، فاذا اشتكى احد الجالسين من الم في قلبه او معدته او عينيه، انبرى كل الحاضرين ليصفوا له الدواء اللازم، وكانهم اطباء متخصصون في امراض القلب والبطن والعيون، واذا سال احدهم عن القمر مثلا او النجوم والمجرات، سارع القوم للحديث عن علوم الفلك والاجرام السماوية، كمن زارها وطاف عليها، واذا تساءل احد الحضور عن فتوى دينية بشان الصوم او الصلاة او الحج او الحرام والحلال، تحول القوم الى علماء وفقهاء ومراجع تقليد كل يفتي من (جيبه) ما يشاء ويحلو له، واذا اشتكى احدهم من كلبته التي تحرس منزله، وكيف ان نباحها زاد هذه الايام، لدرجة انها باتت تزعج الجيران، نهض الجميع ليحددوا له سبب ذلك، واذا ذكر احدهم اسم بطليموس او الفارابي او ما اشبه من اسماء الفلاسفة المعروفين، خاض الجميع في الفلسفة، بين مسفه لهذا الفيلسوف، وشاتم لآخر ومثني على الثالث وهكذا.

   فكل الجالسين هم اطباء ومهندسين وعلماء وفلاسفة وفقهاء ومراجع تقليد ومربي كلاب وكل شئ، وهم في الحقيقة لا شئ، لماذا؟ لان كل واحد من الجالسين يستكثر السكوت والصمت فيما يخوض الاخرون بالحديث المتداول، اذ كيف يسكت وهو برى الاخرون يتكلمون؟ اذن يجب عليه ان يتكلم كما يتكلم الاخرون، حتى اذا كان كلامه دليل جهله او لا يعني شيئا ابدا، المهم ان يتكلم ويدلي بدلوه.

   يقال ان نائبا في احدى البرلمانات العربية حديثة التاسيس، رأى زملاءه يخوضون في السياسة، كل في قضية ما، وقد حمي الوطيس، الا هو، فهو الوحيد الساكت الذي لم ينطق بشئ.

   استثقل سكوته واحس بان صمته امر معيب سيحرض زملاءه على لومه وربما الاستهزاء به بعد انتهاء الجلسة.

   قرر ان يتحدث، ولكن، في ماذا؟ لا يدري، اذ انه ليس على اطلاع كبير بمثل هذه القضايا المطروحة للنقاش والمتداولة في الجسلة البرلمانية، ولكن مع ذلك عليه ان يتكلم، اذ ليس المهم في اي موضوع يتكلم؟ وما اذا كان له باع فيه ام لا؟ انما المهم ان يتكلم، فرفع يده ليخبر الرئيس بانه يريد ان يتحدث.

   جاء دوره للحديث فقام شامخا بطوله الفارع، وهو يقول بكل ثقة وحيوية (في الحقيقة انا لا اعرف اساس المشكلة، الا انني اتساءل واقول، اذا تخاصمت لندن مع بريطانيا فلماذا تتدخل انكلترا؟). 

   ان الذي يخوض في كل حديث عن غير معرفة ودراية، فانما هو الجاهل بعينه، وان من يخجل ان يقول لا اعرف، وهو كذلك، فهو الاحمق بذاته.

   نحن بحاجة الى ان نتعلم كيف نخوض في الامور، وذلك من خلال الاعتماد على القواعد التالية:

   القاعدة الاولى: اذ كنت لا تعرف عما سئلت عنه، فتسلح بالجراة  والشجاعة والحكمة وقل لا اعرف، فان قولك لا اعرف هي المعرفة بعينها، وهي الجواب، والعكس هو الصحيح، فان اجابتك عما لا تعرفه هو الجهل بعينه.

   اجب وتحدث اذا كنت تعرف، والزم الصمت واسكت ان كنت لا تعرف، وهذا دليل احترامك لنفسك وللاخرين وللقضية التي سئلت عنها او المطروحة للحوار والنقاش.

   لا تتصور بان الصمت مثلبة، او منقصة يعاب عليها المرء، ابدا، بل بالعكس، ففي احيان كثيرة يكون الصمت جوابا، وهو في احيان كثيرة عكس الثرثرة التي لا يحبها العقلاء، خاصة في المجالس الرزينة، ولذلك ورد عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام انه قال {الصمت باب من ابواب الحكمة، ان الصمت يكسب المحبة، انه دليل على كل خير}.

   القاعدة الثانية: ليس العيب في ان تقول لا اعرف، وانما العيب كل العيب في ان تخوض بما لا تعرفه، والى هذا المعنى يرشدنا الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام في وصيته للامام الحسن السبط المجتبى بقوله {ولا تقل ما لا تعلم، وان قل ما تعلم}.

