محمد بن أحمد بن العلقمي

شبكة النبأ: هو مؤيد الدين أبو طالب محمد بن أحمد بن محمد بن علي ابن العلقمي الأسدي الوزير، ذكره مؤلف الحوادث في وفيات سنة 656 قال: (ذكر من توفي الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في جمادى الآخرة ببغداد وعمره ثلاث وستون سنة، كان عالماً فاضلاً أديباً يحب العلماء ويسدي إليهم المعروف) وقال قبل ذلك: (فتوفي الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في مستهل جمادى الآخرة ودفن في مشهد موسى بن جعفر – عليهما السلام – فأمر السلطان (هولاكو) أن يكون ابنه عز الدين أبو الفضل وزيراً بعده).

وقال الخرزجي في وفيات سنة 656: (وفي هذه السنة توفي الوزير مؤيد الدين محمد بن محمد بن العلقمي البغدادي الرافضي وكان عالماً فاضلاً أديباً حسن المحاضرة دمث الأخلاق كريم الطباع خير النفس، كارهاً للظلم خبيراً بتدبير الملك لم يباشر قلع بيت ولا استئصال مال، اشتغل بالنحو وعلم الأدب في شبيبته بالحلة على عميد الرؤساء (هبة الله بن حامد) بن ايوب ثم قدم بغداد وقرأ على أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري ثم انضم إلى خاله أستاذ دار الخلافة عضد الدين أبي نصر المبارك ابن الضحاك وكان شيخ الدولة فضلاً وعلماً ورئاسة وتجربة فتخلق بأخلاقه وتأدب بآدابه، واستنابه في ديوان الأبنية وشغله بعلم الإنشاء إلى أن توفي خاله، فانقطع ولزم داره، واستمر شمس الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد أستاذ الدار فاستدعى مؤيد الدين إلى دار التشريفات وأمره بالتردد إليها في كل يوم ومشاركة النواب بها، فلما نقل أستاذ الدار أحمد بن الناقد إلى الوزارة نقل مؤيد الدين إلى أستاذية الدار فكان على ذلك إلى أن توفي الوزير أحمد بن الناقد فانتقل مؤيد الدين إلى الوزارة ولم يزل على ذلك إلى أن أنقضت الدولة العباسية وأقرّ في الدولة التترية على الوزارة وتغيرت أحواله ولم يتم له ما أراد ولم يظن أن التتر يبذلون السيف مطلقاً فإنه راح تحت السيف الرافضة والسنة وأمم لا يحصون وذاق الهوان والذل من التتر وذلك في اول جمادى الآخرة من السنة المذكورة. وقال المؤرخ نفسه في ترجمة أبي المعالي القاسم بن أبي الحديد: (ثم استكتبه الوزير نصير الدين أحمد ابن الناقد بين يديه إلى آخر أيامه ولما عجز الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي أجراه على عادته في الكتابة بين يديه ثم جعله كاتب ديوان الإنشاء.

والقارئ يتعجب كل العجب من قول هذا المؤرخ (ولم يتم له ما أراد ولم يظن أن التتر يبذلون السيف مطلقاً) كأن ابن العلقمي هو الذي أنشأ الدولة المغولية وألهمها فكرة الفتوح مع أنها كانت تسير بفكرة الفتوح قبل مولد الوزير ابن العلقمي، وكيف لا يعلم أنهم يبذلون السيف وقد اشتهر بذلهم السيف في بلاد المسلمين منذ فتوحاتهم الأولى واجتياحهم البلاد الإسلامية على عهد خوارزمشاه محمد بن تكش سنة 617هـ.

وما دخل ابن العلقمي في حركتهم؟ إنما أتهم بذلك لأنه كان شيعياً ولو كان غير شيعي ما اتهمه أحد.

وقال الصفدي: (محمد بن محمد بن علي أبو طالب الوزير المدّبر مؤيد الدين ابن العلقمي البغدادي الرافضي وزير المستعصم ولي الوزارة أربع عشرة سنة فأظهر الرفض قليلاً، وكان وزيراً كافياً خبيراً بتدبير الملك ولم يزل ناصحاً لأستاذه حتى وقع بينه وبين الدوادار (الصغير مجاهد الدين أيبك) لأنه كان يتغال في السنة وعضده ابن الخليفة (أحمد ولي العهد) فحصل عنده من الضغن ما أوجب له أن سعى في دمار الإسلام وخراب بغداد (كذا) على ما هو مشهور لأنه ضعف جانبه وقويت شوكة الدوادار بحاشية الخليفة حتى قال في شعره:

وزير رضى من بأسه وانتقامه                 بطيّ رقاع حشوها النظم والنثر

كما تسجع الورقاء وهي حمامة            وليس لها يطاع ولا أمر

وأخذ يكاتب التتار إلى أن جرَّ هولاكو وجرأه على أخذ بغداد وقرر مع هولاكو أموراً انعكست عليه (كذا) وندم حيث لا ينفعه الندم وكان كثيراً ما يقول: وجرى القضاء بعكس ما أملته، لأنه عومل بأنواع الهوان من أراذل التتر والمرتدة، حكي أنه كان في الديوان جالساً فدخل بعض التتار ممن لا له وجاهة راكباً فرسه فساق إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير وخاطبه بما أراد وبال الفرس على البساط وأصاب الرشاش ثياب الوزير وهو صابر لهذا الهوان، يظهر قوة النفس وأنه بلغ مراده. وقال له بعض أهل بغداد: يا مولانا أنت فعلت هذا جميعه وحميت الشيعة حمية لهم وقد قُتل من الأشراف الفاطميين خلقٌ لا يحصون وارتكب من الفواحش مع نسائهم وافتضت بناتهم الأبكار مما لا يعمله إلا الله تعالى. فقال: بعد أن قتل الدوادار ومن كان على مثل رأيه لا مبالاة بذلك. ولم تطل مدته حتى مات غمّاً وغبناً في أول سنة سبع وخمسين وستمائة، مولده في شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وخمسمائة... اشتغل بالحلة على عميد الرؤساء (ابن أيوب) وعاد إلى بغداد وأقام عند خاله عضد الدين أبي نصر المبارك ابن الضحاك، وكان أستاذ الدار، ولما قبض على مؤيد الدين القمي وكان أستاذ الدار فوضت الأستاذ دارية إلى شمس الدين ابن الناقد ثم عُزل وفُوضت الأستاذ دارية إلى ابن العلقمي، فلما توفي المستنصر بالله وولي الخلافة أمير المؤمنين المعتصم وتوفي الوزير نصير الدين أبو الأزهر أحمد ابن الناقد وزر ابن العلقمي وكان قد سمع الحديث واشتغل على أبي البقاء العكبري وحُكي أنه لما كان يكاتب التتار تحيل مرة إلى أن أخذ رجلاً وحلق رأسه حلقاً بليغاً وكتب ما أراد عليه بوخز الأبر كما يفعل بالوشم ونفض عليه الكحل وتركه عنده إلى أن طلع شعره وغطى ما كتب، فجهزه وقال: إذا وصلت مُرهم بحلق رأسك ودعهم يقرؤون ما فيه، وكان في آخر الكلام قطّعوا الورقة، فضربت رقبته. وهذا غاية في المكر والخزي والله أعلم.

قلت: بل المكر والخزي اللذان بلغا الغاية هما صفتا من ابتدع هذه التهمة على ابن العلقمي، فليت شعري من خبر بهذا الفعل لو صح أأبن العلقمي؟ أم الذي قطع رأسه أم المغول الذين إدعي في الخبر أنهم رُوسلوا؟ وذلك من أهم أسرار دولتهم لو كان صحيحاً، ولكنه خبر مفتعل مولّد مختلق، لأن الوزير كان يستطيع أن يوصل إليهم كتابه بغير تكلف لهذا العمل، لأنه كان وزيراً فلا يعترض رسوله أحد، بله أن طرق التسلل كثيرة وطرائق الإيصال كثيرة وكيف يستجيز مسلم كابن العلقمي قطع رأس رسول مسلم وهو قطع محرم لأنه قتل للنفس التي حرم الله.

وقال ابن الطقطقي وهو من أنصف المؤرخين: (وزارة مؤيد الدين أبي طالب محمد بن أحمد ابن العلقمي، هو أسدي، أصلهم من النيل وقيل لجده العلقمي لأنه حفر النهر المسمى بالعلقمي وهو الذي برز الأمر الشريف السلطاني بحفره وسمي القازاني. اشتغل في صباه بالأدب ففاقه فيه وكتب خطاً مليحاً وترسل ترسلاً فصيحاً، وضبط ضبطاً صحيحاً وكان رجلاً فاضلاً كاملاً لبيباً كريماً وقوراً محباً للرئاسة كثير التجمل، رئيساً متمسكاً لقوانين الرئاسة، خبيراً بأدوات السياسة، لبيق الأعطاف بآلات الوزارة وكان يحب أهل الأدب، ويقرّب أهل العلم، اقتنى كتباً كثيرة نفيسة. حدثني ولده شرف الدين أبو القاسم علي – رح – قال: اشتملت خزانة والدي على عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب، وصنف الناس له الكتب، فممن صنف له الصاغاني اللغوي صنف له العبُاب وهو كتاب عظيم كبير في لغة العرب وصنف له عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد كتاب شرح نهج البلاغة، يشتمل على عشرين مجلداً فأثابهما وأحسن جائزتهما. وكان ممدحاً مدحه الشعراء، وانتجعه الفضلاء، فممن مدحه كمال الدين ابن السبوقي بقصيدة من جملتها:

مؤيد الدين أبو طالب             محمد بن العلقمي الوزير

وهذا بيت حسن جمع فيه بين لقبه وكنيته واسمه واسم أبيه وصنعته. وكان مؤيد الدين الوزير عفيفاً عن أموال الديوان وأموال الرعية متنزهاً مترفعاً قيل إن بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلما وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمة الخليفة وقال: إن صاحب الموصل قد أهدى لي هذا و استحييت منه أن أرده إليه، وقد حملته وأنا أسأل قبوله. فقبل ثم إنه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئاً من لطائف بغداد قيمته إثنا عشر ألف دينار والتمس منه أن لا يهدي إليه شيئاً بعد ذلك. وكان خواص الخليفة جميعهم يكرهونه ويحسدونه، وكان الخليفة (المستعصم) يعتقد فيه ويحبه، وكثروا عليه عنده، فكف يده عن أكثر الأمور، ونسبه الناس إلى أنه خامر وليس ذلك بصحيح ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة فإن السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد إلى الوزير وأحسن إليه وحكّمه. فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه. حدثني كمال الدين أحمد ابن الضحاك وهو ابن أخت الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي قال: لما نزل السلطان هولاكو على بغداد أرسل يطلب الوزير إليه. قال: فبعث الخليفة فطلب الوزير فحضر عنده وأنا معه، فقال له الخليفة: قد أنفذ السلطان يطلبك وينبغي أن تخرج إليه. فخرج الوزير من ذلك وقال: يا مولانا إذا خرجت فمن يدبر البلد ومن يتولى المهام؟ فقال له الخليفة: لا بُد أن تخرج فلما حضر بين يدي السلطان وسمع كلامه وقع بموقع الاستحسان. وكان الذي تولى تربيته في الحضرة السلطانية الوزير السعيد نصير الدين محمد الطوسي – قدس الله روحه – فلما فتحت بغداد سلمت إليه وإلى علي بهادر الشحنة، فمكث الوزير شهوراً ثم مرض ومات – رح – في جمادي الأولى سنة ست وخمسين وستمائة.

وذكره ابن كثير الدمشقي وهو أشد المؤرخين تعصباً أعمى على الشيعة وأكثرهم تخليطاً عليهم، وقد نشأ في عصر كان قتل الشهيد الأول السعيد محمد بن مكي من أيسر الأمور على أهل الشام والحكام قال وهو المسؤول بين يدي الله تعالى عما قاله من زور المقال: (الوزير ابن العلقمي الرافضي محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي وزير المستعصم البغدادي. خدم في أيام المستنصر أستاذ دار الخلافة مدة طويلة ثم صار وزير المستعصم، وكان وزيراً شؤماً على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين مع أنه من الفضلاء في الإنشاء والآداب، وكان رافضياً خبيثاً رديء الطوية على الإسلام وأهله وقد حصل من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء ثم مالأ على الإسلام وأهله، الكفار أصحاب هولاكو خان حتى فعل ما فعل بالإسلام وأهله ما فعل مما تقدم ذكره ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيد التتار الذين مالأهم وزال عنه ستر الله وذاق الخزي في هذه الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة اشد. وقد رأته إمرأة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذوناً وهو مرسم عليه (كذا) وسائق يسوق به ويضرب فرسه فوقفت إلى جانبه فقالت: يا ابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمداً وغبينة وضيقاً وقلة وذلة في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة (سنة 656) وله من العمر ثلاث وستون سنة ودفن بأذنيه ورأى بعينيه من الأهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، سريعاً، وقد هجاه بعض الشعراء فقال:

يا فرقة الإسلام نوحوا واندبوا   أسفاً على الإسلام والمستعصم

دست الوزارة كان قبل زمانه                 لابن الفرات فصار لابن العلقمي

قلت: ما كان أجهل هذا الشاعر السخيف القول الذي شغلته المقابلة البديعية عن الحقائق، فابن الفرات الوزير الذي مدحه وجعله أهلاً للوزارة كان شيعياً أيضاً وقد قتله المقتدر بالله وأعداؤه من أرباب الدولة العباسية ظلماً وعدواناً، صبراً وهو صائم بعد أن قتلوا ابنه ووضعوا رأسه بين يديه، أفكان جديراً بالوزارة وفعل به ذلك الفعل فكيف لم لو يكن بها قميناً؟

وقال ابن كثير قبل ذلك في حوادث سنة 656 أيضاً: (وكان قدوم هولاكو بجنوده كلها وكانوا نحواً من مائتي ألف مقاتل في ثاني عشر المحرم من هذه السنة إلى بغداد وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وهو أن هولاكو لما برز من همذان متوجهاً إلى العراق أشار الوزير ابن العلقمي على الخليفة أن يبعث إليه بهدايا ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بغداد وغيرها. قالوا: فخذل الخليفة عن ذلك داواداره الصغير (مجاهد الدين أيبك الشركسي) وغيره وقالوا للخليفة: إن الوزير يريد بإرسال الهدايا إلى ملك التتار مصانعة عن نفسه وأهله، وأشاروا بأن يبعث إليه شيئاً يسيراً. فأرسل الخليفة شيئاً يسيراً، فاحتقره هولاكو خان وأرسل إلى الخليفة يطلب منه داواداره المذكور وسليمان شاه (الأيوقي) فلم يبعثهما إليه ولا احتفل به حتى أزف قدومه ووصل إلى بغداد بجنود كثيرة فأحاطوا ببغداد من ناحيتيها الغربية والشرقية وجنود بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم في غاية الضعف، وبقية الجيوش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد وأنشد فيهم الشعراء القصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن رأي الوزير ابن العلقمي الرافضي فإنه كان وزير سوء، وذلك أنه كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب شديدة نهبت فيها الكرخ محلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير ابن العلقمي فاشتد حنقه من ذلك، فكان هذا مما هاجه على الإسلام وأهله حتى اضعف عسكر المسلمين ودبر على الإسلام وأهله ما كان سبب فساده مما وقع في هذا الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ مثله ولا أشنع منه منذ بنيت بغداد وإلى الآن، ولهذا كان الوزير هو أول من برز إلى التتار في أهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاراً إليهم فاجتمع بالسلطان هولاكو خان – عليهم لعنة الله – ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان فلما اقتربوا من مخيم هولاكو حجبوا أولئك الذين مع الخليفة إلا سبع أنفس، فخلص الخليفة إلى هولاكو بهؤلاء السبعة وأنزل الباقون عن دوابهم ونهبت مراكبهم وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو خان فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجه نصير الدين الطوسي والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخليفة شيئاً كثيراً من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ والرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو خان أن لا يصالح الخليفة وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لاستمر هذا إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة. فلما عاد الخليفة إلى هولاكو أمر بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ونصير الدين الطوسي وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيراً لشمس الشموس (الإسماعيلي) ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينتسبون إلى نزار ابن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو خان النصير ليكون في خدمته كالوزير فلما قدم بغداد وأراد قتل الخليفة هوّن عليه هذان الوزيران قتله فقتلوه رفساً بأرجلهم وهو في جوالق لئلا يقع من دمه شيئ إلى الأرض: خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم. وقيل بل خُنق ويقال: بل غرق والله أعلم، فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من العلماء والصلحاء والقضاة والرؤساء والأمراء من أولي الحل والعقد وستأتي ترجمته في الوفيات.

وهاهنا انتهى تخليط ابن كثير، ومن المؤرخين من امتد تخليطه إلى ذكره ناقلاً غافلاً أن هولاكو قتل الوزير ابن العلقمي قال محب الدين العيني في حوادث سنة 656 ووفياتها: (الوزير ابن العلقمي الرافضي – قبحه الله – واسمه محمد بن أحمد بن علي بن أبي طالب الوزير مؤيد الدين أبو طالب) وذكر ما قال ابن كثير وقال: (هذا كله ذكره ابن كثير في تاريخه وقال بيبرس في تاريخ: وأما الوزير فهو مؤيد الدين ابن العلقمي فإن هولاكو استدعاه بين يديه وعنفه على سوء سيرته وخبث سريرته وممالأته على ولي نعمته وأمر بقتله جزاءاً بسوء فعله فتوسل وبذل الالتزام بالأموال يحملها واتاوة من العراق يحصلها. فلم يذعن لقبوله ولا أجابه إلى سوء فعله، بل قتله بين يديه صبراً وأوقعه الله في البئر التي احتفر وخانه فيما قدر صرف القدر.

