يعلم الله كم ترددت في صياغة هذا العنوان المقرف. لكني وجدت نفسي
مضطرا لاستعارة هذا التشبيه القاسي. لأنه يصيب كبد الحقيقة, ويعكس مدى
التدهور والتلوث الذي يتعرض له هذا النهر الخالد الآن.
فلو تخيلنا أن للعراق جسما كجسم الإنسان. برأسه, وأطرافه, وقلبه,
وانفه. فان شط العرب سيكون مثانته الممتلئة بكل الفضلات والملوثات
والسوائل والمواد القذرة التي حملتها مياه دجلة والفرات والكارون.
فمعظم المحافظات العراقية والسورية والإيرانية. إن لم تكن كلها تلقي
بفضلاتها في هذه الأنهار. فتحملها التيارات المائية نحو الجنوب. وتتجمع
في شط العرب. مكونة اكبر مستنقع في العالم للمياه الآسنة. لا سيما أن
جميع مجاري وأنابيب الصرف الصحي, بكل محتوياتها الثقيلة والخفيفة,
مسلطة منذ أمد بعيد باتجاه شط العرب. باعتباره المستودع الرئيسي
لتجميع وتصريف كل المياه الملوثة الواردة اليه من المدن العراقية, وغير
العراقية..
فهو إذن المثانة الرئيسية لثلاثة دول. ناهيك عن مياه البزل للحقول
الزراعية, وما تجرفه معها من أملاح ومواد كيماوية... ومياه الأمطار,
وما تجرفه معها من أوساخ وقاذورات الشوارع والمدن. فضلا عن النواتج
العرضية التي تقذفها المعامل من نفايات صناعية. وما تقذفه المستشفيات
من نفايات طبية ضارة. والحصيلة النهائية هي مجموعة من التراكيب السمية
القاتلة الشديدة التعقيد..
تشترك جميع شبكات ومجاري الصرف الصحي لثلاثة دول في تصدير فضلاتها
ونفاياتها إلى شط العرب. ابتداء من سوريا ومرورا بالعراق وإيران. بطرق
مباشرة و غير مباشرة. وصار الشط مستودعا كبيرا لها.
ومن نافلة القول. نذكر أن العمل التخريبي الذي تعرضت له أنابيب
النفط في مدينة بيجي. صباح يوم 18/9/2007 من جراء زرع عبوة ناسفة. تسبب
في تدفق كميات هائلة من النفط إلى نهر دجلة. ومن المؤكد أنها وصلت. أو
ستصل إلى مستقرها النهائي في شط العرب. وهذا غيض من فيض. فالحوادث
البيئية تقع باستمرار. والمتضرر الوحيد هو شط العرب...
أما الفضلات والقاذورات التي ترميها مجازر الماشية في دجلة والفرات
والكارون. فهي كفيلة بقتل قارة بأكملها. وأكثر فتكا وتدميرا من أسلحة
التدمير الشامل..
ولو قمت بجولة نهرية في شط العرب ونظرت إلى مسطحاته المائية. لأصابك
الهلع والذهول من المشاهد التي سترصدها بنفسك. ولاحظت عن كثب بقع
الملوثات النفطية التي خلفتها وراءها الانتهاكات البيئية المتكررة,
ونفايات ملايين المولدات الكهربائية. التي غزت العراق من شماله إلى
جنوبه. تطفو أمامك على سطح الماء. وشاهدت كيف تفرغ مخلفات مصفى عبادان
في عرض الشط. واكتشفت المخالفات البيئية السافرة في وضح النهار. ورأيت
بأم عينك آثار ما أرسلته لنا المدن الكبيرة من ملوثات ونفايات. حملتها
لنا شبكة الأنهار المتصلة في نهاية المطاف بشط العرب الذي تحول إلى
ترسانة هائلة لكل المواد الملوثة..
ولو وقفت في أي مكان على ضفاف الشط لشاهدت ما لم تشاهده عيناك من
قبل. ولا يفوتك أن تتخيل معي كيف ستتفسخ هذه المواد. وكيف ستتحلل تلك
الملوثات. ثم كيف سيدفعها التيار باتجاه محطات تصفية مياه الشرب,
ومصادر الموارد المائية الأخرى. ومن الذي سيستخدم تلك المياه..
