الاجهزة الامنية والآمال الكبيرة

محمد علي جواد

 هناك مقولة تتردد في أوساطنا الإعلامية والأوساط السياسية أيضا بأن (عقارب الساعة لا تتحرك الى الوراء)؛ هذه المقولة وتستخدم في إيصال رسالة زجر الى المتباكين على عهد صدام؛ لكن أمامنا مقولة اخرى تقول: (ان التاريخ يعيد نفسه)؛ فإذا كانت عقارب الساعة وحركة الزمان الى الأمام دائما، وليس بمقدور الشاب العودة الى طفولته والشيخ الهرم الى شبابه وصباه، فإنه قد يعود ويكرر مواقفه ويمرر أفكاره وأساليبه وهو في مراحل مختلفة من العمر، وعند هذه النقطة تحديداً أمسينا نتساءل سبب تطابق المقولة الأولى على مرحلة ما بعد صدام ونظامه، ولماذا لم نتخلص من جميع ما كنّا نعانيه ونكابده آنذاك وقد مر على انهيار نظام صدام أكثر من أربع سنوات؟

يكاد معظم العراقيين يجمعون على ان صدام اخذ منهم كل شيء وأعطاهم الأمان، والمقصود بالأمان طبعا ما يفقدونه اليوم، وإلا فإن الأجهزة القمعية المتعددة آنذاك لم تتشكل لتوفير الأمن والاستقرار للناس وإنما لمطاردة المعارضين او الهاربين أو (غير المرغوب فيهم)، أما في الوقت الحاضر فإن ما أطلق عليه بالعملية السياسية وما أفرزته من رموز وكيانات ووجودات على الساحة فقد أعادت الكثير مما سلبه صدام لكن هذا تم بانحلال عقد الأمن الاجتماعي، وبات كل إنسان قادر على فعل كل شيء، بمعنى ان الشعب العراقي دفع ثمن سقوط صدام بضياع الأمن والاستقرار، وبقطع النظر عما إذا كان ذلك بسبب الظروف الداخلية والخارجية أم كان متعمداً ومعد له سلفاً، فإنه حصلت في ظل هذه الأوضاع تطورات هائلة في المجالين الاقتصادي والسياسي لم يكن يحلم بها احد، حيث انفتحت أسواق العراق على العالم ونشط التبادل التجاري، كما نشط قطاع النفط، أما في المجال السياسي فللقارئ ان يتحدث ولا حرج حتى باتت مثاراً للسحرية كثرة الأحزاب والجماعات المدعية إنها (سياسية) تتقدمها واجهاتها الإعلامية من صحف بلغت المئات حتى ان بعضها كان يتحدث بلسان شخص واحد!...

 هذه التطورات كان صدام قد منع حصولها بقوة السلاح وتهديد الموت، لكن بزوال السد وانتشار الوعي في كل ارجاء العراق، هل زالت تلك الوسيلة التي كان يتبعها صدام لإسكات المعارضين او إيقاف من يريد إيقافه؟!

بالطبع كلا... والسبب يجيب عنه المسؤولون ونتفق الى حد ما معهم بأن فرض القانون والنظام لا بد له من وسيلة رادعة تضرب على يد من تسوّل له نفسه خرق القانون، بل إن هذا المفهوم بات راسخاً في أذهان الناس وزاد هذا المفهوم رسوخاً حالة الفلتان الأمني الذي طالما تجرع مرارته المواطنون خلال السنوات الماضية في معظم مناطق البلاد، إذاً فالشرطي أو الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للحكومة مبعث لأطمئنان النفوس.

لكن عندما يسمع الناس بوقوع جريمة قتل بشعة في إحدى أحياء كربلاء المقدسة قيل انه نفذها رجال يرتدون البزات العسكرية ويستخدمون العجلات قوات الامن، فإن صدمتهم تكون كبيرة، ومبعث الصدمة هنا ليس من السهولة في عودة اساليب صدام واجهزته القمعية في التعامل مع المعارضين، إنما في تجاوز شعارات براقة وعريضة تتحدث عن مفاهيم الديمقراطية والمشاركة السياسية ومنظمات المجتمع المدني وحقوق المرآة والطفل و... الى آخر القائمة، وكل ذلك يتم بدم بارد، علماً إن مقابل هذه الديمقراطية والبديل الجديد لديكتاتورية صدام قدم الشعب العراقي حتى الآن شهداء ومعوقين وأرامل وأيتام من الصعب على إي جماعة او مؤسسة عدهم وإحصائهم، وحسب آخر إحصائية قدّرت الضحايا من العراقيين بأكثر من مائة ألف قتيل... كيف مات هؤلاء و كيف بلغ هذا الرقم الهائل في بلد محطم مثل العراق؟.

لقد انتصرت الدموية والنزعة الإرهابية على هؤلاء وهي ما تزال تهدد جميع أفراد الشعب العراقي وتبقى كذلك الى أمد غير معلوم، والسبب هو ان هذا الشعب اعزل من المفاهيم والقيم التي تحميه من بطش المتعطشين للقتل والذين لا يستطيعون النوم ليلاً قبل السطو على جدران او أسطح الناس، ولعل فترة الأربع سنوات الخوالي كانت كافية لاستفحال هذا الداء الوبيل حتى بات الجميع يعده امراً واقعاً لا طاقة لهم على تغييره، وعليه لا تجد الأجهزة الأمنية بداً من فعل كل شيء تحت لافتة (فرض القانون)، طبعا نسوق العبارة على سبيل المثال والتوضيح ولا نقصد بها ما تقوم به الأجهزة الأمنية في العاصمة بغداد من تنفيذ لخطة (فرض القانون)..