قال مصطفى جواد: ونسبة بعض المؤرخين ومن لف لفه تسريح الجنود إلى الوزير ابن العلقمي تهمة أخرى من هذه التهم الكثيرة الباطلة التي اتهم بها هذا الوزير فإن إدارة شؤون الجيش والتجنيد وعطاء الأرزاق كان بيدي مقدّم الجيش مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير خصم الوزير وعدوه ولا شأن للوزير فيها ولا نهي ولا أمر فبأي وجه يتم الرجل بإقلال عدة الجنود بالحل والتسريح؟

 قال مؤلف الحوادث في أخبار سنة 650:

(وفيها فارق كثير من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم ولحقوا ببلاد الشام). وكانت شؤونهم قبل ذلك متعلقة بمقدم الجيوش إقبال الشرابي الملقب بشرف الدين ثم توفي، فقد ذكر المؤرخ نفسه في حوادث سنة 640 ما عنوانه(ذكر وقعة الأتراك) قال: (وفي شعبان حضر جماعة المماليك الظاهرية والمستنصرية عند شرف الدين إقبال الشرابي للسلام على عادتهم وطلبوا الزيادة في معايشهم وبالغوا في القول وألحوا في الطلب. فحرد عليهم وقال: ما نزيكم بمجرد قولكم بل نزيد منكم من نزيد إذا أظهر خدمة يستحق بها. فنفروا على فورهم إلى ظاهر السور وتحالفوا على الاتفاق والتعاضد، فوق التعيين على قبض جماعة من أشرارهم. فقبض منهم اثنان وامتنع الباقون وركبوا جميعاً وقصدوا باب البدرية ومنعوا الناس من العبور، فخرج إليهم مقدم البدرية وقبح لهم هذا الفعل، فلم يلتفتوا إليه، فنفذ إليهم سنجر الياغر فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: نريد أن يخرج أصحابنا وتزاد معايشنا. فأنهى سنجر ذلك إلى الشرابي، فأعاد عليهم الجواب: أن المحبوسين ما نخرجهما وهم مماليكنا نعمل بهم ما نريد ومعايشكم ما نزيدها فمن رضي بذلك يقعد ومن لم يرض وأراد الخروج من البلد فنحن لا نمنعه. وطال الخطاب في ذلك إلى آخر النهار ثم مضوا وخرجوا إلى ظاهر البلد، فأقاموا هناك مظهرين للرحيل، فبقوا على ذلك أياماً، فاجتمع بهم الشيخ السبتي الزاهد وعرّفهم ما في ذلك من الإثم ومخالفة الشرع. فاعتذروا وسألوه الشفاعة لهم وأن يحضر لهم خاتم الأمان ليدخلوا البلد، فحضر عند الشرابي وعرّفه ذلك وسأله إجابة سؤالهم، فأخرج لهم خاتم الأمان مع الأمير شمس الدين قيران الظاهري والشيخ السبتي، فدخلوا والشيخ راكب حماره بين أيديهم، وحضروا عند الشرابي معتذرين، فقبل عذرهم، وكانت مدة مقامهم بظهر السور سبعة أيام).

فقضية الجند وقلّة معايشهم وطالباتهم لم تكن في أيام الوزير ابن العلقمي بل قبل وزارته، ولا شأن له فيها البتة كما ذكرنا آنفاً.

وأما عزو التحريض على قتل العلماء والفقهاء إلى ابن العلقمي فهو تهمة باطلة أيضاً، وأذكر لتفنيدها ما ذكره ابن الفوطي في ترجمة القاضي فخر الدين أبي بكر عبد الله بن عبد الجليل الطهراني قال: (وهو ممن كان يخرج الفقهاء إلى باب السور إلى مخيم السلطان هولاكو مع شهاب الدين الزنجاني ليقتلوا وتوفي في رجب سنة سبع وستين وستمائة ودفن بالخيزارانية.

وجاء في كتاب الإجازات من بحار الأنوار نقلاً من خط الشيخ محمد بن علي الجبعي (مات الوزير السعيد العالم مؤيد الدين أبو طالب محمد بن أحمد العلقمي سنة ست وخمسين وستمائة، استوزره المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين وكان قبله أستاذ الدار في عهد المستنصر ثم استوزره السلطان هولاكو مزيل الدولة العباسية فلم تطل مدته حتى توفي إلى رحمة الله عام الواقعة سنة ست وخمسين وستمائة ثاني جمادى الآخرة، وكان رحمه الله إمامي المذهب. صحيح الاعتقاد، رفيع الهمة محباً للعلماء والزهاد كثير المبار ولأجله صنف عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد شرح النهج في عشرين مجلداً والسبع العلويات وغيرها.

وقال الخونساري في ترجمة نصير الدين الطوسي: (ولما كان مؤيد الدين العلقمي الذي هو من أكابر الشيعة في ذلك الزمان وزير المستعصم الخليفة العباسي في بغدا أراد المحقق (الطوسي) دخول بغداد ومعارضته بما اختلج بخاطره من ترويج المذهب الحق بمعاونة الوزير المذكور وانشأ قصيدة عربية في مدح المستعصم الخليفة، وكتب كتاباً إلى العلقمي الوزير ليعرض القصيدة على الخليفة، ولما علم ابن العلقمي فضله ونبله ورشده خاف من قربه للخليفة أن تسقط منزلته عند المستعصم فكتب سراً إلى المحتشم (الرئيس ناصر الدين الإسماعيلي) (حاكم قوهستان): إن نصير الدين الطوسي قد ابتدأ بإرسال المراسلات والمكاتبات عند الخليفة في مدحه وأرسلها حتى أعرضها عليه، وأراد الخروج من عندك وهذا لا يوافق الرأي فلا تغفل عن هذا. فلما قرأ المحتشم كتابه حبس المحقق (الطوسي) وهذا ضد ما ذكره ابن الطقطقي من أن نصير الدين الطوسي هو الذي ثبت فضل مؤيد الدين ابن العلقمي وكفايته عند السلطان هولاكو، وهو يشبه الأخبار العامية التي لا تستند إلى وثيقة ولا إلى حقيقة. لأن التصديق به يوجب أن يكون نصير الدين الطوسي عدواً للوزير مؤيد الدين العلقمي فهو الذي منعه على زعمه من الاتصال بالخليفة المستعصم بالله ووشى به إلى حاكم قوهستان حتى حبسه فكيف يتركه سالماً ويرى استيزاره عند فتح بغداد وهو يجري يومئذ من بطانته مجرى الوزير؟

وقال مؤلف الحوادث في أخبار سنة 656: (وأما السلطان هولاكو فإنه وصل إلى ظاهر بغداد في ثاني عشر المحرم في جيش لا يحصى عدده ولا ينفد مدده وقد أغلقت أبواب السور، فعرف بذلك ضعفهم عن لقائه، فأمر بحفر خندق فحفر وبُني بترابه سور محيط ببغداد وعمل له أبواب ورتب عليها أمراء المغول وشرعوا في عمل ستائر للمناجيق، ونصبوا المناجيق والعرادات واستظهروا غاية الاستظهار والناس يشاهدون ذلك من وراء السور وقد نصبوا أيضاً عليه المناجيق إلا أنها لم تصح ولا حصل بها انتفاع ثم إن السلطان أمر بعقد جسر تحت بغداد ليمنع من ينحدر إلى واسط فعقد تحت قرية العقاب ولم يعلم أهل بغداد به فكانت السفن تصل إليه فيؤخذ من بها ويقتل، فقتل عنده خلق كثير. فلما كان اليوم الرابع عشر من المحرم خرج الوزير مؤيد الدين بن العلقمي إلى خدمة السلطان في جماعة من مماليكه وأتباعه، وكانوا ينهون الناس عن الرمي بالنشاب ويقولون: سوف يقع الصلح إن شاء الله فلا تحاربوا. هذا وعساكر المغول يبالغون في الرمي وقد اجتمع منهم خلق كثير على برج العجمي الذي عن يمين باب سور الحلبة ونصبوا عليه المناجيق وواصلوا الرمي بالحجارة فهدموه وصعدوا على السور في اليوم الحادي والعشرين من المحرم وتمكنوا من البلد وأمسكوا عن الرمي، وعاد الوزير إلى بغداد يوم الأحد سابع عشري المحرم وقال للخليفة: قد تقدم السلطان أن تخرج إليه. فأخرج ولده الأوسط وهو أبو الفضل عبد الرحمن في الحال، فلم يقع الاقتناع به، فخرج الخليفة والوزير في يوم الاثنين ثامن عشري المحرم ومعه جمع كثير، فلما صاروا ظاهر السور منعوا أصحابه من الوصول معه وأفردوا له خيمة وأسكن بها. وخرج مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير وشهاب الدين سليمان شاه وسائر الأمراء، في أول صفر وخرج ابن الخليفة الأكبر أبو العباس أحمد يوم الجمعة ثاني صفر ثم دخل الخليفة بغداد يوم الأحد رابع صفر ومعه جماعة من أمراء المغول وخواجة نصير الدين الطوسي وأخرج إليهم من الأموال والجواهر والحلي والزركش والثياب وأواني الذهب والفضة والأعلاق النفيسة جملة عظيمة ثم عاد مع الجماعة إلى ظاهر السور بقية ذلك اليوم فأمر السلطان بقتله فقتل يوم الأربعاء رابع عشر صفر ولم يهرق دمه بل جعل في غراره ورفس حتى مات ودفن وعفي أثر قبره وكان قد بلغ من العمر ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر وكانت مدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياماً، ثم قتل ولده أبو العباس أحمد وكان مولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة وله من الأولاد أبو الفضل محمد ورابعة وهي التي تزوج بها خواجه هارون ابن الصاحب شمس الدين الجويني ومولدها يوم عيد النحر سنة خمس وخمسين و(ستمائة) وأختها ست الملوك، ثم قتل ابن الخليفة الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن ومولده سنة ثلاث وثلاثين (وستمائة) وله من الأولاد أبو القاسم محمد وبنت واحدة. وأما ولد الخليفة الأصغر مبارك وأخواته فاطمة وخديجة ومريم فإنهم لم يقتلوا بل أسروا، ثم عين على بعض الأمراء، فدخل بغداد ومعه جماعة ونائب أستاذ الدار ابن الجوزي وجاؤوا إلى أعمام الخليفة وأنسابه الذين كانوا في دار الصخر ودار الشجرة، وكانوا يطلبون واحداً بعد واحد فيخرج بأولاده وجواريه فيحمل إلى مقبرة الخلال التي تجاه المنظرة فيقتل، فقتلوا جميعاً عن آخرهم ثم قتل مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير وأمير الحاج فلك الدين محمد بن علاء الدين الطبرس الدويدار الكبير وشهاب الدين سليمان شاه بن برجم وفلك الدين محمد بن قيران الظاهري وقطب الدين سنجر البكلكي الذي كان شحنة بغداد وحج بالناس عدة سنين وعز الدين ألب قرا شحنة بغداد أيضاً ومحيي الدين (يوسف) ابن الجوزي أستاذ الدار وولده جمال الدين عبد الرحمن وأخوه شرف الدين عبد الله وأخوه تاج الدين عبد الكريم وشيخ الشيوخ صدر الدين علي بن النيار وشرف الدين بن عبد الله ابن أخيه، وبهاء الدين داود ابن المختار والنقيب الطاهر شمس الدين علي بن المختار وشرف الدين محمد بن طاوس وتقي الدين بن عبد الرحمن بن الطبال وكيل الخليفة، وأمر بحمل رأس الدويدار (الصغير) وابن الدويدار الكبير وسليمان شاه إلى الموصل فحملت، وعلقت ظاهر سور البلد، ووضع السيف في أهل بغداد يوم الاثنين خامس صفر وما زالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب الناس بأنواع العذاب واستخراج الأموال منهم بأليم العقاب مدة أربعين يوماً فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال فلم يبق من أهل البلد ومن التجأ إليهم من أهل السواد إلا القليل، ما عدا النصارى فإنهم عين لهم شحاني حرسوا بيوتهم والتجأ إليهم خلق كثير من المسلمين فسلموا عندهم، وكان ببغداد جماعة من التجار الذين يسافرون إلى خراسان وغيرها قد تعلقوا من قبل على أمراء المغول وكُتب لهم فرامين فلما فتحت بغداد خرجوا إلى الأمراء وعادوا ومعهم من يحرس بيوتهم، والتجأ أيضاً إليهم جماعة من جيرانهم فسلموا وكذلك دار الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فإنه سلم بها خلق كثير ودار صاحب الديوان (فخر الدين ابن أحمد) ابن الدامغاني ودار حاجب الباب (تاج الدين علي) ابن الدَّوامي، وما عدا هذه الأماكن فإنه لم يسلم فيه أحد إلا من كان في الآبار والقنوات وأحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد، وكانت القتلى في الدروب والأسواق كالتلول، ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول فاستحالت صورهم وصاروا عبرة لمن يرى ثم نودي بالأمان فخرج من تخلف وقد تغيرت ألوانهم وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يعبر عنها بلسان وهم كالموتى إذا خرجوا من القبور يوم النشور من الخوف والجوع والبرد... وقيل إن عدد القتلى ببغداد زادت عن ثمانمائة ألف نفس عدا من ألقي من الأطفال في الوحول ومن هلك في القنى والآبار وسراديب الموتى جوعا وخوفاً ووقع الوباء فيمن تخلف بعد القتل من شم روائح وشرب الماء الممتزج في الجيف وكان الناس يكثرون من شم البصل لقوة الجيفة وكثرة الذباب فإنه ملأ الفضاء وكان يسقط على المطعومات فيفسدها وكان أهل الحلة والكوفة والمسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة والصفر المطعم من الأثاث بأوهى قيمة فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير منهم. ورحل السلطان (هولاكو) من بغداد في جمادى الأولى عائداً إلى بلاده ومقر ملكه وفوَّض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر وجعله شحنة بها وإلى الوزير ونجم الدين أحمد بن عمران وهو من أهل باجسرا، كان يخدم في زمن الخليفة عاملاً فاتصل الآن ببعض الأمراء وحضر بين يدي السلطان وأنهى إليه من حال العراق ما أوجب تقديمه وتشريفه وتعيينه في الأعمال الشرقية وهي الخالص وطريق خراسان والبندتيجي وأن يتفق مع الوزير وصاحب الديوان في الحكم ولقب (الملك) ونجم الدين عبد الغني ابن الدرنوس وشرف الدين العلوي المعروف بالطويل. وكان تاج الدين علي ابن الدوامي حاجب الباب قد خرج مع الوزير (ابن العلقمي) إلى حضرة السلطان فأمر له أن يكون صدر الأعمال الفراتية فلم تطل مدته وتوفي ربيع الأول فجعل ولده مجد الدين حسين عوضه أو حضر أقضى القضاة نظام الدين عبد المنعم البندنيجي بين يدي السلطان فأمر بأن يقرّ على القضاء، فلما عاد الوزير وجماعة من خدمة السلطان قرروا حال البلاد ومهدوا قواعدها وعينوا بها الصدور والنظار والنواب فعينوا سراج الدين بن البجلي في الأعمال الواسطية والبصرية ونجم الدين بن المعين صدر الأعمال الحلية والكوفية وفخر الدين المبارك ابن المخرمي صدر دجيل والمستنصري وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد كاتب السلة فلم تطل أيامه فرتب عوضه ابن الجمل النصراني، وعز الدين ابن الموسوي نائب الشرطة والشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش إمام مسجد قمرية خازن الديوان: ورتبوا في جميع الأعمال نواباً وشرعوا في عمارتها فتوفي الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في مستهل جمادى الآخرة ودفن في مشهد موسى بن جعفر – عليه السلام – فأمر السلطان أن يكون ابنه عز الدين أبو الفضل وزيراً بعده، ووصل الأمير قرابغا بعد ذلك إلى بغداد وعين عماد الدين عمر بن محمد القزويني نائباً عنه فكان يحضر الديوان مع الجماعة وكان ذا دين ومروءة وعين علي شهاب الدين (علي) بن عبد الله صدراً في الوقوف وتقدم إليه بعمارة جامع الخليفة وكان قد أحرق كما ذكرنا ثم فتح المدارس والربط، وأثبت الفقهاء والصوفية وأدر عليهم الأخبار والمشاهرات وسلمت مفاتيح دار الخلافة إلى مجد الدين محمد بن الأثير وجعل أمر الفراشين والبوابين إليه، وتقدم للجاثليق بسكنى دار علاء الدين الطبرس الدويدار الكبير التي على شاطئ دجلة فسكنها، ودق الناقوس على أعلاه واستولى على دار الفلك التي كانت رباطاً للنساء تجاه هذه الدار المذكورة وعلى الرباط البشيري المجاور لها وهدم الكتابة التي كانت على البابين وكتب عوضها بالسرياني.

