في عام 1996م نشر هينتينجتون كتابه الموسوم " صراع الحضارات" فأثار
جدلا حادا بين المثقفين والسياسيين وأظهر استغراب الناس الشديد من هذا
الطرح الغريب! وقد وصف البعض هذا الرجل بأنه واسع الخيال وغريب التصور.
بينما راح بعض المحللين السياسيين الى أبعد من ذلك، حيث وصفوا طرح
هينتينجتون بأنه جزء من مخطط سياسي أمريكي وسلسلة تحضيرات منظمة
لصراعات مرسومة تقوم بها الإدارة الأمريكية في مناطق الشرق الأوسط.
وبمرور الأيام والزمن تتكشف بعض الحقائق التي تدعم والى حد ما رأي
هؤلاء المحللين السياسيين!
عندما إجتاحت القوات الأمريكية كل من إفغانستان والعراق وبحجج
مختلفة، كان في كتب سجلها السياسي مشروعا إستراتيجيّا كبيرا لوّحت
الإدارة الأمريكية الى بعض عناوينه، فسمعنا مثلا " مشروع الشرق الأوسط
الكبير" و " دول محور الشر" و" الديمقراطية في الشرق الأوسط" وغيرها من
المصطلحات البراقة التي تعني نوايا أمريكية مبيته بإجراء تغييرات جذرية
واسعة في خارطة الشرق الأوسط. إلاّ أن بنود هذه المشاريع الأمريكية
توقفت عن التنفيذ بسبب المأزق الكبير الذي تعرضت له أمريكا في العراق،
حيث لم تفلح الإدارة الأمريكية من تحقيق أهدافها المرسومة في جدول زمني
كانت قد حصرته من قبل!. إلاّ أن الفشل الأمريكي في بداية المطاف لا
يعني رجوعها مع مشروعها من حيث أتت وبهذه السهولة، بل يعني تفاعلات
وردود فعل حثيثة مختلفة تتباين بتباين الأوضاع والظروف المستجدة، حيث
لا يستطيع أحد أن يتنبأ بتفاصيلها وخصائصها اليوم.
المتابع لمسيرة الأحداث وخضم التطورات الميدانية في العراق يستنتج
بأن فتن كبرى قد حصلت وتحصل بإستمرار في هذا البلد ومنذ يوم إجتياح
العراق والى حد هذه الساعة! نترك للقارىء الكريم فرصة التمحص
والإستنتاج بكنه هذه الفتن وطبيعتها وفيما لو كانت قد جاءت مرسومة أصلا
من قبل الإدارة الأمريكية أم إنها تحصيل حاصل أو نتائج عرضية غير
مقصودة!
1- جاء الأمريكيون بديمقراطيتهم وأدخلوها الى العراق ضمن سياقات
وبرامج مرسومة قامت على مبادىء مثيرة للجدل في نتائجها ومردوداتها. فقد
كانت المحاصصة الطائفية والعرقية مثلا من بين الإجراءات والمبادىء التي
أقيمت على أساسها أوتاد هذه الديمقراطية. وهذا ما أدى الى تقوقع أو
إنكماش سياسي واضح تسبب في إعاقة الحركة السياسية واصابتها بالفشل، بل
مهد السبيل لخلق حواجز طائفية وعرقية في المجتمع العراقي الموحد.
صاحب هذا المبدأ إجراءات تحفيزية أخرى لشق وحدة العراقيين وخلق
حالة من الكره والعداء فيما بينهم. لقد كان ذلك من خلال حل أنظمة
الشرطة والجيش وبعض الوزارات والمؤسسات الرسمية الأخرى، وإصدار قانون
إجتثاث البعث. كذلك مداهمة وقصف الأحياء السكنية الآمنة ونشر صور
أساليب تعذيب السجناء العراقيين وفتح حدود العراق أمام الشارد
والوارد،وتهميش القوى الوطنية غير الطائفية وإبعادهم عن المسار السياسي
القائم وإهانة الكفاءة والقدرة العراقية الحقيقية وعدم الإكتراث بها!
كلّ هذه الأمور قد ساهمت وبشكل أكيد في إشعال الفتنة الطائفية وغير
الطائفية وفي خلق حالة من عدم الإستقرار الإجتماعي والأمني والإقتصادي
والخدمي والسياسي في هذا البلد.
2- الفتنة الطائفية لم تقتصر حدودها على صراع طائفي بين الشيعة
والسنة فحسب، إنما تعدى ذلك الى صراع شيعي- شيعي وصراع سني- سني! فمن
يتمحص مليّا في تفاصيل الأمور يرى بأن الأمريكيين ومنذ البدء قد قرّبوا
فصائل من الشيعة دون أخرى وفصائل من السنة دون غيرها. هذا التهميش أو
الإقصاء المتعمد الذي وصل الى حد المحاربة والتسقيط لبعض الفصائل ذات
المد الشعبي الكبير قد ولّد أنساغا متضادّة متقاطعة فيما بينها داخل
الطائفة الواحدة مما ينذر بصراع عنيف داخلي بين ابناء الطائفة نفسها.
وهذا ما نلاحظه اليوم على أرض الواقع،فالصراع الداخلي الكامن داخل
الطائفة الواحدة يظهر للعيان بين الفينة والأخرى على الساحة العراقية،
وهذا ما يشير الا أن الأوضاع داخل الطائفة الواحدة تنتظر ساعة الصفر كي
يحصل الإنفجار الكبير!