   القاعدة الثالثة: لا تتسرع في الخوض في الاحاديث المطروحة للنقاش، بل اسع اولا لمعرفة جو الحوار وعنوان المحور الذي تريد ان تخوض فيه، فكم من مرة نرى انفسنا في حوار ساخن يصل الى حد العراك والصراخ، واذا بنا نكتشف، بعد حين، ان ليس هناك اي خلاف في الموضوع، فلماذا، اذن، كل هذا الصراخ والعراك؟ السبب بسيط جدا، لاننا دخلنا الحوار من دون ان نعرف ماذا نريد؟ ولماذا نتحاور؟ وما هي وجهات النظر المطروحة للنقاش؟ وقبل كل ذلك، ما هو موضوع الحوار؟ وما اذ كنت افهم فيه ام اجهل تفاصيله؟.

   تقول الحكمة {من اسرع في الجواب، اخطا في الصواب} كذلك {من اسرع في الحوار، تعثر في الموضوع}.

   القاعدة الرابعة: لا تدخل في حوار من اجل الحوار، وليكن الحوار من اجل المعرفة او لرد شبهة او لمعرفة شئ جديد، وبعبارة اخرى، ليكن الحوار من اجل التكامل وليس من اجل ذاته.

   ان الجدال والحوار الذي يجب ان يكون بالتي هي احسن كما اوصانا القرآن الكريم بقوله {وجادلهم بالتي هي احسن} يجب ان يكون من اجل نهضة فكرية جديدة وحوار ايجابي بناء يميط اللثام عن فكرة مخبأة او يوضح اخرى غامضة، او يرد شبهة او يطور رابعة، اما ان يكون الحوار لنفسه والجدال لذاته، فتلك هي السفسطة بعينها او اللهو بذاته.

   القاعدة الخامسة: تذكر دائما بان الانسان مسؤول عن كل ما يتفوه به، سواء اليوم وامام الاخرين، او غدا امام الله تعالى، ولذلك يجب ان نحفظ السنتنا من الخوض في اي حديث، فكم من جريمة وقعت بسبب كلمة غير مسؤولة تفوه بها سفيه؟ وكم من قطيعة بين الاصدقاء والاحبة والاهل حصلت بسبب حديث خاص تناقله جاهل؟ وكم من حرب وقعت بين الناس بسبب لا ابالية احدهم؟.

   من هنا يلزمنا ان نصون السنتنا عن اي كلام الا في المفيد وفيما يصلح بين الناس وفيما يكون سببا لاصلاح ذات البين، ففي الحديث عن رسول الله (ص) {اصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصوم}.

   ولاهمية وخطورة ما يتفوه به الانسان، جاء في القران الكريم {مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء} ولم ينس القران الكريم ان يذكر الكلمة الخبيثة الى جانب ذلك لخطورتها، هي الاخرى، فقال عز من قائل {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار} وكان الكلمة الخبيثة ليس لها جذر فهي لا تلامس العمق وانما تظل في السطح.

   ذات المعنى ورد في الماثور، فعن رسول الله (ص) انه قال {الكلمة الطيبة صدقة} فبالكلمة الطيبة يعود الانسان الى رشده، وبها يعاد الامل الى اليائسين، فيبداوا حياة جديدة مفعمة بالروح الايجابية والحيوية.

   القاعدة السادسة: لا تصدق كل ما يقال لك، خاصة في هذا الزمن الذي اصبح فيه البهتان والكذب والخديعة والغش والتضليل، بضاعة رائجة لا يروج لها انسان او اثنين، وانما فضائيات باكملها، تلك الوسائل التي باتت تخاطب الملايين بنفس اللحظة، كما لا ننسى تكنولوجيا الخداع والغش والتزوير التي باتت تفبرك الصور والافلام ضد من تريد تدميره وبشكل يخدع اللبيب العاقل، فكيف بالمغفل الساذج؟.

   علينا ان ننتبه الى كل ذلك، فلا نردد كل ما نراه ونقراه ونسمعه، فقد يكون كذبا او مزورا او مفبركا، في محاولة ممن له مصلحة بتدمير هذا الانسان او تلك الجهة، لايقاعنا في تضليله.

   لنحذر تناقل الاخبار، وتداولها بمجرد حصولنا عليها، فقد تكون ملغومة، قصد مروجها ايصالها لنا تحديدا، لحاجة في نفس يعقوب.

   علينا ان نحذر الشائعات والدعايات التي يطلقها المغرضون للتضليل.

   لقد استخدم المغرضون مثل هذه الاساليب والخدع التضليلية بشكل واسع في العراق منذ ان سقط الطاغية الذليل، في محاولة منهم لتدمير هذا الطرف او تلك الجهة، وان ما يؤسف له حقا هو وجود القابلية الشديدة عند الكثيرين لتصديق كل ما يقراون ويسمعون ويشاهدون، فلقد اصطاد المغرضون الكثير من ضحاياهم من خلال صورة مفبركة او فيلما ممنتجا، واتذكر يوما ان احد القراء دأب على ارسال مثل هذه الصور والافلام لي من اجل اقناعي بانحراف هذا او خطر ذاك او ارتباطه المشبوه او ماشابه، ولانني لم اكن اقدر على اقناعه بكذب وغش مثل هذه الصور والافلام، لشدة الدقة الفنية التي أخرجت بها، تركته لفترة طويلة ولم امنعه من ارسال ما يجود به (ذكاءه) حتى وقع اخيرا في مصيدة لم يكن بامكانه ان يناقشني فيها ابدا، لشدة وضوحها ولان الكذبة كانت مكشوفة جدا.