ومما نقلنا من الأخبار يظهر للقارئ أن الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي لم يكن السالم من القتل وحده حتى يتهم بالخيانة ذلك الاتهام الباطل، وإنما سلم معه ونال مرتبة في الدولة المغولية (فخر الدين أحمد ابن الدامغاني) الحنفي الذي كان صاحب الديوان في آخر أيام المستعصم، وتاج الدين علي ابن الدوامي الذي كان حاجب باب النوبي للمستعصم بالله ونجم الدين أحمد بن عمران الباجسري أحد عمال الخليفة والغالب على أهل باجسري الحنبلية وأقضى القضاة عبد المنعم البندنيجي الشافعي وسراج الدين ابن البجلي الشافعي وفخر الدين المبارك ابن المخرمي الحنبلي، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي، والشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش الحنبلي المقرئ المشهور وظهر أيضاً أن جماعة من أعيان الشيعة الكبار والسادة منهم قُتلوا فقد ذكر المؤرخ منهم بهاء الدين داود بن المختار العلوي والنقيب الطاهر شمس الدين علي بن المختار وشرف الدين محمد بن طاوس.

وقال ابن العبري في حوادث سنة 655: (وفيها في شهر شوال رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد، وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة قد سير رسولاً إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة، فأراد أن يُسيّر ولم يقدر ولم يمكنه الوزراء والأمراء وقالوا: إن هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجاً إلى نجدتنا وإنما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة، فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. ولما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة، فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه. فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه. وعندما أخذوا في تجهيز ما يسيرونه من الجوهر والمرصعات والثياب والذهب والفضة والمماليك والجواري والخيل والبغال والجمال قال الدويدار الصغير وأصحابه: إن الوزير إنما يدبر شأن نفسه مع التتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا تمكنه من ذلك. فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة واقتصر على شيء نزر لا قدر له، فغضب هولاكو وقال: لا بد من مجيئه هو بنفسه أو يسير أحد ثلاثة نفر: إما الوزير وإما الدويدار وإما سليمان شاه. فتقدم الخليفة إليهم بالمضي فلم يركنوا إلى قوله، فسير غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محيي الدين فلم يجديا عنه. وأمر هولاكو بايجونوين وسونجاق أنوين ليتوجها في مقدمته على طريق إربل وتوجه هو على طريق حلوان.

وخرج الدويدار (الصغير) ونزل بجانب باعقوبا ولما بلغه أن بايجونوين عبر دجلة ونزل بالجانب الغربي ظن أن هولاكو قد نزل هناك، فرحل عن باعقوبا ونزل بحيال بايجو ولقي يزك[1] المغول أميراً من أمراء الخليفة يقال له أيبك الحلبي فحملوه إلى هولاكو فأمنه إن تكلم بالصحيح وطيب قلبه فصار يسير أمام العسكر ويهديهم وكتب كتاباً إلى بعض أصحابه يقول لهم: ارحموا أرواحكم وأطلبوا الأمان لأن لا طاقة لكم بهذه الجيوش الكثيفة. فأجابوه بكتاب يقولون فيه: من يكون هولاكو؟ وما قدرته ببيت عباس؟ مَن الله ملكهم ولا يُفلح من عاندهم ولو أراد هولاكو الصلح لما داس أرض الخليفة ولما أفسد فيها والآن إن كان يختار المصالحة فليعد إلى همذان ونحن نتوسل بالدويدار ليخضع لأمير المؤمنين متخشعاً في هذا الأمر لعله يعفو عن هفوة هولاكو. فلما عرض أيبك الكتاب على هولاكو ضحك واستدل به على غباوتهم. ثم سمع الدويدار أن التتار قد توجهوا نحو الأنبار فسار إليهم ولقي عسكر سونجاق نوين وكسرهم وهزمهم وفي هزيمتهم التقاهم بايجونوين فردهم وهجموا جمعياً على عسكر الدويدار فاقتتلوا قتالاً شديداً وانجلت الحرب عن كسر الدويدار فقتل أكثر عسكره ونجا هو في نفر قليل من أصحابه ودخل بغداد. وفي منتصف شهر المحرم من سنة ست وخمسين وستمائة نزل هولاكو بنفسه على باب بغداد وفي يوم وليلة بنى المغول بالجانب الشرقي سيبا أعني سوراً عالياً وبنى بوقا تيمور، وسونجاق نوين، وبايجونوين بالجانب الغربي كذلك وحفروا خندقاً عميقاً داخل السيبا ونصبوا المنجنيقات بإزاء سور بغداد من جميع الجوانب ورتبوا العرادات وآلات النفط وكان بدء القتال ثاني وعشرين محرم (كذا) فلما عاين الخليفة العجز في نفسه والخذلان من أصحابه أرسل صاحب ديوان (فخر الدين أحمد ابن الدامغاني) و(عبد الغني) ابن الدرنوش إلى خدمة هولاكو ومعهم تحف نزرة وقالوا: إن سيرنا الكثير يقول: قد هلعوا وخرعوا كثيراً. فقال هولاكو: لم؟ ما جاء الدويدار سليمان شاه؟ فسير الخليفة الوزير (مؤيد الدين) ابن العلقمي وقال: أنت أحد الثلاثة وها أنا قد سيّرت، إليك الوزير وهو أكبرهم. فأجاب هولاكو: إنني لما كنت مقيماً بنواحي همذان طلبت أحد الثلاثة والآن لم أقنع بواحد. وجدّ المغول بالقتال بإزاء برج العجمي وبوقا تيمور من الجانب الغربي حيث المبقلة وسونجاق نوين وبايجونوين من جانب البيمارستان العضدي وأمر هولاكو البثيكتجية ليكتبوا على السهام بالعربية: إن الأركاونية[2] والعلويين والدادنشمندية وبالجملة من ليس يقاتل فهو آمن على نفسه وحريمه وأمواله. وكانوا يرمونها إلى المدينة واشتد القتال على بغداد من جميع الجوانب إلى اليوم السادس والعشرين من محرم، ثم ملك المغول الأسوار وكان الابتداء من برج العظمي واحتفظ المغول الشط ليلاً ونهاراً مستيقظين لئلا ينحدر فيه أحد. وأمر هولاكو أن يخرج إليه الدويدار وسليمان شاه وأما الخليفة إن اختار الخروج فليخرج وإلا فليلزم مكانه. فخرج الدويدار وسليمان شاه ومعهما جماعة من الأكابر ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة أنه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والأزقة لئلا يقتلوا أحداً من المغول فرجع وخرج من الغد وقتل، وعامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب الدين (محموداً) الزنكاني ليأخذ لهم الأمان. ولما رأى الخليفة أن لا بد من الخروج أراد أو لم يرد أستأذن هولاكو بأن يحضر بين يديه، فأذن له وخرج رابع صفر ومعه أولاده وأهله، فتقدم هولاكو أن ينزلوه بباب كلواذا، وشرع العساكر في نهب بغداد ودخل (هولاكو) بنفسه إلى بغداد ليشاهد دار الخليفة وتقدم بإحضار الخليفة فأحضروه ومثل بين يديه وقدّم جواهر نفيسة ولآلئ ودرراً معباة في أطباق ففرّق هولاكو جميعاً على الأمراء وعند المساء خرج إلى منزله وأمر الخليفة أن يفرز جميع النساء التي باشرهن هو وبنوه ويعزلهن عن غيرهن ففعل، فكن سبعمائة امرأة فأخرجهن ومعهن ثلاثمائة خادم خصي[3]، وبقي النهب يعمل إلى سبعة أيام ثم رفعوا السيف وبطلوا السبي. وفي رابع عشر صفر رحل هولاكو من بغداد وفي أول مرحلة قتل الخليفة المستعصم وابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان بالليل وقتل ابنه الأكبر ومعه جماعة من الخواص على باب كلواذا، وفوَّض عمارة بغداد إلى صاحب الديوان (فخر الدين بن الدامغاني) والوزير (مؤيد الدين بن العلقمي) و(عبد الغني) ابن الدرنوش. وأرسل بوقا تيمور إلى الحلة ليمتحن أهلها هل هم على الطاعة أم لا؟ فتوجه نحوها ورحل عنها إلى مدينة واسط وقتل بها خلقاً كثيراً أسبوعاً ثم عاد إلى هولاكو وهو مقام سياه كوه... ولما ملك هولاكو (بن تولي خان) بغداد ورتب بها الشحاني والولاة أنفذ بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إليه ابنه الملك الصالح إسماعيل ومعه جماعة من عسكره نجدة له فأظهر له هولاكو عبسة وقال: أنتم بعد في شك من أمرنا ومطلتم نفوسكم يوماً بعد يوم وقدمتم رجلاً وأخرتم أخرى لتنظروا من الظافر بصاحبه فلو انتصر الخليفة وخذلنا لكان مجيئكم إليه لا ألينا، قل لأبيك: لقد عجبنا منك تعجباً كيف ذهب عليك الصواب وعدل بك ذهنك عن سواء السبيل واتخذت اليقين ظناً وقد لاح لك الصبح فلم تستصبح. فلما عاد الصالح إلى الموصل وبلغ أباه ما حمل من الرسالة الزاجرة أيقن بدر الدين أن المنايا قد كشرت عن أنيابها وذلت نفسه وهلع هلعاً شديداً وكاد يخسف بدره ويكسف نوره فانتبه من غفلته وأخرج جميع ما في خزائنه من الأموال واللألئ والجواهر والمحرمات من الثياب وصادر ذوي الثروة من رعاياه وأخذ حتى حلي حظاياه والدرر من حلق أولاده وسار إلى طاعة هولاكو بجبال همذان فأحسن هولاكو قبوله واحترمه لكبر سنه ورق له وجبر قلبه بالمواعيد الجميلة.

وكان هذا المؤرخ قد قال من قبل في ذكر الخليفة المستعصم بالله، (وكان إذا نُبه على ما ينبغي أن يفعله في أمر التتار إما المداراة والدخول في طاعتهم وتوخي مرضاتهم أو تجييش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق فكان يقول: أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد ولا أيضاً يهجمون علي وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب فأصيب بمكاره لم تخطر بباله).

وقال رشيد الدين فضل الله الهمذاني المؤرخ في تاريخه جامع التواريخ

ونحن ننقل من الترجمة العربية التي ترجمها ثلاثة من المصريين وراجع الترجمة يحيى الخشاب، قال تحت عنوان (ظهور الفتنة ووقوع الخلاف بين الدواتدار (مجاهد الدين أيبك) والوزير (مؤيد الدين العلقمي) وابتداء نكبة الخليفة (المستعصم بالله).

(في آخر صيف سنة أربع وخمسين حدث غرق[4] عظيم أغرق مدينة بغداد لدرجة أن الطبقة العليا من المنازل هناك غرقت في الماء واختفت تماماً وقد استمر انهمار السيل[5] في تلك الديار خمسين يوماً ثم بدأ في النقصان وكان من نتيجة ذلك أن بقيت نصف أراضي العراق خراباً يباباً ولا يزال أهالي بغداد حتى اليوم يذكرون الغرق المستعصمي).

(وخلال تلك الواقعة امتدت أيدي جماعة من الشطار[6] والمشاغبين والرعاع والعيارين بالسلب والاعتداء وكانوا في كل يوم يغتصبون بعض الأشخاص[7] الأبرياء، وكان مجاهد الدين الدواتدار يحتضن بنفسه هؤلاء الرعاع والسفلة فصار في مدة وجيزة صاحب شوكة وبأس. ولما لمس في نفسه القوة ورأى الخليفة المستعصم عاجزاً لا رأي له ولا تدبير وساذجاً اتفق مع طائفة من الأعيان على خلعه وتولية خليفة آخر من العباسيين في مكانه. وعندما علم مؤيد الدين بن العلقمي نبأ تلك المؤامرة أخبر الخليفة على انفراد قائلاً: يجب تدارك أمرهم. فاستدعى الخليفة الدواتدار على الفور وأطلعه على ما قاله الوزير في شأنه ثم قال له: لما كنت أعتمد عليك وأثق بك فإني لم أصغ إلى كلام الوزير وهو يغمزك وإني لأبلغك بأنه لا يجوز أن تخدع بأية ولا تحيد عن جادة الصواب. فلما أحس الدواتدار من الخليفة الشفقة والعطف أجاب (قائلاً): إن ثبت عليَّ جرم فهذا رأسي وهذا هو السيف ومع هذا فأين يذهب عفو الخليفة وصفحه وغفرانه؟ أما هذا الوزير المزوّر المخادع فقد حمله الشيطان بعيداً عن الطريق المستقيم واختمرت في ذهنه المظلم فكرة الولاء والميل إلى هولاكو خان وجيش المغول وإن سعايته في حقي لمن أجل دفع هذه التهمة عن نفسه وإنه عدو الخليفة فهو يتبادل مع هولاكو خان الجواسيس. فاستماله الخليفة وقال له: منذ هذه اللحظة كن يقظاً وعاقلاً. بعد ذلك خرج مجاهد الدين من حضرة الخليفة وعلى سبيل المكابرة وعدم المبالاة وأصرَّ على مهاجمته فجمع حوله شطار بغداد وأوباشها وكانوا يلازمونه ليل نهار فخشي الخليفة مغبة الحال وجمع جيشاً لدفع هذا الخطر. ثم زادت الفتنة والاضطراب في بغداد وكان الأهالي هناك قد ملوا العباسيين وكرهوا حكمهم. ولما عرفوا أن دولتهم قد آذنت بالمغيب ظهرت الأهواء المختلفة بينهم، فخاف الخليفة مغبة الأمر وعهد إلى فخر الدين ابن الدامغاني صاحب الديوان بإخماد تلك الفتنة وكتب كتاباً بخطه مؤداه: أن ما قيل في حق الدواتدار إنما هو محض افتراء وبهتان ونحن نعتمد عليه اعتماداً كلياً وهو في أماننا. وعندما أرسلت تلك الرسالة على يد ابن درنوش إلى الدواتدار حضر ومثل بحضرة الخليفة فاستماله هذا وعاد معززاً مكرّماً. ثم نودي في المدينة بأن ما قيل في حق الدواتدار إنما هو كذب، وصار اسم الدواتدار يذكر في الخبطة بعد اسم الخليفة وبهذا خمدت الفتنة في يسر).

وقال هذا المؤرخ تحت عنوان (توجه هولاكو إلى بغداد وتردد الرسل بينه وبين الخليفة وعاقبة تلك الحال) قال: (بلغ هولاكو الدينور في التاسع من ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وستمائة قاصداً بغداد ثم قفل راجعاً ومضى إلى همذان في الثاني عشر من شهر رجب من تلك السنة. وفي العاشر من رمضان أرسل إلى الخليفة (المستعصم بالله) رسولاً يتهدده ويتوعده قائلاً: لقد أرسلنا إليك رسلنا وقت فتح قلاع الملاحدة وطلبنا مدداً من الجند ولكنك أظهرت الطاعة ولم تبعث الجند، وكانت آية الطاعة والاتحاد أن تمدنا بالجيش عند مسيرنا إلى الطغاة. فلم ترسل إلينا الجند والتمست العذر ومهما تكن أسرتك عريقة وبيتك ذا مجد تليد (فإن لمعان القمر قد يبلغ درجة يخفي معها نور الشمس الساطعة) ولا بد أنه قد بلغ سمعك على لسان الخاص والعام ما حل بالعالم والعالمين على يد الجيش المغولي منذ عهد جنكيز خان إلى اليوم والذل الذي حاق بأسر الخورازمية والسلجوقية وملوك الديالمة والأتابكة وغيرهم ممن كانوا ذوي عظمة وشوكة وذلك بحول الله القديم الدائم، ولم يكن باب بغداد مغلقاً في وجه أية طائفة من تلك الطوائف واتخذوا منها قاعدة ملك لهم فكيف تغلق في وجهنا برغم ما لنا من قدرة وسلطان، ولقد نصحناك من قبل، والآن نقول لك: أحذر الحقد والخصام ولا تضرب المخصف بقبضة يدك ولا تلطخ الشمس بالوحل فتتعب. ومع هذا فقد مضى ما مضى فإذا أطاع الخليفة فليهدم الحصون ويردم الخنادق ويسلم البلاد لابنه ويحضر لمقابلتنا وإن لم يرد الحضور فليرسل كلاً من الوزير (مؤيد الدين) وسليمان شاه والدواتدار ليبلغوه رسالتنا دون زيادة أو نقص فإذا استجاب لأمرنا فلن يكون من واجبنا أن نكن له الحقد، وسنبقي له على دولته وجيشه ورعيته أما إذا لم يصغ إلى النصح وآثر الخلاف والجدال فليعبئ الجند وليعين ساحة القتال فإننا متأهبون لمحاربته وواقفون له على استعداد، وحينما أقود الجيش إلى بغداد مندفعاً بسورة الغضب (فإنك لو كنت مختفياً في السماء أو في الأرض فسوف أنزلك من الفلك الدوار وسألقيك من عليائك إلى أسفل كالأسد ولن أدع حياً في مملكتك وسأجعل مدينتك وإقليمك وأراضيك طعمة النار.