3- كان العراق يسمّى بالبوابة الشرقية للدول العربية والدرع الواقي
أمام "الرياح الصفراء" الهابة من الشرق! وقد باركت أمريكا هذا التصور
ووقفت معه إبان سنين الحرب الطويلة بين العراق وإيران. أما اليوم فقد
فتحت أمريكا هذه البوابة على مصراعيها فدخلت الرياح الصفراء والحمراء
والسوداء على حد سواء! حتى أضحت هذه الرياح تلامس وبشدة أركان دول جوار
العراق دون حاجز أو مانع! فما المقصود بذلك...!؟. ألم تعد هذه الدول
التي كانت تحميهم البوابة الشرقية مهمة عند الأمريكيين الى درجة أن
تتركهم أمريكا اليوم أمام مهب الريح!؟. هل سيطلق الأمريكيون للإيرانيين
العنان من أجل أن يملؤوا الفراغ في العراق وكما وعد رئيسهم أحمدي
نجاد...!؟ وهل سيملأ هذا الفراغ بالرياحين والورود الإيرانية كما ملأته
الرياحين والورود الأمريكية من قبل! أم سيملأ بالدم والمال الإيراني
وغير الإيراني...ا!؟ هل حقا أمريكا تقدم العراق هدية سخية وعلى طبق فضي
"لحبيبتها" إيران! أم أن السم الذؤام قد ملأ الطبق بما يحويه...!؟. من
سيكسب هذه اللعبة؟ هل أمريكا ودول الغرب الأخرى ستبقى متفرجة أمام
الإيرانيين وهم يحتفلون بكسب معركة العراق أم أن وقت الحساب العسير لم
يحن بعد...!؟. ربما الذي سيحصل في المستقبل من فتن جديدة في العراق
وبكل ما يحيط العراق من دول الجوار هو إمتداد حي لفتن أمريكية قائمة في
هذا البلد اليوم.
4- الأمريكيون يعلمون كما يعلم كل العالم بأن تقسيم العراق الى
اقاليم منفصلة يعني قيام دولة كردية في شمال العراق، وهذا هو خط أحمر
تعتد وتتمسك به تركيا كما تعتد وتتمسك به سوريا وإيران. والديمقراطية
المستحدثة في العراق ستؤدي عاجلا أم آجلا الى هذا الإنفصال إن بقيت
الأمور تراوح على حالها دون تدخل قدرة قادر! وهكذا فإن نشوء دولة كردية
في العراق يعني نشوء نواة كردية تستطيع أن تستقطب الجهود والمساعي في
إرساء قاعدة ومنطلق للأكراد الآخرين في المناطق الكردية المجاورة.
سيكون سعي الأكراد في تركيا وسوريا وايران من أجل الإستقلال حثيثا
وستستعمل كافة السبل والطرق من أجل تحقيق ذلك بما في ذلك الأعمال
العسكرية وبكل أشكالها. لقد بدأت بوادر هذا السعي تلوح في الأفق اليوم،
حيث نرى مدى التوتر الحاصل بين الأتراك والأكراد على حدود العراق
الشمالية.
تحشيد قوات تركية ضاربة على الحدود العراقية- التركية يعني نية
تركيا بإجتياح مناطق في شمال العراق سواء كان ذلك عاجلا أم آجلا، هذا
الإجتياح سوف يفرز الكثير من التساؤلات والإستفسارات وسوف يزيد من
قرائح المحللين السياسيين في طرح تصوراتهم ووجهات نظرهم : هل سيكون
الإجتياح التركي لشمال العراق بمباركة أمريكية أم أنه تمرد على الإرادة
الأمريكية في هذا الشأن؟. وأن كان هذا الإجتياح مخالفا لرغبة أمريكا،
فما الذي سيحصل اليوم بين حلفاء الأمس! وما علاقة ما يحدث على الساحة
بتصرفات إحدى لجان الكونغرس الأمريكي التي أعترفت بتعرض الأرمن للإبادة
الجماعية على يد الأتراك منذ ما يقارب المائة عاما!؟ ولماذا يكثف حزب
العمال الكردستاني هجماته على تركيا اليوم!؟. هل هدف تركيا من هذا
الإجتياح، إن حصل، هو تنظيف المنطقة من أعضاء حزب العمال الكردستاني
فقط أم أنه حجة لتواجد دائم ومستمر في هذه المنطقة!؟ وماذا سيكون ردود
أفعال دول جوار العراق وهم يرون تركيا تحتل شمال هذا البلد!؟. جميع هذه
الأسئلة الشائكة ربما تحمل أجوبة شائكة أيضا قد لا ترضي الذين يحرصون
على سلامة العراق وعلى وحدة أراضيه!
5- محنة العراقيين لم تقتصر على ضياعهم في متاهات الداخل العراقي
فحسب، انما سيدفع العراقيون أيضا ثمن نتائج الصراعات القائمة حاليا أو
التي ستقوم في المستقبل القريب بين أمريكا وايران في شأن التقنية
النووية الإيرانية من جهة وبين أمريكا وسوريا بشان الأوضاع المتأزمة في
لبنان من جهة أخرى. وان كان انشغال أمريكا في العراق قد أجل الإجراءات
الأمريكية في هذه الشؤون في الوقت الحاضر، فهذا لا يعني أبدا إسدال
ستار النسيان على هذه الأمور الإستراتيجية الهامة في السياسة الأمريكية
الى ما لا نهاية.
الذي يتمحص في الوضع العراقي الحالي مليّا يجد بأن الفتن الواقعة في
العراق هذا اليوم هي اقل وأخف من الفتن السابحة في فضاء المستقبل! حيث
سيدفع العراقيون، بالإكراه، ثمنا باهضا لبضاعة الديمقراطية المستوردة
والمغشوشة التي حوت في طياتها أعقد المشاكل وأصعب المحن! |