   كان ذلك عندما ارسل لي مرة صورة للمرجع الديني اية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله الوارف) المقيم في مدينة قم الايرانية، وقد كتب في اسفلها تعليق يقول (ابراهيم الجعفري، يوم كان يلبس الزي الايراني في الحوزة العلمية) ووقتها كان السيد الجعفري رئيسا للحكومة العراقية وقد تعرض الى حملة شعواء من قبل من يعرفهم القاصي والداني.

   قررت ان استغل الفضيحة والخطا الجسيم الذي لا يمكن الجدال فيه، لان كلا الاسمين معروفان للقاصي والداني، فبعثت رسالة الى صاحبنا قلت له فيها، ان الصورة ليست للجعفري وانما هي لاحد العلماء والفقهاء المراجع المعروفين، فرد علي بالقول، اعتذر فلقد وقعت في التضليل، وهنا كانت اللحظة الحاسمة، فاجبته بالقول، انها ليست المرة الاولى التي تقع فيها بالتضليل، يا عزيزي، فمنذ كذا شهرا وانت مضلل، اتمنى ان تفيق الى نفسك.

   الحمد لله، يبدو ان وقوعه في الفخ واستغلالي للامر كان سببا لاستفاقته من غفلته، فبعد ايام قرات له بيانا على مواقع الانترنيت، بعث لي نسخة منه، يعتذر فيه لكل من كان يبعث له بمثل هذه الصور والافلام، وانا كنت احدهم، بسبب التضليل الكبير الذي شارك فيه، على حد قوله في البيان.

   ان هذه التجربة تهدينا الى حقيقة مهمة يجب ان لا نغفل عنها، وهي، ان علينا ان لا نتسرع في تصديق او تكذيب كل ما نقرأه او نشاهده او نسمعه، فقد نقع في التضليل الذي يكون ثمنه، عادة، كبير جدا، وقد نكون بسببه عامل تدمير وتمزق وحرب، واياك ان تعتبر كل من هب ودب مصدر ثقة، فالثقة في هذه الايام لا تمنح الى للحواريين من اصدقائك وزملائك.

   يقال ان رجلا شاهد في طريقه زميلا له، فاستغرب لقاءه وساله متعجبا، ماذا تفعل هنا يا صاحبي؟ فاجابه ولماذا؟ قال له الرجل، قيل لي بانك قد مت منذ مدة؟ فرد عليه زميله بالقول؛ اكيد ان من نقل لك الخبر، ليس من اهل الثقة، وهو اما اراد ان يمزح معك او اراد ان يكذب عليك لسبب ما، ثم، هل من العقل انك تصدق ناقل الخبر وتكذب عينيك التي تراني بهما الان وحواسك وانا الان اقف امامك بلحمي وشحمي وجسمي؟ فرد عليه الرجل على الفور:

   لا لا ان الذي نقل لي الخبر ثقة، لا يمكن ان يكذب علي؟.

   المقصود، اذن، من ثقافة المعرفة، هو، ان لا تجادل الا عن معرفة، وان لا تدخل في حديث او نقاش الا عن معرفة، وان لا تجيب اذا سئلت الا عن معرفة، كما ان عليك ان لا تسال الا عن معرفة، بمعنى ان لا تطرح سؤالا يثير السخرية والاستهزاء واحيانا الاستهجان من قبل الاخر.

   كذلك نقصد بثقافة المعرفة، هو ان لا تتناقل الاخبار الا عن معرفة، فلا تكن امعة او ببغاءا.

   النقطة المهمة التي اود ان اثبتها هنا، هي:

   ان من ادلة حكمة المرء وتواضعه وحرصه على المعرفة، انه يدلي السائل على العارف بالجواب اذا اعياه.

   ليس كل الناس يفعلون ذلك، فبعضهم يتصور انه دليل عجزه او انه يمنح الاخر فرصة للظهور بمظهر العالم، وهو لا يريد ذلك.

   اما العاقل، فيسارع الى الادلاء باسم من يعتقد انه يمتلك جوابا على السؤال الذي اعياه لاي سبب كان، وتلك هي من صفات الخير، ف (الدال على الخير كفاعله) وان الدال على من يمتلك الجواب عن معرفة، فعل خير يدل عليه المرء، اليس كذلك؟.

يتبع... 

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 25 تشرين الثاني/2007 - 14/ذوالقعدة/1428