(العورة) تعني العوراء ومذكرها اعور ومنه الاعور الدجال وهو شرير
يتزامن ظهوره وظهور الامام المهدي مصلح آخر الزمان بحسب الروايات
الدينية الاسلامية. وسوق (العورة) مكان في (الشركة) وهي منطقة نالت
اسمها من مقر الشركة التي اشرفت على فرز وتقسيم الاراضي على الاهالي في
زمن الزعيم قاسم, وتسمى منطقة الشركة ايضا بـ(الشيشان) وتقع في ضاحية
الصدر شرق بغداد. واما السبب وراء اطلاق تسمية الشيشان عليها فهو
انعدام وسائل النقل مما يضطر الناس الى قطع مسافة كيلو متر للوصول الى
مكان تجمع سيارات النقل الروسية والمعرفة بـ( الشيشانية) ومن هنا جاءت
التسمية.
ومنطقة الشركة تشتمل على عشرة قطاعات يحتوي كل قطاع على الف دار حسب
التصميم الاساس مساحة كل دار لا تتعدى المائة واربعين مترا مربعا . اما
لماذا اطلق اسم (العورة) على السوق ؟ فلذلك قصة مفادها ان امراة عوراء
كانت مشهورة ببيع السمك في سوق تلك المنطقة البائسة وكان يستدل على
السوق من خلال هذه المرأة فيقال سوق العورة حتى طارت شهرتها في الافاق
وفي سبب أعورارها قيل الكثير مما لايسع المقام لذكره.
وعلى أية حال فقد قمت قبل أيام برحلة الى سوق العورة بمعية سياسي
عراقي بارز لتفقد المكان والتحدث الى الاهالي هناك عن كثب بعد ان شهد
مجزرة ارتكبتها القوات الامريكية بحق السكان العزل تحت ذريعة مطاردة
مطلوبين. كانت رحلة مؤلمة بكل ما تعنيه الكلمة.
نعم رحلة لأننا انتقلنا من عالم الى آخر يكاد يختلف كليا عن بقية
عوالم بغداد. من عالم غرب بغداد الى عالم شرق بغداد, فالناس في سوق
العورة بقايا بشر او يكادون. البؤس والفقر والمرض والهلع وأنعدام
الخدمات الاساسية من ماء وكهرباء وطرق معبدة اهم معالم سوق العورة, لا
أثر للحكومة هنا, فسكنة عالم المنطقة الخضراء في كرخ بغداد من وزراء
ووكلاء ومسؤولين وبرلمانيين والذين لا يفصلهم سوى نهر دجلة عن سوق
العورة لم يدر بخلد أحدهم تفقد هذا المكان وعلى ما يبدو ان لانية لديهم
ان يتركوا حصونهم وقلاعهم في الخضراء ليتفقدوا المساكين والمحرومين
والفقراء في الضاحية الجرداء اعني مدينة الصدر ومنها سوق العورة . يخيل
اليَّ لو قدر للعورة أن تبعث لترى ما حل بمنطقتها لفقعت عينها الثانية
كمداُ وحزنا واصبحت عمياء.
فوجوه الناس هناك غير وجوه أهل الاحياء الراقية في بغداد. وجوه غاب
عنها أي الق وترك الدهر الخؤون أثاره عليها أخاديد تراها في وجوه
الشباب قبل الكهول. السواد في كل مكان ,فهو قطعة قماش على الجدران تنعى
لك فقد هذا الشاب أو موت ذاك العجوز, وهو لباس يرتديه (الشراكَوه)
الاسم الذي يعرف به ساكنى هذه الضاحية المنكوبة ولم يخلعوه منذ أمد
بعيد فهم من نكبة الى آخرى .
قادتنا رحلتنا الى هذا المكان المنسي من بغداد أعني مدينة الصدر الى
بيت نال نصيبه من رشقات (الاباتشي) التي كانت تطارد الاشباح. البيت
عبارة عن نصف دار لاتتعدى مساحتها السبعين مترا مربعا يقطنه خمسة عشر
فردا , الجد والجدة وأبنائهما الثلاثة واحفادهما العشرة, هو نموذج
لبقية بيوت المنطقة التي تعاني من أختناق سكاني, كتل بشرية تتراكم فوق
بعضها البعض. ما تبقى من الشضايا انتشر في باحة المنزل التي لاتتعدى
مساحتها الثلاثة امتار مربعة. اما واجهة المنزل فغدت اشبه بالمنخل منه
الى شئ آخر بفعل الاطلاقات. أين اصحاب الدار؟ سئلهم صاحبي الذي جاء
ليتفقد المكان بنفسه فجاءه الجواب سريعا قتل طفلان وجرح أربعة ورب
الدار ومعه بقية الاسرة في المستشفى يرعون جرحاهم.