 ومن العوارض المرضية الخطيرة لهذا الداء هو استخدام العنف تحت لافتة (القانون) لتتبع عثرات وسقطات من لديه تلك النزعة الإرهابية، ونقصد بالإرهاب هنا في بعده النفسي والاجتماعي وليس السياسي الذي يرمز الى جماعات بعينهاـ، حتى وان كان ذلك الشخص او الاشخاص طباع صدامية ذوي قد ركنو في بيوتهم وأسدلوا الستار على مشاهد عرض العضلات، ويجب الا يخفى على الاجهزة الامنية والمسؤولين الحكوميين ومثالنا كربلاء المقدسة، ان الشريحة الواسعة من الناس تطالب بالامن والاستقرار للتفاعل مع المرحلة الجديدة بما تحمل من تباشير الديمقراطية وحقوق الانسان والتقدم في كافة المجالات، علاوة على انها تنظر الى السلاح الذي يحمله المنتسب الى الشرطة او فوج الطوارئ او مغاوير الداخلية او الجيش العراقي وغيرها من الاجهزة الامنية والعسكرية، معد لاطلاق النار بوجه الجماعات الارهابية والتكفيرية القادمة من وراء الحدود والساعية دائماً لتمزيق الشعب العراقي وتدمير بناه التحتية من خلال اشاعة اجواء الرعب واشاعة اليأس والاحباط.

من هنا يبدو ان وزارتي الدفاع والداخلية ليستا مسؤوليتين فقط عن اعداد قوائم المنتسبين وصرف الرواتب وتأمين المعدات العسكرية والعمل على تحديثها، وانما مسؤولتان عن اي تبدل او تغيّر في نظرة الناس أزاء مفهوم الامن بسبب استخدام اهوج وغير منضبط للسلاح للتعامل مع اي قضية او مسألة مهما كانت كبيرة في نظر المسؤولين.. وهنا لا بد من الاشارة الى حقيقتين هامتين:

الاولى: إن المسؤولين الحاليين ليس بوسعهم الحديث عن مصطلح (أمن الدولة) او (الامن القومي) وهو ليس انتقاصاً او مأخذاً على الاداء السياسي الموجود بقدر ماهي حقيقة على ارض الواقع فرضتها القوات الامريكية بنفسها خلال الاربع سنوات الماضية من احتلالها للعراق وتبقى كذلك لأمد غير معلوم، ولم يعترض يوماً أي مسؤول أو يوضح لابناء شعبه بأن ما يقال أن المنطقة الخضراء الوحيدة التي توفر الامن للحكومة في بغداد غير دقيق او مبالغ فيه... وفي معظم دول العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة وحتى دول العالم الثالث يرفعون شعار (امن الدولة) او (الامن القومي) عالياً امام الناس لتمرير خطة معينة او تنفيذ قانون ما بداعي تحقيق الامن العام...

اما الحقيقة الثانية، فهي اننا نشهد وجود واجهات عسكرية لجماعات عديدة لم نشهد لها اي دور في اسقاط نظام صدام، ولم تسجل للتاريخ وللاجيال رصاصة واحدة على تمثال لصدام او جدار لمؤسسة مخابراتية او قمعية كما حصل وشهدناه خلال الانتفاضة الشعبانية المجيدة... فالجميع وقفوا ينتظرون ما تؤول اليه الحرب التي شنتها القوات الامريكية على قوات النظام البائد، فقد خاضت شعوب عديدة في العالم تجارب ثورية ناجحه اطاحت بانظمة ديكتاتورية بقوة السلاح او قوة الشارع والتظاهرات السلمية، لكن في مرحلة لاحقة توجه الجميع الى البناء والاعمار يدا بيد، ومثالنا في ذلك ايران وقبل ذلك الجزائر وغيرها...

ان ما حصل في مدينة كربلاء المقدسة مؤخراً خلال عمليات المداهمة ومطاردة مطلوبين من اعتداء على امرأة بالضرب وقتل طفلين صغيرين ربما لم يكن الاول ولن يكون المشهد الاخير الذي يتناقله الناس، سوى ما اضفي عليه من إثارات اعلامية رخيصة خدمة لأهداف سياسية دنيئة بعيدة عن اهداف وطموحات الشعب العراقي، إلا انه سيذكرنا بالطريقة التي كان نظام صدام يتبعها في استخدام القوة لفرض القانون، فالقانون والامن والاستقرار آنذاك لم يكن لافراد الشعب وانما لافراد العائلة الحاكمة وعلى رأسها صدام ومن يدور في فلكه، وما ان فقد هذا الامن وتحول اتباع هذا النظام الى مشردين ومشبوهين، عادوا ينتقمون من هذا الشعب حتى لا تكتمل فرحته ولا تظهر ابتسامته بزوال ذلك النظام الديكتاتوري البشع، وكلما تراجع عدد هذه المشاهد الدموية في مدننا واحيائنا، سنتمكن من طيّ الماضي التعيس والتطلعّ الى افق مشرق لهذا البلد العظيم.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 17 تشرين الثاني/2007 - 6/ذوالقعدة/1428