فإذا أردت أن تحفظ رأسك وأسرتك فاستمع لنصحي بمسمع العقل والذكاء وإلا فسأرى كيف تكون إرادة الله. وبعدما بلغ الرسل بغداد وبلغوا الرسالة أوفد الخليفة شرف الدين بن الجوزي وكان رجلاً فصيحاً ومعه بدر الدين محمود وزنكي النخجواني بصحبته الرسل وأجاب قائلاً: أيها الشاب الحدث المتمني قصر العمر ومن ظن نفسه محيطاً ومتغلباً على جميع العالم مغتراً بيومين من الإقبال متوهماً أن أمره قضاء مبرم، وأمر محكم، لماذا تطلب مني شيئاً لم تجده عندي (كيف يمكن أن تتحكم في النجم وتقيده بالرأي والجيش والسلام) ألا ليعلم الأمير أنه من الشرق إلى الغرب، ومن الملوك إلى الشحاذين ومن الشيوخ إلى الشباب ممن يؤمنون بالله ويعملون بالدين، كلهم عبيد هذا البلاط وجنود لي، إنني حينما أشير بجمع الشتات سأبدأ بحسم الأمور في إيران ثم أتوجه منها إلى بلاد توران وأضع كل شخص في موضعه وعندئذ سصير وجه الأرض جميعه مملوءاً بالقلق والاضطراب غير أني لا أريد الحقد والخصام ولا أن أشتري ضرر الناس وإيذاءهم كما أنني لا أبغي من وراء تردد الجيوش أن تلهج ألسنة الرعية بالمدح أو القدح، خصوصاً أنني مع الخاقان وهولاكو خان قلب واحد ولسان واحد، وإن كانت مثلي تزرع بذور المحبة فما شأنك بخنادق رعيتي وحصونهم، فاسلك طريق الود وعد إلى خراسان وإن كنت تريد الحرب والقتال (فلا تتوان لحظة ولا تعتذر إذا استقر رأيك على الحرب، إن لي ألوفاً مؤلفة من الفرسان والرجالة وهم متأهبون للقتال) وإنهم ليثيرون الغبار من ماء البحر وقت الحرب والطعان).

(وعلى هذا النحو بلغ الرسالة وصرف الرسل مع بعض التحف والهدايا، وحينما خرج الرسل من المدينة (بغداد ) وجدوا الصحراء كلها ممتلئة بالرعاع فأطلقوا ألسنتهم بسب هؤلاء الرسل وبادروهم بالسفاهة وأخذوا يمزقون ثيابهم ويبصقون في وجوههم لعلهم يقولون شيئاً يتخذونه ذريعة لإيذائهم والاعتداء عليهم. فلما علم الوزير (ابن العلقمي) بذلك أرسل على الفور بعض الغلمان فأبعدوهم. وعندما وصل الرسل إلى حضرة هولاكو خان وعرضوا عليه كل ما شاهدوه غضب وقال: إن الخليفة ليست لديه كافية قط، إذ أنه معنا كالقوس العوجاء فلو أمدني الله الأزلي بعونه فسوف أجعله مستقيماً كالسهم. ثم دخل رسل الخليفة وهم ابن الجوزي وبدر الدين وزنكي وبلغو الرسالة، فغضب هولاكو خان من عبارة الخليفة غير اللائقة وقال: إن إرادة الله مع هؤلاء القوم أمر آخر إذ ألقي في روعهم مثل هذه الأوهام).

(وفي شهر... من سنة الستين لوتيل الموافقة لسنة 655 أذن هولاكو لرسل الخليفة في الانصراف من موضع (بنج انكشت) على حدود همذان التي كانت معسكراً له وأرسل يقول: إن الله الأزلي رفع جنكيز خان ومنحنا وجه الأرض كله من الشرق إلى الغرب، فكل من سار معنا وأطاعنا واستقام قلبه ولسانه تبقى له أمواله ونساؤه وأبناؤه، ومن يفكر في الخلاف والشقاق لا يستمتع بشيء من ذلك، ثم عاتب الخليفة (مراسلته) بشدة قائلاً: لقد فتنك حب الجاه والمال والعجب والغرور بالدولة الفانية بحيث لم يعد يؤثر فيك الناصحين بالخير وإن في أذنيك وقراً فلا تسمع نصح المشفقين ولقد انحرفت عن طريق آبائك وأجدادك، وإذن فعليك أن تكون مستعداً للحرب والقتال فإني متوجه إلى بغداد بجيش كالنمل والجراد ولو جرى سير الفلك على شاكلة أخرى فتلك مشيئة الله العظيم.

(وبعد أن وصل رسل بغداد بلغوا رسالة ذلك الملك الفاتح إلى الوزير (ابن العلقمي) فعرضها برمتها على الخليفة وقال: ماذا ترى لدفع هذا الخصم القاهر القادر؟ فأجاب الوزير (قائلاً): ينبغي أن ندفعه ببذل الأموال لأن الخزائن والدفائن تجمع لوقاية عزة العرض وسلامة النفس. فيجب إعداد ألف حمل من نفائس الأموال، وألفاً من نجائب الإبل، وألفاً من الجياد العربية المجهزة بالآلات والمعدات وينبغي إرسال التحف والهدايا في صحبة الرسل الكفاة الدهاة مع تقديم الاعتذار إلى هولاكو وجعل الخطبة والسكة باسمه. فأعجب الخليفة برأي الوزير وأمر بإنجاز ذلك، ولكن مجاهد الدين أيبك المعروف بالدواتدار الصغير، بسبب الوحشة التي بينه وبين الوزير – أرسل إلى الخليفة رسالة بالاتفاق مع الأمراء الآخرين وشطار بغداد يقولون: إن الوزير دبَّر هذه الحيلة لمصلحته الخاصة لكي يتقرب زلفى إلى هولاكو ويلقي بنا – نحن الجنود – في البلاء والمحنة، ولكننا سوف نرقب مفارق الطرق ونلقي القبض على الرسل ونأخذ ما معهم من أموال وندعهم في العذاب والعناء. فعدل الخليفة بسبب هذا الكلام عن إرسال الأحمال، وبدافع من التهور والغرور أرسل إلى الوزير من يقوله له: لا تخش القضاء المقبل، ولا تقل خرافة فإن بيني وبين هولاكو خان وأخيه منكوقاآن صداقة وألفة لا عداوة وقطيعة وحيث إنني صديق لهما فلا بد أنهما يكونان صديقين وموالين لي وإن رسالة الرسل غير صحيحة. أما إذا أضمر الأخوان لي خلافاً وغدراً فلا ضير على الأسرة العباسية، إذ أن ملوك الأرض هم بمثابة الجنود لي، وهم منقادون ومطيعون لأمري ونهيي فأدعوهم من كل قطر وأسير لدفعهما وأثير إيران وتوران عليهما، فقوّ قلبك ولا تخافن تهديد المغول ووعيدهم، فإنهم برغم كونهم أرباب دولة وأصحاب شوكة لا يملكون سوى الهوس في رؤوسهم والريح في أكفهم. فاضطرب الوزير لهذا الكلام وأيقن أن دولة العباسيين سوف تزول، وإذ كان أدبار هذه الدولة سيكون في عهده فإنه طفق يتلوى كالثعبان ويفكر في كل تدبير، وقد اجتمع عند الوزير أمراء بغداد وعظماؤها مثل سليمان شاه بن برجم وفتح الدين بن كره ومجاهد الدين الدواتدار الصغير وأطلقوا ألسنتهم بقدح الخليفة وطعنه قائلين: إنه صديق المطربين والمساخر وعدو الجيوش والجنود وإننا أمراء الجيش بعنا كل ما أدخرناه في عهد والده (المستنصر). وقال سليمان شاه: إذا لم يقدم الخليفة على دفع هذا الخصم القوي ولم يبادر إلى طلب العون والمساعدة فسيتغلب جيش المغول عن قريب على بغداد، وحينئذ لا يرحم المغول أي مخلوق، كما فعلوا بسائر البلاد والعباد، فلا يبقون على أي شخص من الحضر كان أو من البدو، قوياً كان أو ضعيفاً، وسيخرجون ربات الخدور من ستر العصمة، ولو أن المغول لم يحدقوا بجميع الجهات لكان من السهل حشد الجنود من الأطراف ولحملت عليهم بجيش في غارة ليلية وشتت شملهم، ولو جرت الأمور على خلاف ذلك فأولى بالفتى أن يقتل في حومة الوغى في عزة وشرف، وعندما بلغ الخليفة هذا الكلام أعجب به وقال للوزير: إن كلام سليمان شاه له الأثر في النفس المنهكة فاستعرض الجند حسب تقريره لأغنيهم بالدرهم والدينار وسلم أمرهم إلى سليمان شاه ليحقق خطته. على أن الوزير (ابن العلقمي) عرف أن الخليفة لن يمنح مالاً، لكنه لم يبد على الفور رأياً مخالفاً لأعدائه، وأمر العارض أن يعرض الجنود بالتدرج فوجاً فوجاً، ليصل نبأ تعبئة الجنود في حضرة الخليفة إلى البعيد والقريب والترك والعرب فتفتر عزيمة العدو. وبعد خمسة أشهر أبلغ العارض الوزير أن الجند قد صاروا عدداً وفيراً وجيشاً جراراً وأن على الخليفة أن يمنح المال، فعرض الوزير الأمر على المستعصم ولكنه اعتذر فيئس الوزير من مواعيده كلية ورضي بالقضاء ووضع عين الانتظار على نافذة الاصطبار (حتى يكشف الفلك نفسه عما وراء الستار). ولما كان الدواتدار في تلك المدة خصماً للوزير فإن أتباعه من سفلة المدينة وأوباشها كانوا يذيعون بين الناس أن الوزير متفق مع هولاكو خان وأنه يريد نصرته وخذلان الخليفة، فقوي هذا الظن. ثم أرسل الخليفة ثانية هدية صغيرة إلى هولاكو على يد بدر الدين ريكي قاضي بندنيجان وبعث يقول:

لو غاب عن الملك فله أن يسأل المطلعين على الأحوال إذ أن كل ملك حتى هذا العهد قصد أسرة بني العباس ودار السلام بغداد كانت عاقبته وخيمة ومهما قصدهم ذوو السطوة من الملوك وأصحاب الشوكة من السلاطين فإن بناء هذا البيت محكم للغاية وسيبقى إلى يوم القيامة. وفي الأيام السالفة قصد يعقوب بن الليث الصفار الخليفة وتوجه بجيش لجب إلى بغداد فلم يبلغ مأربه إذ مات بعلة الزحار والأمر كذلك مع أخيه عمرو إذ قبض عليه إسماعيل بن أحمد الساماني وكبله وأرسله إلى بغداد لكي يجري عليه الخليفة ما حكم به القضاء وكذلك جاء البساسيري بجيش عظيم من مصر إلى بغدد وقبض على الخليفة وسجنه في الحديثة. وفي بغداد جعل الخطبة والسكة مدة عامين باسم المستنصر الذي كان خليفة الإسماعيلية في مصر وفي النهاية علم طغر لبك بذلك فأسرع من خراسان وقصد البساسيري في جيش جرار وقبض عليه وقتله، وأخرج الخليفة من السجن وأعاده إلى بغداد وأجلسه على عرش الخلافة وكذلك قصد السلطان محمد (بن محمود) السلجوقي بغداد فعاد منهزماً وهلك في الطريق، وجاء محمد خوارزم شاه بجيش عظيم قاصداً استئصال الأسرة فابتلي في روابي أسد آباد بالثلج والعواصف بسبب غضب الله عليه، وهلك أكثر جنوده وعاد خائباً خاسراً لاقى ما لاقى من جدك جنكيز خان في جزيرة آبسكون فليس من المصلحة أن يفكر الملك في قصد أسرة العباسيين، فأحذر عين السوء من الزمان الغادر، فاشتد غضب هولاكو بسبب هذا الكلام وأعاد الرسل قائلاً: (أذهب فاصنع من الحديد المدن والأسوار وارفع من الفولاذ الأبراج والهياكل وأجمع جيشاً من المردة والشياطين ثم تقدم نحوي للخصام والنزال فسأنزلك ولو كنت في السماء وسأدفع بك غصباً إلى أفواه السباع).

ثم قال: تحت عنوان (قصة اشتغال هولاكو خان بترتيب الجيش وتجهيزه لفتح بغداد وما حولها) قال: (عندما أعاد هولاكو الرسل كان يفكر في كثرة جند بغداد فاشتغل بإعداد الجيش وتجهيزه وأراد أن يرسل أغلب الجند إلى نواحي بغداد حيث الجبال الشاهقة المنيعة فيستولي عليها، ثم أرسل رسولاً لاستدعاء حسام الدين عكر الذي كان حاكماً على درنتك وما حولها من قبل الخليفة وكان حنقاً عليه، فسلم حسام الدين درنتك دون تردد إلى ابنه الأمير سعد وحضر بنفسه لتقديم الطاعة لهولاكو فشمله بكثير من العطف والرعاية وأذن له في العودة ومنحه حصني وروده والمرج وعدة قلاع أخرى ثم قفل راجعاً فأرسل إلى كل قلعة جيشاً فخضع له أهلها جميعاً وسلموا إليه القلاع. ولما تحققت أمنية حسام الدين التي طالما تمناها وتجمعت عنده جنود سليمان شاه بن برجم تعاظم وتكبر فأرسل إلى تاج الدين ابن الصلايا العلوي زعيم إربل يرجو منه أن يتوسط في الصلح بين الديوان العزيز وبينه وقال: لقد قدّرت هولاكو خان وما عليه من كفاءة وكياسة ومهما يكن له من العنف والتهديد فليس له عندي  قدر ولا وزن. فلو طيب الخليفة خاطري وطمأن قلبي وبعث إلي بجيش من الفرسان لجمعت أنا أيضاً ما يقرب من مائة ألف من فرق المشاة من كرد وتركمان ولسددت الطرق في وجه هولاكو ولا أدع أي مخلوق من جنده يدخل بغداد. فعرف ابن الصلايا الوزير (ابن العلقمي) بذلك. فعرضه هذا بدوره على الخليفة، فلم يبد اهتماماً كثيراً. ولما بلغ هولاكو خان هذا لدفعهم. وعندما اقترب منهم استدعى حسام الدين قائلاً: لقد صممنا على قصد بغداد ونحن في حاجة إلى مشاورتك. فحضر حسام الدين دون تفكر أو تدبير وأوكل به كيتو بوقا وقال: إذا أردت النجاة والبقاء حاكماً على هذه القلاع فأنزل نساءك وأبناءك وأتباعك وجنودك جميعاً من هذه القلاع لكي أحصيهم وأقرر لهم الأموال والمؤن. فلم يجد حسام الدين بداً من الطاعة وأحضرهم جميعاً، فقال كيتو بوقا: إذا كانت ميولك مخلصة للملك فمر بتخريب جميع القلاع ليتحقق هذا المعنى، فأدرك أن كلماته التافهة بلغت مسامعهم، فيئس من حياته الغالية وأرسل من يهدم كل القلاع. ثم قتله المغول مع كافة أتباعه وأشياعه ما عدا أهل القلعة التي كان فيها ابنه الأمير سعد، فقد طلبوا إليه التسليم تخويفاً وإرهاباً فلم يجبهم وقال: إن عهدكم غير صحيح ولا أثق به، ثم ظل يجول مدة خليع العذار في تلك الجبال وأخيراً سار إلى بغداد ولقي من ديوان الخليفة حسن الاستقبال إلى أن قتل في حرب بغداد، وعاد كيتوبوقا مظفراً منصوراً إلى حضرة هولاكو. وكان الخان يتشاور مع أركان الدولة وأعيان الحضرة في أمر تصميمه على الزحف إلى بغداد فكان منهم من يبدي رأيه حسب ما يعتقد، ثم طلب حسام الدين المنجم الذي كان مصاحباً له بأمر القاآن ليختار وقت النزول والركوب وقال له: بين كل ما يبدو لك في النجوم دون مداهنة. ولما كانت له جرأة بسبب تقربه فقد قال بصورة مطلقة: إنه ليس ميموناً قصد أسرة الخلافة والزحف بالجيش إلى بغداد إذ أن كل ملك حتى زماننا هذا قصد بغداد والعباسيين لم يستمتع بالملك والعمر وإذا لم يصغ الملك إلى كلامي وذهب إلى هناك فستظهر ستة أنواع من الفساد أولها أن تنفق الخيول كلها ويمرض الجنود وثانيها أن الشمس لا تطلع وثالثها أن المطر لا ينزل ورابعها تهب ريح صرصر وينهار العالم بالزلزال وخامسها لا ينبت النبات في الأرض وسادسها أن الملك الأعظم يموت في تلك السنة. فطلب منه هولاكو شهادة بصحة هذا الكلام فكتبها المسكين وقال الكهان المغول والأمراء: إن الذهاب إلى بغداد هو عين المصلحة.. وبعد ذلك استدعى هولاكو خان الخواجه نصير الدين الطوسي واستشاره فخاف الخواجه وظن أن الأمر على سبيل الاختبار فقال: لن تقع أية واقعة من هذه الأحداث. فقال هولاكو: إذن ما يكون؟ قال: إن هولاكو سيحل محل الخليفة. ثم أحضر هولاكو حسام الدين ليتباحث مع الخواجة فقال الخواجه: لقد استشهد جمع كثير من الصحابة باتفاق آراء الجمهور وأهل الإسلام ولم يحدث فساد قط ولو قيل إن للعباسيين مكرمة خاصة بهم فإن طاهر بن الحسين جاء من خراسان بأمر المأمون وقتل أخاه محمداً الأمين، وقتل المتوكل ابنه بالاتفاق مع الأمراء، كذلك قتل الأمراء والغلمان المنتصر والمعتز وقتل عدد من الخلفاء على يد جملة أشخاص لم تختل الأمور (فأضاء قلب الملك من قول العالم كأنه زهرة اللعل في الربيع الباكر).