لو اطلعت على تفرعات شط العرب كنهر العشار, والرباط , والخندق, وشط
الترك. لوليت منها فرارا, ولملئت منها رعبا.. فهذه التفرعات تعج اليوم
بالقناني البلاستيكية, وأكياس النايلون, والعلب المعدنية الفارغة, وجثث
الحيوانات النافقة, والصفائح المعدنية الممزقة, وإطارات عجلات
السيارات, والوحل الأسود.. أما ألوانها فتتغير بتغير المواسم تبعا
لغلبة المستعمرات الجرثومية. وسيطرتها على بقية المستعمرات الكامنة في
جوف النهر. فتارة ترى المياه صفراء. وتارة أخرى تراها وردية. وأحيانا
تراها بنفسجية, تمشيا مع اللون السائد للجراثيم المتنامية في كنف
الظروف التي وفرتها لها البيئة الفاسدة. ولو أخذت قطرة صغيرة من مياه
تلك التفرعات النهرية وفحصتها تحت المجهر. لرأيت العجب العجاب من أشكال
وأنواع المكروبات والطفيليات, والكائنات المجهرية التي لم تسجل لحد
الآن في سجلات التصنيف البيولوجي العالمي. ولا يمكنك أن تتكهن بالأمراض
الفتاكة التي تخبئها لنا..
أما الروائح الكريهة التي تفوح من الأنهار. فإنها تزكم الأنوف وتبعث
على الغثيان. وستموت من القهر. وينفطر قلبك من مناظر الازبال المكدسة
في الأنهار. وضفافها التي أصبحت ملاذا للجرذان المتمردة حتى على القطط
الكبيرة..
أما مستعمرات الذباب والبعوض فإنها تتخذ من الأنهار مواقع دائمية
لها ( سرقفلية ). وتنطلق منها لشن غاراتها الشرسة على الأسواق والمحال
التجارية والوحدات السكنية. واخالها على أتم الاستعداد للتطوع في نقل
وباء الكوليرا وغيره, وحسب الظروف المؤاتية. ومثل هذه الشبكة النهرية
الداخلية موجودة في كل محافظة. ويتم ترحيلها من هناك إلى مستودع
النفايات الرئيسي في شط العرب. ناهيك عن قنوات البزل المرتبطة بكل
مزارع وبساتين العراق وإقليم خوزستان في إيران. والتي تنتهي هي الأخرى
بشط العرب..
ودعنا نتحدث بلا حرج عن طرق صيد الأسماك النهرية بالمواد الكيماوية
المحظورة, والوسائل المحرمة. وما يحمله لنا النهر من اسماك تشبعت
أجسامها بالمواد السامة والمسرطنة. أو الأسماك التي تشبعت بالمشتقات
النفطية.. ولو قدر لك أن تصطاد سمكة من شط العرب في المنطقة المحصورة
بين (سيحان) و (الواصلية). فانك ستتناول لأول مرة في حياتك سمكة بطعم
البترول المهرب. أو بنكهة بترول مصفى عبادان. أو برائحة البترول الذي
رمته الوحدات السكنية على سطح الماء. ولا فرق هناك في المذاق. فالبترول
هو الطعم المميز الآن لأسماك شط العرب. وهذا يفسر أسباب الهلاكات التي
تتعرض لها يوميا. في حين شهد الشط اختفاء بعض أنواع الأسماك وزوالها.
ولاذ بعضها بالفرار. فتعددت الأسباب والنتيجة واحدة..
أما مخلفات الحروب. وما تركته لنا من حطام السفن المدمرة. ورفات
الزوارق الغارقة. وسرفات المجنزرات المتروكة. وأكداس المقذوفات
والاعتدة العسكرية المغمورة بالماء. والجسور العسكرية المهشمة. وأبدان
السيارات البالية. فما زالت كلها جاثمة في جوف الشط الذي أصبح مقبرتها
الأبدية ولحين قيام الساعة. أو وقوع الفرج بأذن الواحد القهار..
ما أن يرد ذكر الكارثة البيئية التي اجتاحت مياه شط العرب, حتى
تتسابق الدوائر المعنية إلى قذف الاتهامات جزافا بوجه سلطة الموانئ
العراقية. وكأنها هي وحدها, ووحدها فقط , المسئولة عن التخلص من كل
السموم والمواد الكيماوية التي تفرغها قنوات البزل من المزارع
والبساتين في ثلاثة دول.. أو هي المسئولة عن معالجة المواد الكيماوية
التي استعملت في الصيد الجائر.. وتنهال على (الموانئ العراقية) خطابات
اللوم والعتب من كافة المؤسسات المعنية, محملة إياها مسئولية التصدي
لكل الملوثات النفطية مهما كان مصدرها. سواء أكانت من مصفى عبادان. أو
من عمليات التهريب. أو من الأعداد الفلكية للمولدات الكهربائية التي
أصبحت من السلع المنزلية المعمرة في عموم العراق.