تركنا المنزل واتجهنا صوب سرادق توشح بالسواد حيث العزاء على ضحايا
الغارة الامريكية أقامها ابناء منطقة سوق العورة يندبون شهدائهم, دخلنا
الى بيت العزاء ورغم الحزن الذي كان يخيم على ارجاء المكان استقبلنا
المعزين بالحفاوة وبكرم الضيافة العراقية. ( والذين إذا أصابتهم مصيبة
قالوا أنا لله وأنا اليه راجعون) بهذه الاية الكريمة افتتح الخطيب مجلس
الندب والعزاء مصبرا ذوي الضحايا ومذكرا أياهم برحمة الله الواسعة.
الكآبة والحزن تخيمان على المكان , عويل النساء النادبات يمخر عباب
السماء, رائحة الموت تنتشر في ازقة المنطقة الضيقة لا احد يدري من
سيكون الهدف القادم ومتى؟
لماذا هذا الصمت من مجلس النواب عما يجري معنا ؟ اين اصحاب الكروش
الذين أنتخبناهم؟ لماذا لا يأتوا الينا ليطلعوا على مأساتنا؟ اسئلة صرخ
بها رجل في الاربعين من العمر يرتدي لباسا أسودا وقد غزى الشيب رأسه.
راح يتحدث الى صاحبي السياسي وقد انتفخت أوداجه واحمر وجهه ثم بصق على
اصبعه وقال ياليتني قطعت هذا الاصبع ولم انتخبهم في أشارة منه على ندمه
لأنتخابه المترهلين الذين سرقوا صوته ولم يقدموا له او لمدينته شيئا
يذكر سوى الوعود الكاذبة وقد انقضت قرابة السنتين على انتخابهم. الصراخ
الهستيري لهذا الرجل هو نموذج عما يدور في خلد الناس في ضاحية الصدر
فهم بين سندانة الترهل الحكومي ومطرقة الامريكان.
وقبل ان ننهي الرحلة دلفنا الى مستشفى الضاحية والذي يحمل اسم
الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه هناك رأينا المأساة بعينها.
الجرحى ضاقت بهم المستشفى التي تفتقر الى أدنى الخدمات, شحة في الدواء
والمغذيات , اسرة قديمة ولا دليل على وجود أجهزة طبية حديثة. لا تسمع
سوى انين الجرحى او بكاء الثكالى, عجوز تعتمر العمامة التي ترتديها
نساء الجنوب العراقي افترشت ارض المستشفى وراحت تندب موتاها بحرقة :
ردتك ما ردت دنيا ولا مال
اتحضرني لو وكع حملي ولا مال
يابني خابت اظنوني والامال
عند الضيج يابني اكَطعت بيه
بهذه الابيات الشعرية كانت تندبهم بإيقاع جنائزي وبحالة تدمي القلب
وتدمع العين. سئلهم صاحبي السياسي الذي أغرورقت عيناه بالدمع من هذه
المرأة؟ اجابوه انها جدة الطفلين اللذان قتلى بالقصف الامريكي وبصمت
اعضاء البرلمان الذي لا يضاهيه سوى صمت اهل القبور.
غادرنا عالم سوق العورة في شرق بغداد واتجهنا صوب الغرب وصادف لحظة
مرورنا قرب عالم المنطقة الخضراء مرور رتل طويل من السيارات المصفحة,
سألنا من هؤلاء قالوا اعضاء في الحكومة وفي البرلمان انهوا للتو عملهم
في المنطقة الخضراء وهاهم يعودون الى بيوتهم في المنطقة الخضراء. اما
ابناء سوق العورة فهم ليسوا بحاجة الى المصفحات ليذهبوا الى عملهم
لانهم اصلا بلا عمل منذ الانتخابات.
[email protected] |