وقال هذا المؤرخ بعد ذلك تحت عنوان (تصميم هولاكو خان وتحركه بعد ذلك إلى بغداد وزحف الجيوش من كل ناحية وصوب إلى مدينة السلام والاستيلاء عليها وانتهاء الدولة العباسية).

(وبعد ذلك عقد هولاكو النية على فتح بغداد فأمر بأن تتحرك جيوش جرماغون وبايجونوين اللذين كانت معاقلهما في بلاد الروم وأن تسير على الميمنة إلى الموصل عن طريق إربل ثم تعبر جسر الموصل وتعسكر في الجانب الغربي من بغداد وذلك في وقت معين حتى إذا قدمت الرايات من المشرق تخرج إليها من تلك الناحية، ويسير الأمير بلغا بن شيبان بن جوجي والأمير توتار بن سكنقور، وقولي بن أوره بن جوجي وبوقا تيمور وسونجاق من الميمنة أيضاً ويدخلون من مضيق سونتاي نوين إلى ناحية هولاكو خان. أما قوات كيتو بوقا نوين وقدخون ونرك ايلكا فعلى الميسرة كانت تزحف من حدود لرستان والبيات وتكريت وخوزستان التي تمتد إلى ساحل بحر عمان. ثم ترك هولاكو المعسكرات والأفواج في مرج زكي من ضواحي همذان وأقر عليهم قياق نوين. وفي أوائل المحرم سنة 655 سار بالجيوش في القلب الذي يسميه المغول (قول) نحو كرمانشاهان وحلوان وكان في ركابه كبار الأمراء: كوكا ايلكا وأرقتو وأرغون آقا، ومن الكتاب قرتاي وسيف الدين البينكجي المدير لشؤون المملكة والخواجة نصير الدين الطوسي والصاحب السعيد علاء الدين عطا ملك الجويني مع كافة السلاطين والملوك وكتاب بلاد إيران. وعندما بلغ أسد آباد أوفد رسولاً لدعوة الخليفة مرة أخرى للحضور فكان يماطل ويتعلل ووصل ابن الجوزي إلى الدينور للمرة الثانية قادماً من بغداد يحمل رسالة بالوعد والوعيد وملتمساً أن يعود هولاكو خان ويتراجع في مقابل أن يسلم الخليفة للخزانة كل ما يقرره هولاكو خان. فظن هذا أن الخليفة يريد من وراء عودة الجيش أن يعد جنده ويهيئهم لمقاومة المغول فقال: وكيف نترك زيارة الخليفة بعد كل ما قطعناه من هذا الطريق؟! سوف نعود بإذنه بعد الحضور للقائه والتحدث معه. وقد تحرك جنود المغول من هناك إلى جبال الأكراد ونزلوا بكرمانشاه في السابع والعشرين من الشهر وقاموا بالقتل والسلب وأرسلوا رسولاً ليحضر على الفور الأمراء: سونجاق وبايجو نوين وسنتاي، فوصلوا إلى الحضرة في طاق كري ثم قبضوا على أيبك الحلبي وسيف الدين قلج اللذين كانا من طلائع جيش الخليفة وأحضروهما إلى الحضرة فأعطى هولاكو الأمان لأيبك وفي نظير ذلك قبل أن يقول الصدق ثم جعلهما هولاكو مرشدين لطلائع قوات المغول، بعد ذلك أعاد الأمراء مرموقين بالعطف والرعاية ليعبروا نهر دجلة ويتوجهوا إلى غربي بغداد، وأحرقوا أكتاف الأغنان، جرياً على عادتهم، ثم عادوا وعبروا نهر دجلة قاصدين غربي بغداد. وفي تلك الجهة كان قائد الطلائع لجند الخليفة ببغداد هو قبجاق المعروف بقراسنقر، وأما سلطان جو الذي كان من نسل الخوارزميين فقد كان مع طلائع المغول، فكتب هذه الرسالة إلى قراسنقر يقول فيها: إنني وأنت من جنس واحد وبعد البحث والتدقيق التحقت بخدمة هولاكو بسبب الفقر والاضطرار ودخلت في طاعته وهو الآن يعاملني معاملة طيبة فأنقذ أنت أيضاً حياتك وترفق بها وأشفق على أولادك وقدّم الطاعة حتى تأمن على دارك وأولادك ومالك وروحك من هؤلاء القوم، فكتب إليه قرا سنقر مجيباً: من يكون هؤلاء المغول حتى يقصدوا أسرة العباسيين، لقد شاهدت هذه الأسرة الكثير من أمثال دولة جنيكز خان وإن أساسها لأكثر إحكاماً ورسوخاً من أساس أسرة جنيكز خان التي تترنح من كل ريح عاصف، ثم إن العباسيين قد استمروا حكاماً أكثر من خمسمائة سنة وكل مخلوق قصدهم بسوء قضى عليه الزمان وإذن فليس من العقل والكياسة أن تدعوني لأنضم إلى جانب الغصن الغض لدولة جنكيز خان، وكان الأولى بالود والمسالمة أن لا يتجاوز هولاكو خان الري بعد فراغه من فتح قلاع الملاحدة وأن يعود إلى خراسان وتركستان لأن قلب الخليفة متأثر وساخط بسبب زحف هولاكو بجيوشه، فإذا كان هولاكو نادماً حقاً على فعلته فعليه أن يعيد الجيش إلى همذان لكي نجعل الدواتدار شفيعاً فيتضرع إلى الخليفة عله يزول ألمه ويقبل الصلح فيغلق بذلك باب القتال والجدال. فلما عرض سلطان جوقه تلك الرسالة على هولاكو ضحك وقال: إن اعتمادي على الله لا على الدرهم والدينار فإن كان الله الأزلي مساعداً لي ومعيناً فماذا أخشاه من الخليفة وجيشه؟ (تتساوى في نظري النملة والبعوضة والفيل كما يتساوى الينبوع والنهير والبحر والنيل، ولو كان أمر الله على خلاف تلك فمن يدري سواه كيف يكون ذلك الكلام؟ وإلا فليتأهب للقتال وليحضر إلينا قبل كل شيء الوزير وسليمان شاه والدواتدار ليسمعوا ما نقول).

(وفي اليوم التالي سار هولاكو وعسكره على شاطئ نهر حلوان في التاسع من ذي الحجة سنة 655 حيث أقام إلى الثاني والعشرين من ذلك الشهر، وفي هذه الأيام استولى كيتو بوقا على كثير من بلاد لرستان طوعاً وكرهاً. وفي الحادي عشر من شهر جقشاباط من سنة موعاييل الموافق التاسع من المحرم سنة 656 عبر بايجونوين وباقا تيمور وسونجاق في الوقت المقرر نهر دجلة عن طريق نهر دجيل ووصلوا إلى نواحي نهر عيسى، وقد التمس سونجاق نوين إلى بايجو أن يكون قائداً لجيش غرب بغداد ثم سار بعد الاستئذان وجاء إلى حربى. وقبل ذلك كان مجاهد الدين أيبك الدواتدار الذي كان قائداً لجيش الخليفة ومعه (فتح الدين) ابن كر قد أقاما معسكرهما بين بعقوبا وباجسرا، وحينما سمعا بمجيء المغول إلى الضفة الغربية عبرا نهر دجلة وحاربا سونجاق وبوقا تيمور في حدود الأنبار على باب قصر المنصور في أعلى المزرفة على تسعة فراسخ من بغداد، فلوى جنود المغول العنان وجاؤوا إلى البشيرية من ناحية دجيل، فلما لحقوا ببايجو ووصل هؤلاء أعادوهم، وفي تلك النواحي كان يوجد نهر كبير ففتح المغول السد المقام عليه فغمرت المياه كل الصحراء الواقعة خلف جيش بغداد. وفي فجر يوم الخميس من نهار عاشوراء دهم باجيو وبوقا تيمور الدواتدار وابن كر وانتصرا عليهما فهزم جيش بغداد وقتل فتح الدين ابن كر وقراسنقر اللذان كانا قائدي الجيش مع اثني عشر ألف رجل فضلاً عمن غرق أو قضى نحبه في الوحل، أما الدواتدار فقد فر هارباً مع نفر ضئيل وعاد إلى بغداد، كما هرب البعض إلى الحلة والكوفة. وفي يوم الثلاثاء منتصف المحرم قدم بوقا تيمور وبايجو وسونجاق إلى بغداد واستولوا على الجانب الغربي، ونزلوا في أحياء المدينة على شاطئ دجلة ووصل أيضاً بوقا نوين والأمراء الآخرين من ناحية النخاسية وصرصر بجيش عظيم. وترك هولاكو خان معسكراته في خانقين وواصل سيره إلى بغداد ونزل في الجهة الشرقية منها في السابع من شهر جقشباط من سنة موغا الموافق الحادي عشر من المحرم سنة 656 ثم تدفق الجيش المغولي كالنمل والجراد من كل جهة وناحية فحاصروا أسوار بغداد واحتموا بجدار أقاموه. وفي يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من المحرم شرعوا في الحرب والتحم الجيشان وكان هولاكو في القلب من طريق خراسان على الجانب الأيسر من المدينة في مقابل برج العجمي، وكان ايلكا نوين وفربا على باب كلواذا، أما قولي وبلوغا وتوتار وشيرامون وأرقيو فقد نزلوا في عرض (ظاهر) المدينة في مواجهة باب سوق السلطان، وكان بوقا تيمور يقف في جهة القلعة وجانب القبلة بموضع دولاب البقل، وكان بايجو وسونجاق يرابطان في الجانب الغربي حيث المارستان العضدي وكان الجميع يحاربون وقد صوبوا المجانيق مباشرة تجاه برج العجمي حتى أحدثوا فيه ثغرة. وعندئذ أرسل الخليفة الوزير والجاثليق إلى هولاكو يقول: إن الملك قد أمر بأن ابعث اليه بالوزير وها أنا ذا قد لبيت طلبه فينبغي أن يكون الملك عند كلمته. فرد الملك قائلاً: إن هذا الشرط طلبته وأنا على باب همذان أما الآن فنحن على باب بغداد وقد ثار بحر الاضطراب والفتنة فكيف أقنع بواحدة، ينبغي أن ترسل هؤلاء الثلاثة – يعني الدواتدار وسليمان شاه والوزير -. ثم ذهب الرسل إلى المدينة وفي اليوم التالي (لذاك) خرج إلى هولاكو الوزير (ابن العلقمي) وصاحب الديوان (فخر الدين ابن الدامغاني) وجمع من المعارف والمشاهير، ولكنه أعادهم وقد دارت حرب طاحنة مدة ستة أيام، ثم أمر الملك بأن يكتب ستة منشورات تفيد بأن القضاة والعلماء والشيوخ والسادات والتجار وكل من لا يحاربنا لهم الأمان. وربطوا هذه المنشورات بالنبال وألقوها على المدينة من جوانبها الستة. ولما لم تكن توجد حجارة للمجانيق في أطراف بغداد فإنهم كانوا يأتون بها من جبل حمرين وجلولاء وكانوا يقطعون النخيل ويرمون بقطعها بدلاً من الحجارة، وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من المحرم هدم المغول برج العجمي وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين وحيث كان يقف هولاكو تسلق جنود المغول السور عنوة وطهرُوا أعالي الأسوار من الجند، لكنهم لم يتسلقوا الأسوار من ناحية سوق السلطان حيث كان يحارب بولغا وتوتار، فعاتبهم السلطان، كذلك لم يذهب أتباعهم (كذا) وفي المساء تسلم المغول جميع الأسوار الشرقية، بعد ذلك أمر هولاكو خان بأن يقيموا جسراً في أعلى بغداد وآخر في أسفلها وأن يعدوا السفن وينصبوا المجانيق ويعينوا المستحفظين، وكان بوقاتيمور قد رابط مع عشرة آلاف جندي على طريق المدائن والبصرة ليصد كل من يحاول الهرب بالسفن. ولما حمي وطيس الحرب في بغداد وضاق الحال على الأهالي أراد الدواتدار أن يركب سفينة وأن يهرب إلى ناحية السيب ولكنه بعد أن اجتاز قرية العقاب أطلق جند بوقا تيمور حجارة المنجانيق والسهام وقوارير النفط واستولوا على ثلاث سفن وأهلكوا من فيها وعاد الدواتدار منهزماً. فلما وقف الخليفة على تلك الحال يئس نهائياً من الاحتفاظ ببغداد ولم ير أمامه مفراً ولا مهرباً قط فقال: سأستسلم وأطيع ثم أرسل فخر الدين الدامغاني وابن الدرنوش مع قليل من التحف إلى هولاكو زاعماً أنه لو بعث بالكثير لكان ذلك دليلاً على خوفه فيتجرأ العود، فلم يلتفت هولاكو إلى هذه الهدايا وعادا محرومين. وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من المحرم خرج من بغداد للقاء هولاكو أبو الفضل عبد الرحمن بن الخليفة الثاني، بينما ذهب الوزير (ابن العلقمي) إلى المدينة، وكان صاحب الديوان (فخر الدين ابن الدامغاني) وجماعة من العظماء مع ابي الفضل قد حملوا أموالاً كثيرة، فلم تقبل منهم، وفي غد ذلك اليوم آخر المحرم خرج ابن الخليفة الأكبر (أبو العباس أحمد) ومعه الوزير (ابن العلقمي) وجماعة من المقربين للشفاعة فلم يجدوا فائدة وعادوا إلى المدينة. وقد بعث الملك الخواجة نصير الدين (الطوسي) وايتيمور برسالة إلى الخليفة. فخرجا في صحبة رسل بغداد غرّة صفر، وأرسل فخر الدين الدامغاني الذي كان صاحب الديوان وابن الجوزي وابن الدرنوش إلى المدينة ليخرجوا سليمان شاه والدواتدار ومنحهم فرماناً وبايزة طمأنة لهم وتقوية لموقفهم وقال: إن الرأي للخليفة فله أن يخرج أو لا يخرج وسيكون جيش المغول مقيماً على الأسوار إلى أن يخرج سليمان شاه والدواتدار.

وفي يوم الخميس غرة صفر خرج الرجلان فأعادهما مرة ثانية إلى المدينة ليخرجا أتباعهما حتى ينضموا إلى قوات مصر والشام، وعزم جند بغداد على الخروج معهم وكانوا خلقاً لا يحصون مؤملين أن يجدوا الخلاص فقسموهم ألوفاً ومئات وعشرات وقتلوهم جميعاً. أما من بقي في بغداد فقد هربوا إلى الأنفاق ومواقد الحمامات ثم خرج جماعة من أعيان المدينة وطلبوا الأمان قائلين: إن ناساً كثيرين طائعون خاضعون فليمهلوا لأن الخليفة سيرسل أبناءه ويخرج بنفسه أيضاً. وفي تلك الأثناء أصاب سهم عين هندو البتكجي وكان من أكابر الأمراء. فتملك هولاكو غضب عظيم وجد في الاستيلاء على بغداد وأمر الخواجة نصير الدين (الطوسي) أن يقيم على باب الحلبة أماناً للناس، فشرع الأهالي يخرجون من المدينة، وفي يوم الجمعة الثاني من صفر قتل الدواتدار وجيء بسليمان شاه مع سبعمائة من أقاربه وكان مكبل اليدين فاستجوبه هولاكو قائلاً لقد كنت منجماً ومطلعاً على أحوال السعد والنحس للبلاد فكيف لم تتنبأ بسوء مصيرك ولم تنصح مخدومك لكي يبادر إلينا عن طريق الصلح؟ فأجاب سليمان شاه: لقد كان الخليفة مستبداً برأيه منكود الطالع فلم يستمع لنصح الناصحين. ثم أمر بقتله مع كافة أتباعه وأشياعه كما قتل الأمير تاج الدين ابن الدواتدار الكبير وأرسل رؤوس هؤلاء الثلاثة على يد الملك الصالح ابن بدر الدين لؤلؤ إلى الموصل وكان بدر الدين صديقاً لسليمان شاه فبكى ولكنه علق رؤوسهم خوفاً على حياته. وبعد أن رأى الخليفة المستعصم أن الأمر قد خرج من يده استدعى الوزير (ابن العلقمي) وسأله ما تدبير أمرنا؟.