وليس لدى المعنيين بالأمر أي مشروع شامل يضمن إنقاذ بيئة شط العرب
من نفايات مجاري المحافظات العراقية, وبعض المدن السورية والإيرانية.
بل ليست هنالك أية معاهدة مبرمة بين هذه الدول, تقضي بوجوب منع ربط
شبكات المجاري بأنهار دجلة والفرات والكارون. وعلى الرغم من ذلك. نجد
أن الموانئ العراقية. أو سفنها. هي المتهم الرئيسي في نظر معظم الدوائر
المعنية. وباتت كل الاتهامات منصبة على زوارقنا المحلية التي توقفت عن
العمل منذ بداية عام 2007 بقرار رسمي مركزي حرمها من حصة الوقود..
أما ميناء المعقل فليس فيه الآن سوى بضعة سفن, ليس لها أي ذنب في
تحمل مسئولية هذه الكارثة البيئية الحقيقية. فالحركة الملاحية في الشط
تكاد تكون متواضعة جدا في الوقت الحاضر, وبالمقارنة مع فترة
السبعينات..
ثم أن الموانئ العراقية غير مسئولة عن هذا الكم الهائل من القوارض
والخنازير البرية التي أصبح شط العرب مرتعا لها. وتصول فيه وتجول على
هواها..
أن شط العرب مسئولية كل الوزارات المعنية, وليس وزارة النقل وحدها..
وانه مسئولية كل المحافظات العراقية, وليس محافظة البصرة وحدها..
ثم أين منظمة برنامج الأمم المتحدة للعناية بالبيئة UNEP. وأين
مزاعمها ؟. وما الذي فعلته لنا من مشاريع لمعالجة تلوث شط العرب منذ
عام 2003 ؟؟؟..
وأين هي برامج منظمة الصحة العالمية ( اليونيسيف ), وأين وعودها في
التصدي لهذه المشكلة ؟؟؟؟.
وما هو دور المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية في الخليج
العربي ROPME ؟. وهي التي كانت تتباكى بالأمس على أطلال شط العرب.
وعلى ما آلت اليه أحواله وظروفه البيئية.
وما الذي فعلته لنا جمعياتنا المحلية الناشئة, والمتخصصة بحماية
البيئة ؟؟؟.
وما سر غياب المنظمة العالمية للاهوار ؟. على الرغم من أن اهوار
جنوب العراق تعد من اكبر اهوار العالم..
أطلق مدير مركز علوم البحار. في جامعة البصرة. سلسلة غير منتهية من
صيحات الاستغاثة, وأرسل عدة نداءات لطلب النجدة على مدى الأعوام
الماضية. ولم يدخر جهدا في سبيل رسم وتوضيح مخاطر تلوث شط العرب بكل
تفاصيلها. وسار العاملون في مديرية بيئة البصرة على النهج ذاته. وما
زالوا يذودون عن قضايا حماية البيئة. ولكن العين بصيرة واليد قصيرة.
ولا يمكن لمؤسسات محافظة البصرة أن تنهض بهذا العبء الثقيل لوحدها. ما
لم تتلقى الدعم والعون والإسناد والمؤازرة من كل الوزارات والمؤسسات
ذات العلاقة..
لقد بات واضحا أن معالجة الكارثة البيئية في شط العرب منوط بكل
الوزارات والمحافظات العراقية. ويفترض أن نرى ونلمس, اليوم قبل غد,
تطبيقات المشاريع والخطط والبرامج الفورية. الكفيلة بالتصدي لهذه
الكارثة.. وان نرى الحلول والمعالجات تجري في كل مقاطع شط العرب على
قدم وساق. وفي القريب العاجل..
وبخلاف ذلك فإننا سنشهد واقع بيئي مأساوي, وفي غاية الخطورة, ويصعب
التكهن بإبعاده ونتائجه. ومن المحتمل ان أبعاده الكارثية ستتعدى حدود
كارثة مفاعل (تشير نوفل). أو مفاعل (بهوبال)... |