فأنشد الوزير هذا البيت في جوابه:

يظنون أن الأمر سهل وإنما                    هو السيف حُدّت للقاء مضاربه

وبعد خراب البصرة خرج ومعه أبناؤه الثلاثة أبو الفضل عبد الرحمن وأبو العباس أحمد وأبو المناقب مبارك وكان ذلك يوم الأحد الرابع من صفر سنة 656 وكان معه ثلاثة آلاف من السادات والأئمة والقضاة والأكابر والأعيان ثم قابل هولاكو خان فلم يبدو الملك غضباً قط وكلمه بالحسنى ثم قال له: مر سكان المدينة حتى يضعوا أسلحتهم ويخرجوا لكي نحصيهم – فأرسل الخليفة من ينادي في المدينة ليضع الناس أسلحتهم ويخرجوا، فألقى الناس أسلحتهم زمراً زمراً وصاروا يخرجون فكان المغول يقتلونهم ثم أمر بأن تقام الخيام للخليفة وأبنائه وأتباعه بباب كلواذا في معسكر كيتو بوقا نوين ونزلوا فيها وعهدوا بحراستهم إلى عدد من المغول وكان الخليفة (المستعصم) ينظر بعين الحقيقة إلى هلاكه ويأسه على تركه الحزم وإبائه قول النصح (قال في نفسه: لقد فاز عدوي إذ رآني قد وقعت في الشرك كالطائر الحذر). وكان بدء القتل والنهب في يوم الأربعاء السابع من صفر فاندفع الجند المغول مرة واحدة إلى بغداد وأخذوا يحرقون الأخضر واليابس ما عدا قليلاً من منازل الرعاة وبعض الغرباء. وفي يوم الجمعة التاسع من صفر دخل هولاكو المدينة لمشاهدة قصر الخليفة وجلس في المثمنة واحتفل بالأمراء ثم أشار بإحضار الخليفة فقال له: إنك مضيف ونحن الضيوف فهيا أحضر ما يليق بنا. فظن الخليفة أن هذا الكلام على سبيل الحقيقة وكان يرتعد من الخوف وبلغ من دهشه أنه عاد لا يعرف مكان مفاتيح الخزائن فأمر بكسر عدة أقفال وأحضر لهولاكو ألفي ثوب وعشرة آلاف دينار ونفائس ومرصعات وعدداً من الجواهر. فلم يلتفت هولاكو إليها ومنحها كلها للأمراء والحاضرين ثم قال للخليفة: إن الأموال التي تملكها على وجه الأرض ظاهرة وهي ملك عبيدنا لكن أذكر ما تملكه من الدفائن ما هي وأين توجد؟ فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب الأحمر وكان كله سبائك تزن الوحدة مئة مثقال. بعد ذلك صدر الأمر بإحصاء نساء الخليفة فعدوا سبعمائة زوجة وسرية وألف خادمة فلما أطلع الخليفة على تعداد نسائه تضرع فقال لهولاكو: مُنَّ عليّ بأهل حُرمي اللائي لم تطلع عليهن الشمس ولا القمر. فقال له هولاكو: اختر مائة من هذه النساء السبعمائة وأترك الباقي. فأخرج الخليفة معه مائة امرأة من أقاربه والمحببات إليه، ثم رجع هولاكو خان إلى المعسكر ليلاً. وفي الصباح أمر بأن يسير سونجاق إلى المدينة وأن يعتبر أموال الخليفة ويخرجها. وقصارى القول أن كل ما كان للخلفاء قد جمعوه خلال خمسة قرون وضعه المغول بعضه على بعض فكان كجبل على جبل، وقد احترق أكثر الأماكن المقدسة في المدينة مثل جامع الخليفة ومشهد المقدس (و) الجواد عليها الرحمة وقبور الخلفاء. وأخيراً أوفد سكان المدينة شرف الدين المراغي وشهاب الدين (محموداً) الزنجاني والملك( أحمد بن عمران الباجسري) دال رست أي المخلص إلى هولاكو وطلبوا الأمان، فصدر الأمر بالتوقف من بعد ذلك عن القتل والنهب (لأن بغداد أصبحت ملكاً لنا فليستقر الأهالي ولينصرف كل شخص إلى عمله) وبذلك وجد الأمان الذين نجوا من السيف. وفي يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر رحل هولاكو عن بغداد بسبب عفونة الهواء ونزل بقريتي الوقف والجلابية وأرسل الأمير عبد الرحمن لفتح ولاية خوزستان ثم استدعى الخليفة فأدرك هذا أن أمارات النحس تبدو على مصيره وخاف خوفاً شديداً وقال للوزير (ابن العلقمي): ما حيلتنا؟ فأجاب الوزير قائلاً: لحيتنا طويلة. وكان مراده من ذلك أنه عندما فكر في أول الأمر في أن ترسل أحمال وفيرة لدفع هذا البلاء قال الدواتدار مجاهد الدين: لحية الوزير طويلة. وحال دون الأخذ بهذا الرأي واستمع الخليفة لكلامه وأهل تدبير الوزير. ويئس الخليفة من إنقاذ حياته واستأذن في أن يذهب إلى الحمام ليجدد اغتساله. فأمر هولاكو خان بأن يذهب مع خمسة من المغول، ولكن الخليفة قال: أنا لا أريد أن أذهب بصحبة خمسة من الزبانية، وكان ينشد بيتين أو ثلاثة من قصيدة هذا مطلعها:

وأصبحنا لنا دار كجنات وفردوس                       وأمسينا بلا دار كأن لم نغن بالأمس

وفي مساء الأربعاء الرابع عشر من صفر سنة 656 قضوا على الخليفة وعلى ابنه الأكبر وخمسة من الخدم كانوا في خدمته في قرية الوقف، وفي اليوم التالي قتلوا الذين كانوا قد نزلوا معه في بوابة كلواذا، كذلك قضوا على كل شخص وجدوه حياً من العباسيين اللهم إلا أفراداً قلائل لم يأبهوا لهم. وقد سلم مباركشاه الابن الأصغر للخليفة إلى أولجاي خاتون فأرسلته إلى مراغة ليكون مع الخواجة نصير الدين ثم زوَّجوه من امرأة مغولية فأنجب منها ولدين. وفي يوم الجمعة السادس عشر من صفر ألحقوا الابن الثاني للخليفة بوالده وأخيه وبذلك قضي على دولة خلفاء آل العباس الذين حكموا بعد بني أمية وكانت مدة خلافتهم خمساً وعشرين وخمسمائة سنة وعددهم سبعة وثلاثون خليفة. وذكر المؤرخ الخلفاء بالترتيب ثم قال: (وفي نفس اليوم الذي قتلوا فيه الخليفة أرسلوا إليها مؤيد الدين ابن العلقمي ليقوم بالوزارة وفخر الدين الدامغاني ليكون صاحب الديوان وجعلوا علي بهادر شحنة لها وعينوا المحتسبين لمراقبة المقاييس والأوزان ونصبوا عماد الدين عمر القزويني نائباً للأمير قراتاي وهو الذي عمر مسجد الخليفة ومشهد موسى (و) الجواد، وكذلك نصب نجم الدين أبو جعفر أحمد بن عمران الملقب براست دل (المخلص) والياً على أعمال شرقي بغداد مثل طريق خراسان والخالص البندنيجين، وأمر هولاكو بأن يكون نظام الدين عبد المنعم البندنيجي قاضياً للقضاء واختار إيلكانوين وقرابوقا ومعهما ثلاثة آلاف من فرسان المغول وبعث بهم إلى بغداد ليقوموا بالعمارة في الحال وليعملوا على استتباب الأمن. ثم بادر كل شخص بدفن قتلاه وطهّرت الطرق من جثث الحيوانات النافقة وعُمرت الأسواق. وفي يوم الخميس التاسع والعشرين من صفر حضر إلى الدركاه شرف الدين ابن الوزير وصاحب الديوان لتلقي التعليمات ثم عادا وفي يوم الجمعة الثالث من العشرين رحل هولاكو ونزل بقية الشيخ مكارم، ومن هناك كان يسير مرحلة بعد مرحلة إلى أن بلغ معسكراته في خانقين. وفي أثناء حصار بغداد كان قدم إليه بعض العلويين والفقهاء من الحلة والتمسوا إليه أن يعين لهم شحنة.

ومما نقلنا عن الأخبار المبسوطة في فتح هولاكو لبغداد والعراق يظهر للقارئ أن مؤيد الدين ابن العلقمي كان أحد ثلاثة من أرباب دولة بني العباس أراد هولاكو حضورهم لتمثيل الدولة العباسية وبيان الأسباب في تلكؤها عن الأذعان للدولة المغولية والدخول في طاعتها، وأن اثنين من هؤلاء الثلاثة أمر بقتلهما بعد ثبوت جرمهما عندها والثالث هو الوزير ابن العلقمي نجا مع جماعة من أصحاب الدولة واستوزر فلو كان مخامراً لهولاكو ومبُاطناً ومُراسلاً ما احتاج أن يدخله في عداد الثلاثة ولا اهتم بحضوره وحمله الرسالة، فهذا يدل على أن الرضا عنه وقع بعد سؤاله عن سبب اضطراب السياسة العباسية وتقديمه في أنه كان من رأيه الطاعة للدولة المغولية التي يمثلها هولاكو واستشهاده شهوداً على صدق قوله من أرباب الدولة نفسها كفخر الدين أحمد بن الدامغاني وتاج الدين علي بن الدوامي.

أدب ابن العلقمي

كان أبو طالب محمد بن أحمد بن العلقمي أديباً كاتباً منشئاً ينظم الشعر الذي يسمى شعر المناسبات وقد حوت عدة تواريخ عدة قطع ومقطوعات من نثره وشعره، قال مؤلف الحوادث في سنة 643 (وتوفيت ابنة الخليفة المستعصم بالله، اسمها عائشة وعمل لها العزاء في الرصافة على جاري العادة وأنشد الشعراء المراثي وكتب الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي إلى الخليفة (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. أجزل الله ثواب الخدمة الشريفة المقدسة النبوية الإمامية المستعصمية بالله على احتسابها، وجزاها أفضل جزاء الصابرين عند جزع النفوس واكتئابها، وأفاء عليها ظلاً من البقاء ظليلاً، ورجع طرف الحوادث عن حوزتها الشريفة حسيراً كليلاً، وعوَّض عمن عبر وذهب بحراسة غيره مما وهب، وجعل السادة الموالي المعظمين في حوز حياطته، وكلأهم من كل حادث بعين حفظه التي لا تنام ورعايته، وأدام للدنيا وأهلها بقاء الخدمة الشريفة واستمرار عصرها، وخلود الدولة الحالية بمضاء مراسمها العلية ونفاذ أمرها:

فإذا سلمت فكل شيء سالم                  وإذا بقيت فكل شيء باقي

ولا زال ملكها محروساً من الغير، لصون الموارد من الكدر، ولا أعاد إلى مواطن شرفها حادثاً، ولا أنزل بمقدس ربعها الأمع خطباً كارثاً:

لا روعت بعدها الخطوب لكم                سرباً ولا فصلت لكم جملا (كذا)

بمحمد وأله. وقال في أخبار سنة 644 (فيها كتب الوزير مؤيد الدين محمد ابن العلقمي ينهي حال بعض الأمراء ويقول في آخر كلامه وهو (مدبر) فوقع الخليفة على مطالعته بقلمه:

ولا تساعد أبداً مُدبراً                         وكن مع الله على المدبر

فكتب الوزير في الجواب من نظمه:

يا مالكاً أرجو بحبي له              نيل المنى والفوز في المحشر

أرشدتني لا زلت لي مرشداً                   وهادياً من رأيك الأنور

فضلك فضل ما له منكر                      ليس لضوء الشمس من منكر

أن يجمع العالم في واحد                        فليس لله بمستنكر

فالله يجزيك بما قلته                            خيراً ويبقيك مدى الأعصر

جعلت تقوى الله مقرونة                      بورد أفعالك والمصدر

من يجعل التقوى له متجراً                    فذاك حقاً رابح المتجر.

وقال الخرزجي في أخبار سنة 646: (وفي شهر ربيع الأول أنعم على الوزير أبي طالب محمد بن العلقمي بدواة فضة مذهبة مدورة مثمنة بديعة الصنعة جميلة الوضع فقال بعض الشعراء). وجاء في كتاب الحوادث في ذلك (وفيها أنفذ الخليفة إلى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي دواة فضة مذهبة مع صلاح الدين عمر بن جلدلك في جوانة فخلع عليه ونظم الشعراء في ذلك اشعاراً كثيرة).

وقال مؤلف الحوادث في سنة 648: (وفيها أنفذ الخليفة إلى الوزير على يد عمر بن جلدلك شدة من أقلام فكتب الوزير (قبل المملوك الأرض شكراً للإنعام عليه بأقلام قلمت عنه أظفار الحدثان، وقامت له في حرب صرف الدهر مقام عوامل المُران، وأجنته ثمار الأوطار من أغصانها، وحازت له قصبات المفاخر يوم رهانها، فبالله كم عقد ذمام في عُقدها وكم بحر سعادة أصبح من مدادها ومددها. وكم مناد خط استقام بمثقفاتها، وكم صوارم خطوب فلت مضاربها بمطرور مرهفاتها، والله تعالى ينهض المملوك بمفروض دعائه، ويوفقه للقيام بشكر ما أولاه من جميل رأيه وجزيل حبائه، بمحمد وآله:

خولتني نعماً كادت تعيد إلى                               عصر الشباب وتُدني منه أياما

لم يبقَ لي أمل إلا وقد بلغت                               نفسي أقاصيَه برّاً وإنعاما

تعطي الأقاليم من لم يبد مسألة                جوداً فلا عجباً إن تعط أقلاما

لأفتحن بها والله يقدرني                                    مصاعباً أعجزت من قبل بهراما

إذا نسبن إلى خط فإن لها                                  شبى إذا أعملته يخرق الهاما

بالحمد والشكر أجريها لدولتكم             والرأي يحصد من أعدائها الهاما

طالع المملوك بدعائه الصادر عن ناصع ولائه، والأمر أعلى وأسمى إن شاء الله تعالى. (انتهى مقال الدكتور مصطفى جواد)

الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي يتهم بالخيانة

قال الدكتور جعفر خصباك:

يكاد المؤرخون يتفقون في الثناء على شخصية محمد بن أحمد بن العلقمي وزير المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس فقد وصفوه بالعقل والعلم والأدب والكفاية والوقار والنزاهة والعفة عن أموال الديوان والمعرفة بأدوات الرياسة. وقد وصفه سبط ابن الجوزي الحنبلي بأنه (كان رجلاً فاضلاً صالحاً عفيفاً قارئاً للقرآن) ووصفه الخزرجي بأنه (كان عالماً فاضلاً أديباً حسن المحاضرة دمث الأخلاق كريم الطباع خير النفس كارهاً للظلم خبيراً بتدبير الملك) كان مؤيد الدين اسديا من النيل قيل لجده العلقمي لأنه حفر النهر المعروف بهذا الاسم. وكان خاله عضد الدين أبو نصر المبارك بن الضحاك من المعدلين بمدينة السلام رتب ناظراً بديوان الجوالي وكتب في ديوان الإنشاء ونفذ رسولاً إلى صاحب الشام وعندما توفي الخليفة العباسي الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله سنة 623هـ/ 1226م كان هو المتولي لأخذ البيعة للخليفة الجديد المستنصر بالله وقد ظل في عهده استاذاً للدار حتى وفاته سنة 627هـ/ 1229م. واشتغل محمد بن العلقمي في صباه بالأدب ففاق فيه وسمع الحديث واشتغل في الحلة على عميد الرؤوساء أيوب وعاد إلى بغداد وأقام عند خاله عضد الدين أستاذ الدار الذي عرف بالعلم والرياسة والتجربة فتخلق بأخلاقه واستنابه في ديوان الأبنية إلى أن توفي حيث انقطع ابن العلقمي ولزم داره ولكن شمس الدين أبا الأزهر أحمد بن الناقد الذي عين أستاذاً للدار بعد عضد الدين استدعاه إلى دار التشريفات وأمره بالتردد إليها ومشاركة النواب بها وعندما عزل المستنصر بالله وزيره ابن القمي سنة 629هـ/ 1231م كان ابن العلقمي مشرفاً بدار التشريفات فعين بعد قليل أستاذاً للدار مكان شمس الدين ابن الناقد الذي عين نائباً للوزارة وعندما توفي ابن الناقد سنة 642هـ/ 1244م عين ابن العلقمي مكانه وظل يشغل منصب الوزارة حتى سقوط بغداد ومقتل الخليفة عام 656هـ/ 1258. وقد عرف ابن العلقمي بحبه للعلم والأدب ومعرفته باللغة وكانت له مقدرة على نظم الشعر وكتابة النثر الجيد الحسن. وقد أنشأ لنفسه مكتبة في داره في 644هـ/ 1246م نقل إليها عدداً كبيراً من الكتب من أنواع العلوم وصفها العدل موفق الدين القاسم ابن أبي الحديد بأبيات أولها:

رأيت الخزانة قد زينت            بكتب لها المنظر الهائل..

وذكر علي ابن أخت الوزير المذكور أنها كانت تشمل على عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب وقد صنفت للوزير كتب منها العباب الذي وضعه الصغاني اللغوي وشرح نهج البلاغة لعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد.

ومع ذلك فقد وجه كثير من المؤرخين المسلمين إلى الوزير مؤيد الدين بن العلقمي تهمة في غاية الخطورة خلاصتها أنه خان سيده الخليفة المستعصم بالله ودينه الإسلام وجلب على قومه القتل والذل والخراب بمكاتبة هولاكو طاغية التتار وأطماعه بفتح العراق بل دعوته لذلك وتهيأة الأمور له بأساليب متعددة منها إشارته على الخليفة بتسريح أكثر جنوده وتشجيعه على عدم إنفاق المال في سبيل الاستعداد العسكري وتهوين أمر المغول أمامه ودعوته للخروج لمواجهة هولاكو حينما أحاط هذا ببغداد للتغرير به بحجة حضور عقد نكاح ابنة هولاكو لابن الخليفة وسبب ذلك أن الوزير كان شيعياً رافضياً في قلبه غل على الإسلام وأهله وأنه كان يريد الانتقام من أهل السنة خصوصاً طائفة من مستشاري الخليفة كابنه أبي بكر وقائد عسكره مجاهد الدين الدويدار الصغير لأنهم أوقعوا بمحلة الكرخ الشيعية سنة 654 وقتلوا العديد من أهلها وسبوا نساءها ونهبوا دورها وكان في المحلة أقارب للوزير.

ولعل من المفيد أن نستعرض أهم ما ورد من أقوال المؤرخين في هذه التهمة الخطيرة: قال أبو شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المتوفي سنة 665هـ/ 1262م عن حوادث سنة 656هـ/1258م أن التتار استولوا على بغداد بمكيدة دبرت مع وزير الخليفة. وأعاد قطب الدين اليونيني البعلبكي المتوفى سنة 726هـ/ 1325م نفس العبارة ثم أضاف إليها قوله أن هولاكو تهيأ في سنة أربع وخمسين وستمائة لقصد العراق وسبب ذلك أن (مؤيد الدين بن العلقمي وزير الخليفة كان رافضياً وأهل الكرخ روافض وفيه جماعة من الأشراف والفتن لا تزال بينهم وبين أهل باب البصرة.. فاتفق أنه وقع بين الفريقين محاربة فشكا أهل باب البصرة وهم سنية إلى ركن الدين الدواتدار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ فهجموا ونهبوا وقتلوا وارتكبوا العظائم فشكا أهل الكرخ ذلك إلى الوزير فأمرهم بالكف والتغاضي وأضمر هذا الأمر في نفسه وحصل بسبب ذلك عنده الضغن على الخليفة) وبعد أن أشار اليونيني إلى الخليفة المستنصر بالله وحال الجند في عهده عاد إلى ابنه المستعصم وقال (وكاتب الوزير ابن العلقمي التتر وأطمعهم في البلاد وأرسل إليهم غلامه وأخاه وسهل عليهم ملك العراق وطلب منهم أن يكون نائبهم في البلاد فوعوده بذلك وأخذوا في التجهيز لقصد العراق وكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في أن يسير إليهم ما يطلبونه من آلات الحرب فسير اليهم ذلك ولما تحقق قصدهم علم أنهم إن ملكوا العراق لا يبقون عليه فكاتب الخليفة سراً في التحذير منهم وأنه يعد لحربهم فكان الوزير لا يوصل رسله إلى الخليفة ومن وصل إلى الخليفة منهم بغير علم الوزير اطلع الخليفة وزيره على أمره). ثم يمضي اليونيني فيصف تقدم جيش هولاكو إلى بغداد وهزيمته لعسكرها وإحاطته بها ثم يعود فيقول (فحينئذ اشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته وسأله أن يخرج إليه في تقرير ذلك وتوثق منه لنفسه ثم رجع إلى الخليفة وقال له أنه قد رغب أن يزوج ابنته من ابنك الامير ابي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم لا يؤثر إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك من السلاطين السلجوقية وينصرف بعساكره عنك فتجيبه إلى هذا فأنه فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن يفعل ما تريد فحسن له الخروج إليه فخرج في جمع من أكابر الصحابة فأنزل في خيمة ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا عقد النكاح فيما أظهره فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة) وقال شمس الدين الذهبي المتوفي سنة 748هـ/ 1347م في كلامه عن وقائع سنة سنة 648هـ/ 1250م ما يأتي: (وأما بغداد فضعف دست الخلافة وقطعوا أخباز الجند الذين استنجدهم المستنصر وانقطع ركب العراق. كل ذلك من عمل الوزير ابن العلقمي الرافضي جهد في أن يزيل دولة بني العباس ويقيم علويا وأخذ يكاتب التتار ويراسلونه والخليفة غافل لا يطلع على الأمور ولا له حصر على المصلحة) وقال عبد الله بن فضل الشيرازي الذي ألف كتابه حوالي 729هـ/ 1347م ما معناه أن الخليفة المستعصم بالله كان منصرفاً إلى الراحة واللهو وكان وزيره ابن العلقمي مستبداً حتى أنه لم يكن يحترم المقربين إلى الخليفة ولا يظهر تأدباً في مخاطبته إياهم وقد تغيرت نيته أزاء الخليفة بسبب واقعة الكرخ لأن ابن الخليفة أرسل جنودا أغاروا عليها وأسروا البنين والبنات وبينهم العلويات فبعث ابن العلقمي لذلك رسالة إلى تاج الدين محمد بن نصر الحسيني أحد سادات العصر وعندما فرغ البادشاه هولاكو سنة 654هـ/ 1256م من فتح قلاع الملاحدة وأرسل بالرسل يبشرون بالنصر في المشارق والمغارب أرسل ابن العلقمي في الخفاء رسولاً إلى هولاكو أظهر الإخلاص والطاعة وزين مملكة بغداد في خاطره وذم الخليفة وقال لهولاكو أنه إذا توجه بسرعة فسوف تسلم له مملكة بغداد ولكن هذا لم يعتمد على قوله لأن حصانة بغداد وكثرة جنودها كانت أمراً مشهوراً في الأقاليم السبعة وكان ملك العالم أوغوتاي في أول جلوسه على العرش قد أرسل القائد جرماغون بجيش فتاك فهزم من قبل الخليفة المستنصر بالله ولذلك فأن البادشاه طلب من رسول ابن العلقمي ما يؤكد صحة أقواله ليطمأن بذلك خاطره الشريف. وعندما زحفت جيوش هولاكو على بغداد واطمأن ابن العلقمي لنجاح مكيدته قال للخليفة أن الجم الغفير من سلاطين وملوك الأطراف أظهروا والحمد لله إخلاصهم وطاعتهم وسمعة الخليفة كبيرة وحكمه نافذ وماله كثير فمن الخير توفير أموال الخزينة وعدم صرفها على الجند فكان الخليفة منصرفاً لسماع الأغاني والاجتماع بالجواري والمغنيات وابن العلقمي يفرق الكلمة ويشرد جميع الأفراد وينفر الجنود في الوقت الذي انتشرت فيه أخبار جيش المغول وكان الشرابي والدويدار يحذرون الخليفة منه وابن العلقمي يسخف أقوالهم.

وقال ابن شاكر الكتبي المتوفى سنة 76هـ/ 1362م في كلامه عن الوزير العلقمي (ولم يزل ناصحاً لأصحابه وأستاذه حتى وقع بينه وبين الدواتدار لأنه كان متغالياً في السنة وعنده ابن الخليفة فحصل عنده من الضغن ما أوجب سعيه في دمار الإسلام وخراب بغداد على ما هو مشهور لأنه ضعف جانبه وقويت شوكة التتار بحاشية الخليفة.. وأخذ يكاتب التتار إلى ان جرّأ هولاكو وجرّه على أخذ بغداد) وقال عنه أيضاً (وحكي أنه لما كان يكاتب التتار تخيل إلى أنه أخذ رجلاً وحلق رأسه حلقاً بليغاً وكتب ما أراد عليه بالابر ونفض عليه الكحل وتركه عنده إلى أن طلع عليه شعره وغطى ما كتبه فجهزه وقال: إذا وصلت أمرهم بحلق رأسك ودعهم يقرؤون ما فيه وكان في آخر الكلام (اقطعوا الورقة) فضربت عنقه وهذا في غاية المكر والخزي) وقال تاج الدين السبكي المتوفي سنة 771هـ/ 1369م أنه لما توفي المستنصر بالله كان أكبر الأمراء وأعظمهم الدويدار والشرابي وهم الذين أثروا المستعصم لضعفه ولينه وأقاموه واستوزروا ابن العلقمي (وكان فاضلاً أديباً وكان شيعياً رافضياً في قلبه غل على الإسلام وأهله وحبب إلى الخليفة جمع المال والتقليل من العساكر فصار الجنود يطلبون من يستخدمهم في حمل القاذورات) ثم كرر الكاتب المذكور رواية مكاتبة ابن العلقمي للتتار وعزا ذلك إلى رغبته في الانتقام من الأمير أبي بكر ابن الخليفة والدويدار قائد الخليفة لأنهما أوقعا بالكرخ ووصف طريقة مكاتبة التتار بما يأتي: (أنه حلق رأس شخص وكتب عليه بالسواد وعمل على ذلك وأصار المكتوب كل حرف كالحفرة في الرأس ثم تركه عنده حتى طلع شعره وأرسله إليهم). وأضاف السبكي إلى ذلك قوله أن الوزير كتب إلى نائب الخليفة ثم أربيل تاج الدين محمد بن الصلايا وهو شيعي أيضاً رسالة يقول فيها: (نهب الكرخ المكرّم والعترة النبوية وحسن التمثيل يقول الشاعر:

أمور تضحك السفهاء منها                   ويبكي من عواقبها اللبيب

فلهم أسوة بالحسين حيث نهب حريمه وأريق دمه.

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى – فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد وقد عزموا لا أتم الله عزمهم ولا أنفذ أمرهم على نهب الحلة والنيل بل سولت لهم أنفسهم أمراً فصبر جميل والخادم قد أسلف الإنذار وعجل لهم الأعذار.

فكان جوابي بعد خطابي لا بد من الشنيعة بعد قتل جميع الشيعة ومن إحراق كتاب الوسيلة والذريعة فكن لما تقول سميعاً وإلا جرعناك الحمام تجريعاً ولآتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولأخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون.

ووديعة مني لآل محمد                         أودعتها إذ كنت من أمناءها

فإذا رأيت الكوكبين تقاربا                    في الجدي عند صباحها ومساءها

فهناك يؤخذ ثار آل محمد                     لطلابها بالترك من أعدائها

فكن لهذا الأمر بالمرصاد وترقب أول النحل وآخر الصاد).

وقال عبد الرحمن بن محمد بن خلدون المتوفى سنة 808هـ/ 1406م أن هولاكو لما رجع إلى  بلاد الإسماعيلية وقصد قلعة ألموت بلغته (في طريقه وصية من ابن العلقمي وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب إربل يستحثه للمسير إلى بغداد ويسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقمي رافضياً هو وأهل محلته بالكرخ وتعصب عليه أهل السنة وتمسكوا بأن الخليفة والدويدار يظاهرونهم وأوقعوا بأهل الكرخ وغضب ابن العلقمي ودس إلى ابن الصلايا بأربل وكان صديقاً له بأن يستحث التتر لملك بغداد وأسقط عامة الجند).

وعندما نصل إلى أواخر القرن العاشر الهجري نجد أن قصة سقوط بغداد وخيانة الوزير ابن العلقمي تتسع إلى حد غير معقول وتختلط بأقاصيص غريبة على يد الشيخ حسن الديار بكري المتوفى سنة 990هـ/ 1582م حيث كتب يقول أن الوزير (ابن العلقمي الرافضي كان قد كتب كتاباً إلى هولاكو ملك التتار في الدست أنك تحضر إلى بغداد وأنا أسلمها لك وكان قد داخل قلب اللعين الكفر فكتب هولاكو أن عساكر بغداد كثيرة فإن كنت صادقاً فيما قلته وداخلاً في طاعتنا فرّق عساكر بغداد ونحن نحضر فلما وصل كتابه إلى الوزير دخل إلى المستعصم وقال أن جندك كثيرة وعليك كلفة كبيرة والعدو قد رجع من بلاد العجم والصواب أن تعطي دستوراً لخمسة عشر ألف من عسكرك وتوفر معلومهم فأجابه المستعصم لذلك فخرج الوزير لوقته ومحا اسم من ذكر من الديوان ثم نفاهم من بغداد ومنعهم من الإقامة بها ثم بعد شهر فعل مثل فعلته الأولى ومحا اسم عشرين ألفا من الديوان ثم كتب إلى هولاكو بما فعل وكان قصد الوزير بمجيء هولاكو أشياء منها أنه كان رافضياً خبيثاً وأراد أن ينقل الخلافة من بني العباس إلى العلويين فلم يتم له ذلك من عظم شوكة بني العباس وعساكرهم ففكر أن هولاكو قدم يقتل المستعصم وأتباعه ثم يعود الحال سبيله وقد زالت شوكة بني العباس وقد بقي هو على ما كان عليه من العظمة والعساكر وتدبير المملكة فيقوم عند ذلك بدعوة العلويين الرافضة من غير ممانع لضعف العساكر ولقوته ثم يضع السيف في أهل السنة فهذا كان قصده لعنه الله ولما بلغ هولاكو ما فعل الوزير ببغداد ركب وقصدها إلى أن نزل عليها وصار المستعصم يستدعي العساكر ويتجهز لحرب هولاكو وقد اجتمع أهل بغداد وتحالفوا على قتال هولاكو وخرجوا إلى ظاهر بغداد ومضى عليهم بعساكره فقاتلوا قتالاً شديداً وصبر كل من الطائفتين صبراً عظيماً وكثرت الجراحات والقتلى في الفريقين إلى أن نصر الله تعالى عساكر بغداد وانكسر هولاكو أقبح كسرة وساق المسلمون خلفهم وأسروا منهم جماعة وعادوا بالأسرى ورؤوس القتلى إلى ظاهر بغداد ونزلوا بخيمهم مطمئنين بهروب العدو فأرسل الوزير ابن العلقمي في تلك الليلة جماعة من أصحابه فقطعوا شط دجلة فخرج ماؤها على عساكر بغداد وهم نائمون فغرقت مواشيهم وخيامهم وأموالهم وصار السعيد منهم من لقي فرساً يركبها وكان الوزير قد أرسل إلى هولاكو يعرّفه بما فعل ويأمره بالرجوع إلى بغداد فرجعت عساكره على بغداد وبذلوا فيها السيف) وأضاف هذا الكاتب رواية جديدة عن مصير ابن العلقمي بقوله: (فلم يلبث أن أمسكه هولاكو بعد قتل المستعصم بأيام ووبخه بألفاظ شنيعة معناها أنه لم يكن له خير في مخدومه ولا دينه فكيف يكون له خير في هولاكو ثم أنه قتله شرّ قتلة).

هذه هي خلاصة النصوص التي وردت باتهام الوزير مؤيد الدين بن العلقمي ومثل هذه التهم ليست غريبة في أيام المحن العامة والكوارث الخطيرة وقد كان سقوط بغداد بأيدي المغول الوثنيين وقتلهم خليفة المسلمين حدثاً عظيماً هز العالم الإسلامي وترك جرحاً عميقاً في قلوب المسلمين جعلهم يفتشون عمن كان السبب فيه وكان الوزير شيعياً في وقت كان للدين فيه سيطرة عظيمة على النفوس والمنازعات الطائفية شديدة في بغداد، وكان يحتل أسمياً المنصب الثاني في دولة الخليفة وأعداؤه يتربصون به الدوائر والأحوال العامة في تدهور والمغول يطرقون أبواب البلاد بدون أن يكون أمامهم استعداد عسكري واضح وقد قتل الخليفة واستبيحت بغداد فلم يقتل الوزير بل أنه كان أحد جماعة عهد إليهم إعادة تنظيم إدارة العراق فلم لا توجه إليه التهمة وقد جمع إليه الخيانة من أطرافها كما يبدو ذلك لأول وهلة. وقد سبق للخليفة الناصر لدين الله أن أتهمه خصومه بخيانة تشبه ما وجه لابن العلقمي ولكنها أعظم خطراً وأورد ياقوت الحموي إشاعة كانت تتردد في عهده هي أن علوياً كان مقدماً على أحد أبواب نيسابور قاعدة خراسان، راسل المغول خلال غزوهم هذا الأقليم، يتعهد فيه بتسليم البلد إليهم مقابل جعله متقدماً عليه فأجابوه إلى ذلك وعندما فتحوا المدينة المذكورة كان هو أول من قتلوه فيها. وقد أدت بنا دراستنا للتهمة الموجهة للوزير ابن العلقمي بعد قراءة المصادر التي أوردتها وتفهم طبيعة الغزو المغولي منذ بدايته وأحوال العراق والعالم الإسلامي المعاصر، إلى رفضها بناء على الأسباب التالية:

أولاً: أن التهمة تحدد البداية التاريخية لخيانة ابن العلقمي بمراسلته هولاكو بعد استباحة محلة الكرخ الشيعية سنة 654هـ/ 1256م خصوصاً بعد فراغ الفاتح المغولي المذكور من فتح قلاع الإسماعيلية أو خلال محاصرته لها في السنة المشار إليها ولكن الحقيقة هي غير ذلك لأن هولاكو كان يسير إلى غزو العراق قبل هذا التاريخ ببضعة سنين وأنه كان يعمل طبقاً لأوامر عليا صدرت إليه قبل وصوله بلاد الإسماعيلية أي قبل وقوع حادثة الكرخ.

ولعل الأمر يتضح بدراسة النقاط الآتية:

(أ) كان غزو العراق أمراً تتضمنه طبيعة الغزو المغولي الذي كان يستهدف السيطرة على العالم وقد استولى المغول فعلاً على أكثر الصين وأواسط آسيا وإيران وأوروبا الشرقية وبقيت بلاد الإسماعيلية والعراق وسورية ومصر جيباً جغرافياً وعسكرياً كان لا بد من الاستيلاء عليه وهذا ما قام به هولاكو وإذا كان العراق قد سقط بأيدي المغول نتيجة لخيانة وزيره ابن العلقمي فكيف نفسر سقوط كل هذه البلاد الممتدة من المحيط الهادي إلى أواسط أوروبا ومن هم الخونة الذين سلموها إلى الأعداء ثم كيف نفسر احتلال هولاكو لسورية واستعداده للزحف على مصر.

(ب) ربما تلقي ضوءً على رغبة المغول في ضم العراق إلى منطقة نفوذهم قبل سنين عديدة من استيلاءهم الفعلي عليه، المقابلة التي جرت بين الإمبراطور كيوك خان بمناسبة تنصيبه على العرش المغولي سنة 644هـ/ 1246م ورسول الخليفة حيث هدد الخان ذلك الرسول موعداً ومنذراً.

(ج) إن زحف هولاكو على العراق واحتلاله إياه إنما تم بناء على أوامر عليا أصدرها إمبراطور المغول مانغوخان سنة 651هـ/ 1253م بفتح البلاد الغربية التي ضمنها العراق وسورية ومصر يؤيد ذلك التقرير الذي رفعه (جانغ ته) الذي أرسله (مانغوخان) إلى أخيه هولاكو ودوّنه أحد الصينين المسمى (ليو) المتصلين بالسفير المذكور وما ورد في كتاب التاريخ الصيني للأسرة المغولية التي حكمت الصين والذي أمر بوضعه أحد أباطرة الصين وتم إعداده سنة 772هـ/ 1270م وقد ورد في كلا المصدرين أن مانغو خان أمر أخاه هولاكو سنة 651هـ/ 1253م بالزحف لاحتلال البلاد الغربية وإخضاع خليفة بغداد. وقد سبق هذا التاريخ حادثة الكرخ بثلاث سنوات على أقل تقدير وقد أيد ذلك ابن العبري والكتاب الموسوم بالحوادث الجامعة ورشيد الدين فضل الله.

ثانياً: أن القول بأن الوزير كان يسيطر على الخليفة تماماً بحيث أنه كان يمنع الرسل الذين يحذرونه من خطر المغول، مردود لأن الأدلة تشير إلى أن الوزير كان ضعيفاً غير مسموع القول وليس له نفوذ على الخليفة الذي كان واقعاً تحت نفوذ أعداء الوزير وخصوصاً مجاهد الدين الدويدار الصغير الشركسي الذي كان قائداً للجيش والدليل على ذلك ما يأتي:

(أ) إن الخليفة لم يعهد بالوزارة إلى ابن العلقمي سنة 642هـ/ 1244م إلا بعد أن عرضها على مربيه صدر الدين بن المظفر علي بن محمد النيار شيخ الشيوخ فامتنع عليه.

(ب) إن استباحة محلة الكرخ سنة 654هـ/ 1256م إنما تمت نتيجة لأوامر الخليفة القاضية بكف الشقي الكرخي الذي قتل أحد سكان محلة (قطفتا) السنية كما أن إيقاف الاستباحة بعد أن أفلت زمام الأمور من يد الحكومة بتسلط الغوغاء وأهل الفوضى إنما صدر من قبل الخليفة أيضاً وكان في محلة الكرخ أقارب للوزير فلو كان له أي نفوذ في الدولة وهو بمنصب وزير وهو يقابل رئيس الوزراء في عصرنا، لمنع استباحة المحلة المذكورة ولأوقفها عند حدها حفظاً لأقاربه على الأقل.

(ج) في الخلاف الذي وقع بين الوزير والدويدار الصغير قائد الجيش، لم يأخذ الخليفة برأي الوزير بل أنه صفح عن الدويدار مع عظم التهمة التي نسبت إليه.

(د) إن هولاكو كان يراسل الخليفة ويطلب منه نجدة وينذره بالقدوم إليه منذ أن كان يحاصر قلاع الإسماعيلية وكان الخليفة يستشير الوزير والدويدار وغيره من أفراد حاشيته وخواصه، وكانت نصائح الوزير معقولة تدل على تفهم لطبيعة الخطر المغولي من جهة وأحوال العراق من جهة أخرى ولم تكن تتضمن تغريراً بالخليفة ولا تآمراً عليه ولكن الخليفة كان يهمل نصائح الوزير ويأخذ برأي خصومه خصوصا الدويدار الصغير.

(هـ) وفيما يتعلق بمنع الوزير للرسل من الوصول إلى الخليفة أن الأدلة لا تؤيد ذلك لأن الخطر المغولي كان يهدد العراق منذ أيام الخليفة الناصر لدين الله أي منذ أن كان المستعصم بالله صبياً صغيراً وقد استمر أيام الظاهر بأمر الله والمستنصر بالله وأمره ذائع معروف وأخباره يعرفها الخاص والعام والمعروف أن المستشارين أيام الخطر العسكري هم العسكريون لا المدنيون ولم يكن الوزير عسكرياً، فكيف يعتمد عليه الخليفة دون قواد الجيش وأمراءه، وقد قدمنا أن الوزير لم يكن صاحب نفوذ على الخليفة بل أن النفوذ الحقيقي كان بأيدي الفئة العسكرية وعلى رأسها الدويدار الصغير عدو الوزير، ثم كيف كان يستطيع الوزير أن يمنع الرسل من الوصول إلى الخليفة وهل كان يلقي بهم في السجن وما هي الأمثلة على ذلك وإذا كان يفعل هذا فهل كان يستطيع منع أفراد العائلة العباسية من تحذير الخليفة أو الوقوف بين رجال الدولة الآخرين كصاحب الديوان وعارض الجيش والنقباء والمحتسب وغيرهم وأخبار الخليفة بحقيقة الأمر. ولو صحت هذه التهمة على الوزير لكان معناها أنه كان يترأس مؤامرة كبرى يشترك فيها أكبر رجال الحكومة لكن المصادر التاريخية تبين أن المراسلات كانت قائمة بين هولاكو والخليفة فعلاً وأنها لم تكن سرية لأن الخليفة كان يستشير فيها حكومته وأن الخليفة أرسل ابن الجوزي إلى هولاكو وأن هذا الرسول كان مخلصاً للخليفة بدليل أن هولاكو قتله بعد فتح بغداد.

ثالثاً: أما عن تآمر الوزير مع المغول لينصب علوياً خليفة للمسلمين بدلاً من المستعصم بالله فهو أمر مردود أيضاً لأن علاقة العلويين بالعباسيين كانت طيبة في هذه الفترة. وقد عرض المستنصر بالله على رضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن طاووس (ت 664هـ/ 1265م) أن يلقب رسولاً إلى سلطان التتر فرفض ذلك وعرض عليه أن يكون وزيراً ولكنه رفض أيضاً وقد قتل المغول الفاتحون العديد من العلويين ومنهم السيد شرف الدين بن الصدر العلوي وكان محترماً في الدولة العباسية وروسل به الملوك وقد قتلوا نقيب العلويين علي بن النقيب الحسن بن المختار وعمر بن عبد الله بن المختار العلوي حاجب باب المراتب كما قتلوا نقيب مشهد موسى الكاظم وأحرقوا المشهد نفسه. يضاف إلى ذلك كيف يرضى العلويون بتنصيب أحدهم خليفة للمسلمين من قبل المغول الوثنيين وهل كان الوزير يستطيع تدبير مثل هذا الأمر الخطير بدون استشارة كبار العلويين فمن هم هؤلاء؟؟ أما اتهام الوزير بأنه كان يعمل في اطماع المغول بالعراق ليكون نائباً لهم فهو مردود لأنه – أي الوزير – كان يشغل منصب الوزارة في دولة الخليفة وليس هناك ما يدل أنه كان سيمنح منصباً أعلى من ذلك.

رابعاً: اختلفت الروايات التي تعين رسل الوزير إلى هولاكو فمنهم من قال أنه أرسل أخاه ومنهم من قال أنه أرسل غلامه ومنهم من قال أنه راسل هولاكو بواسطة ابن الصلايا العلوي صدر أربيل يضاف إلى ذلك أننا نلاحظ ما يأتي:

(أ) إن كل ما قيل عن رسل الوزير إنما كان مجرد ترديد لإشاعات لا تستند إلى أي دليل فليس هناك حتى من أدعى أنه رأى أرسل ابن العلقمي إلى هولاكو أو قبض عليهم أو تحدث معهم أو شهدهم يدخلون على هولاكو.

(ب) إن هولاكو في مراسلاته مع الخليفة طلب مواجهة عدد من كبار رجال الدولة العباسية ولكنه لم يقصر طلبه على الوزير وحده في أية مرة من المرات وكان من المعقول أن يفعل ذلك لو كانت هناك اتصالات سرية بينهما.

(ج) إن ابن الصلايا العلوي الذي تزعم بعض المصادر أنه كان صلة بين الوزير وهولاكو لا يمكن أن يكون قد قام بالعمل الخياني هذا لأنه أحد الناس الذين أمر هولاكو بقتلهم.

خامساً: أن الوضع والتكلف يتضحان في نصوص الروايات التي تتهم الوزير فهو يحلق رأس رسوله ويكتب عليه بالأبر أو يجعل الكتابة على رأسه كل حرف كالحفرة وهو يخرج إلى هولاكو ليتوثق لنفسه ثم يعود إلى الخليفة ليبلغه أن هولاكو يرغب بزواج ابنته من ابن الخليفة وأن الأصلح الخروج مع أعيان الدولة لحضور عقد النكاح في وقت كان فيه الجيش المغولي يحيط ببغداد ويضربها بالمنجنيقات والمعروف أن هولاكو لم يجلب معه إحدى بناته عند زحفه على العراق. وهو يبعث إلى ابن الصلايا العلوي رسالة متكلفة في أسلوبها وأفكارها مثل: (فكان جوابي بعد خطابي لا بد من الشنيعة بعد قتل الشيعة.... الخ). ومثل: (فكن لهذا الأمر بالمرصاد وترقب أول النحل وآخر الصاد) وغير ذلك.

سادساً: إن الزعم بأن الخلفاء السابقين للمستعصم بالله وخصوصاً المستنصر بالله كانوا يتخذون جيوشاً كبيرة وأن الوزير ابن العلقمي عمل على صرفها وتفريقها ليسهل أمام هولاكو غزو العراق، أمر مردود للسببين التالين:

(أ) ليس هناك دليل يؤيد اتخاذ أولئك الخلفاء جيوشاً كبيرة بل يبدو أن العكس هو الصحيح فجيش الناصر لدين الله وهو أكثر الخلفاء العباسيين اهتماماً بالأمور العسكرية ورغبة في التوسع، لم يستطع الوقوف أمام الخوارزميين ومنهم السلطان جلال الدين منكوبرتي الذي لم يستطع بدوره الوقوف أمام المغول لأنهم هزموه وشردوه فكيف يستطيع الجيش العباسي وحده الوقوف أمامهم.

يضاف إلى ذلك أن غزوات المغول للعراق تكررت أيام المستنصر بالله وكان الخوف منهم يسيطر على البلاد ولو كان لدى الخليفة جيش كبير لهاجم المغول في قواعدهم وهي إيران مع أنهم لم يكونوا في عهده على ما وصفهم أستاذ داره غير (سرايا متفرقة وغارات متفقة) ولكن قوات الخليفة التي وقفت لمحاربتهم كانت ضعيفة وقليلة العدد.

(ب) كيف يستطيع الوزير إقناع الخليفة بصرف أكثر جنوده والاكتفاء بالقليل منهم في وقت كان الخطر المغولي يهدد الدولة العباسية والعراق وكان للخليفة مستشارون عسكريون متعددون على رأسهم الدويدار الصغير عدو الوزير؟؟

سابعاً: هناك مصادر مهمة لم ترد فيها أية إشارة إلى خيانة الوزير مثل كتاب (جهانكشاي) لعطا ملك الجويني الذي هو أحد المصادر الرئيسة في تاريخ المغول وقد سرد الأحداث إلى نهاية احتلال جيش هولاكو لقلاع الإسماعيلية وتدميره لدولتهم والمفروض أن مراسلات الوزير مع هولاكو إنما جرت أيام تلك الأحداث ولم يشر عطا ملك الجويني إلى أية مراسلات من هذا النوع مع أنه كان شديد الصلة بهولاكو وكان في رفقته عند زحفه على بغداد وقد مرّ بنا أنه – أي الجويني – أورد التهمة المنسوبة إلى الناصر لدين الله من أنه راسل ملوك الخطا. ولم ترد التهمة كذلك في الرسالة المنسوية إلى نصير الدين الطوسي (ت 672هـ/ 1273)م وقد رافق هولاكو إلى بغداد وكان كبير الإطلاع على خفايا الأمور. ولا يذكرها عبد الرحمن سنبط بن قنيتو الأربلي في كتابه (الذهب المسبوك) مع أنه عراقي معاصر للحوادث ولا يذكرها كذلك أبو الفرج ابن العبري في كتابه (تاريخ مختصر الدول) مع أنه معاصر اتصل بالمغول وعرف أخبارهم بينما يرفض التهمة ابن الطقطقي (وضع كتابه سنة 701هـ/ 1301م) وفوق كل هذا يفصّل رشيد الدين فضل الله أحداث الفتح ويشير إلى التهمة بأن مصدرها الدويدار الصغير عدو الوزير. ورشيد الدين مؤرخ عرف بصلته الشديدة بسلاطين المغول وأخبارهم وتاريخ شعوبهم وقد أطلع على المصادر الإسلامية والمغولية ولم تكن له أي مصلحة في الدفاع عن الوزير. ولا حجة لمن يقول أن هذه المصادر كتبت في ظل المغول وتحت ضغطهم لأن عبد الله بن فضل ا لله الشيرازي الذي عرف بوصاف الحضرة لمدحه سلطان المغول الايلخاني محمد خدابنده، شدّد التهمة على الوزير وقدم كتابه إلى السلطان المذكور. كما لم يردنا من الأخبار ما يفيد أن حكام المغول كانوا يأمرون الكتاب والمؤلفين بالدفاع عن الوزير بل هناك من المصادر الإسلامية من يزعم أن هولاكو قتل الوزير ابن العلقمي لأنه خان مخدومه الخليفة ولم ترد التهمة في كتاب ابن الفوطي البغدادي تلخيص مجمع الآداب وهو معاصر كبير الإطلاع.

ثامناً: إن سلامة شخص الوزير وداره ومشاركته في اللجنة التي أعادت تنظيم بغداد والعراق بعد الفتح لا تقوم حجة على خيانته لأن صاحب ديوان الخليفة المستعصم بالله أي وزير ماليته وحاجب الباب في عهده أي مدير شرطة العاصمة قد عوملوا بنفس المعاملة كما سلم أقرب مستشاري الخليفة إليه صديقه عبد الغني بن الدرنوس وسلم الابن الأصغر للخليفة مع أخواته فاطمة وخديجة ومريم. وقد كان هولاكو بحاجة إلى من يدبر أمر العراق بعد فتحه وكان الوزير وصاحب الديوان وحاجب الباب خبيرين بأموره فأشركهم في لجنة عهد إليها أمر تنظيمه ومن المحتمل أن هولاكو أعجب بالوزير عند مقابلته له نيابة عن الخليفة فاستبقاه والأرجح أن شفاعة نصير الدين الطوسي له كانت أهم سبب في نجاته.

تاسعاً: تجمع الروايات أن هولاكو لم يفرّق في استباحته لبغداد بين السنيين والشيعيين بينما استثنى النصارى والمعقول أن ابن العلقمي لو كان قد اتفق مع المغول على تسليم بغداد لهم انتقاماً من السنيين لحفظ له المغول جميل عمله فلم يقتلوا الشيعة على الأقل.

عاشراً: أما سقوط بغداد نفسها لم يكن للوزير أي دخل فيه لأنه تم بعد هزيمة جيش الخليفة بقيادة الدويدار واستيلاء المغول على أسوار المدينة وسبب ذلك تفوّق المغول الواضح في العدد والعدة والقيادة والمعنوية.

والخلاصة ليست هناك دلائل تدين ابن العلقمي بالخيانة وقد كان سقوط بغداد أمراً متوقعاً منذ تدمير المغول لدولة خوارزم وقتلهم آخر سلاطينها جلال الدين منكوبرتي سنة 628هـ/ 1230م ولو أراد المغول فتح العراق آنذاك لما وجدوا صعوبة في ذلك وخيانة ابن العلقمي حتى لو صحت ما كانت تعمل أكثر من تشجيع هولاكو على قصد العراق وما كان هذا في حاجة إلى تشجيع لأنه كان يحمل أوامر عليا بالفتح أصدرها إليه الإمبراطور مانغوخان ومعه جيش متفوق على عدوه تفوقاً ساحقاً في العدد والعدة لم يستطع الإسماعيلية إيقافه بالرغم من كثرة عدد حصونهم وامتناعهم في جبال عالية وقمم شاهقة بينما تقع بغداد في سهل فسيح يسهل الإحاطة بها وقطع الميرة عنها. ويبدو أن إلصاق تهمة سقوط بغداد بالوزير إنما غايتها تبرير الإهمال والتسبب اللذين سيطرا على إدارة العراق منذ بداية الغزو المغولي لدولة خوارزم سنة 616هـ/ 1219م وقد كانت الخطة الصحيحة المناسبة آنذاك هي محاربة المغول منذ أول ظهورهم في بلاد ما وراء النهر وخراسان وليس التفرج على هجماتهم وفظائعهم وانتظارهم عند أسوار بغداد ثم اتهام الوزير بأنه السبب في سقوط المدينة.


[1] - اليزك: الطليعة.

[2] - أي أتباع أركون ومعناه الدهاقنة العظماء وهي كلمة يونانية (حاشية مختصر الدول).

[3] - المفهوم من هذا الخبر أن هولاكو أمر بقتل جميع الجواري اللواتي باشرهن رجال بني العباس من الأسرة المالكة فأمر بقتلهن لئلا يكن كلا أو بعضاً حوامل بأبناء يصلحون للخلافة وهو يريد قرضها بالكلية.

[4] - في الأصل من الترجمة (سيل) وليس في تاريخ بغداد سيل واحد.

[5] - الصواب (ارتفاع الماء)

[6] - في الأصل (الزناطرة)

[7] - الصواب (يسلبون جماعة من الناس الأبرياء أموالهم).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 25 تشرين الثاني/2007 - 14/ذوالقعدة/1428